أشرف عباس يكتب: دفاعًا عن حرية النشر
تاريخ النشر: 2nd, June 2025 GMT
حين يُواجه صحفي أو مواطن خطر السجن بسبب رأي أو منشور، فإن السؤال لا يجب أن يكون: "ماذا قال؟" بل: "هل تستحق الكلمة القيد؟"، هنا، لا نتحدث عن مضمون ما كُتب أو مدى الاتفاق معه، بل عن وسيلة العقوبة، وتناسبها، ومبدأ دستوري لا يجوز التنازل عنه: لا حبس في قضايا النشر.
هذا المبدأ لم يعُد مجرد مطلب نقابي أو حقوقي، بل أصبح نصًا صريحًا في المادة 71 من الدستور المصري، التي تحظر توقيع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي تُرتكب بطريق النشر أو العلانية، باستثناء ثلاث حالات فقط هي التحريض على العنف، التمييز، والطعن في الأعراض، ويعززه ما التزمت به الدولة المصرية بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يحظر بدوره سلب الحرية بسبب التعبير، إلا في أضيق الحدود.
ومع ذلك، لا تزال هناك أحكام تصدر وتُنفذ في قضايا لا تنطبق عليها هذه الاستثناءات، ما يثير قلقًا مشروعًا بشأن توسع التأويل القانوني، وتحويل الخطأ في التعبير إلى جريمة موجبة للعقوبة الجنائية.
قد يخطئ صحفي في تناول قضية حساسة، أو يسيء مواطن التعبير في منشور، أو يكتب ما يراه دفاعًا عن حق إنساني، فينتهي الأمر إلى تشهير غير مقصود، لكن هل يكون الرد هو السجن؟ وهل الحبس هنا يُحقق رد اعتبار أم يضيف عبئًا جديدًا على المجال العام؟
رفض الحبس لا يعني إعفاء من المسؤولية، بل يُطالب بتطبيقها من خلال أدوات تناسب طبيعة الفعل، فلا أحد فوق القانون، لكن لا يجوز استخدام القانون كأداة لإسكات الرأي أو معاقبة الكلمة، الخطأ في النشر يجب أن يُعالج، لا أن يُقمَع.
ولهذا، فإن العدالة تقتضي تفعيل وسائل محاسبة مدنية ومهنية، مثل: حق الرد، التعويض المدني، الإدانة النقابية، الحجب المؤقت للمحتوى، أو نشر اعتذار بنفس مستوى الانتشار، هذه الوسائل تضمن المحاسبة دون سلب الحرية، وتُراعي التوازن بين حرية التعبير وحقوق الآخرين.
بل إن العقوبة القاسية، حين تُطبّق على فعل رمزي كالنشر، قد تأتي بنتائج عكسية؛ ففي بعض الحالات، يُحوَّل المخطئ إلى ضحية، ويكسب تعاطفًا لا يستحقه، ما يُربك الرأي العام، ويُضعف ثقة الناس في حيادية منظومة العدالة.
فلسفة العقاب في أي نظام عادل تقوم على الإصلاح لا على الانتقام، وعندما تكون وسيلة الفعل هي الكلمة، يجب أن تكون وسيلة الرد عليها في نفس الفضاء، الحبس لا يُصلح الضرر، بل يُولّد الخوف والانكماش، ويهدد المناخ العام للنقاش والإبداع.
ورغم أن الصحفيين يواجهون هذا الخطر بشكل مباشر، فإن القضية لا تخصهم وحدهم؛ فالمواطن، والمعلم، وصانع المحتوى، وأي شخص يكتب على منصة مفتوحة، أصبح مُعرّضًا للمساءلة بقوانين النشر، وأي تضييق هنا لا يُصيب فئة مهنية، بل يطال المجتمع كله.
من الإشكاليات التي تتكرر في هذا السياق، تصاعد نبرة التشفي في الخصوم على حساب النقاش الموضوعي؛ فبدلًا من المطالبة بتطبيق القانون بروح العدالة، تتحول بعض الأصوات إلى استخدام العقوبة كأداة لتصفية الخلافات الفكرية أو الشخصية، حين يُوظَف القانون لتأديب المختلف، لا لتصحيح الخطأ، تتراجع الثقة في العدالة، ويتحوّل العقاب إلى وسيلة إخراس من يتعامل مع هذا النقاش كأنه يتعلق بمكانة الصحفيين أو امتيازاتهم يُخطئ التقدير، نحن لا ندافع عن فئة، بل عن حق عام، وعن حد أدنى من الأمان الفكري في المجال العام، الحبس في قضايا النشر لا يُهدد مهنة، بل يُقوّض الديمقراطية نفسها.
الخطأ في النشر يُحاسب، لكن لا يُسجن، والمساءلة لا تعني العقاب الجنائي، بل الإجراءات المهنية والقانونية التي تضمن الانصاف، لا الردع.
رفض الحبس في قضايا النشر ليس رأيًا سياسيًا، ولا موقفًا عاطفيًا، بل ضرورة قانونية تحترم الدستور، وتُحصّن المجال العام من الخوف والجمود، الكلمة تُجابَه بالكلمة، والخطأ يُرد عليه بالقانون، لا بالقيد.
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: الحقوق المدنية والسياسية الدولة المصرية الدستور المصري منظومة العدالة التحريض على العنف تحريض على العنف الحقوق المدنية دستوري قضايا النشر فوق القانون صانع المحتوى التعويض المدني المناخ العام اشرف عباس فی قضایا
إقرأ أيضاً:
مصر: بلاغ للنائب العام من وزير الصحة ضد نقابة الأطباء بتهمة نشر الاشاعات
حالة من الغضب شملت جميع أعضاء النقابات المهنية بعد واقعة غريبة وغير متوقعة؛ حيث قام نائب رئيس الوزراء للتنمية البشرية ووزير الصحة والسكان بتقديم بلاغ للنائب العام ضد أحد أعضاء مجلس النقابة العامة للأطباء، اتهمه فيه بنشر أخبار كاذبة من شأنها إثارة الفزع والبلبلة داخل المجتمع الطبي، على خلفية تصريحاته خلال ظهوره في أحد البرامج التلفزيونية، والتي تحدّث فيها عن استقالة 12 طبيبا يوميا من وزارة الصحة، وتدنّي رواتب الأطباء حديثي التخرج إلى نحو 6 آلاف جنيه فقط (حوالي 120 دولار شهريا). كما تضمن البلاغ اتهامات له بالتهويل من أزمة الاعتداءات على الأطباء، والتحذير من موجة هجرة جماعية للأطباء بسبب مشروع قانون المسؤولية الطبية في صيغته الأولى، وهي التصريحات التي اعتبرتها الوزارة غير دقيقة وتسيء إلى صورة المنظومة الصحية.
تناول الشأن الصحي عامة ومصالح الأطباء خاصة من صميم المهام النقابية:
نقابة الأطباء هي منظمة مجتمع مدني غير حكومية معنية بشئون أعضائها، ولها حق المشاركة في السياسات والنظم الصحية بصورة عامة. وهذا ما أكد عليه القانون رقم 45 لسنة 1969 الخاص بالمهن الطبية، حيث نص في مادته الثانية على: "تهدف النقابة إلى تحقيق ما يلي: تجنيد طاقات الأطباء ليؤدوا رسالة الطب من أجل حل المشاكل الصحية للشعب بحيث تصبح الرعاية الصحية للشعب وقاية وعلاجا حقا مكفولا لكل مواطن، العمل على نشر ودعم الأفكار والقيم بين الأطباء، والتعبير عن آراء الأطباء في المسائل الاجتماعية والاقتصادية والوطنية، المشاركة مع جميع فئات العاملين في الخدمات الصحية لتنسيق الجهود من أجل رفع كفايتهم وزيادة الإنتاج في الخدمات الصحية.
كما أن الدستور المصري لسنة 2014 قد نصّ صراحة في المادة 76 على أن: "إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطي حق يكفله القانون، وتكون لها الشخصية الاعتبارية، وتمارس نشاطها بحرية، وتسهم في رفع مستوى الكفاءة بين أعضائها والدفاع عن حقوقهم، ويكفل القانون استقلال النقابات والاتحادات، ولا يجوز للسلطات حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائي، وذلك على النحو المبين بالقانون".
وقد قام الدكتور خالد أمين، الأمين العام المساعد للنقابة العامة للأطباء المشكو في حقه، خلال التحقيق بتفنيد جميع الاتهامات الموجهة إليه، مقدّما مستندات رسمية ودراسات موثقة تدعم موقفه وتؤكد صحة تصريحاته. وجاء الرد على الاتهامات بصورة واضحة، حيث تناول موضوع الاستقالات اليومية للأطباء بأن قدم بحثا وكشوفا صادرة عن نقابة الأطباء، تُثبت أن عدد الأطباء الذين قاموا بتسجيل أنفسهم كأطباء حرّ في عام 2024 بلغ بمعدل 12 طبيبا يوميا، كما استند إلى إحصائيات أخرى منشورة سابقا على الصفحة الرسمية للنقابة تؤكد أن عام 2022 شهد أكبر معدل لاستقالات الأطباء من وزارة الصحة. وأوضح أن تصريحاته جاءت في حين صدور النسخة الأولى من قانون المسؤولية الطبية الذي رفضته النقابة، وحالة الغضب التي رصدتها النقابة عند الإعلان عن النسخة الأولى لمشروع القانون، حيث أعلن عدد من رموز المهنة عبر منصات التواصل الاجتماعي عزمهم اعتزال المهنة في حال صدور القانون بصيغته الأولى.
كما استند إلى دراسة مشتركة أُجريت في عام 2020 بين وزارتي الصحة والتعليم العالي -التي كان يترأسها في ذلك الوقت وزير الصحة الحالي د. خالد عبد الغفار- بمشاركة منظمة الصحية العالمية ونقابة الأطباء، أظهرت أن نسبة الأطباء العاملين فعليا في وزارة الصحة لا تتعدى 38 في المئة من إجمالي الأطباء في مصر، بينما يتجه الباقون للسفر أو العمل الخاص، مما يعكس وجود عجز كبير مقارنة بالمعدلات العالمية، حيث المعدل العالمي هو 24 طبيبا لكل 10 آلاف مواطن، في حين يبلغ المعدل المحلي 8.6 طبيب فقط لكل 10 آلاف مواطن. وأوضحت هذه الدراسة أن سبب عزوف الأطباء عن العمل في وزارة الصحة وتقديم استقالاتهم سببه تدني الأجور، وعدم تأمين بيئة العمل.
وأكد الدكتور خالد أمين على أن متوسط رواتب الأطباء حديثي التخرج أو الحاصلين على الماجستير نحو 6 آلاف جنيه شهريا (حوالي 120 دولار)، وهو ما تدعمه شكاوى متعددة وردت للنقابة، وتعهد بتقديم مستندات رسمية (مفردات مرتب) تثبت صحة حديثه. وأشار إلى أن القانون الصادر في عام 2014 بهذا الشأن لم يُنفذ، رغم صدور قرار وزاري في 2023، مؤكّدا أن النقابة ما زالت تعقد اجتماعات مع الوزارة للمطالبة نحو التنفيذ، وأنها خاطبت الوزارة رسميا بهذا الخصوص، وآخر تلك المخاطبات كان في عام 2024 وما زالت المفاوضات مستمرة لتنفيذ القانون.
وقد قررت النيابة العامة إخلاء سبيل عضو مجلس نقابة الأطباء بضمان محل إقامته؛ على أن يقدم المستندات المطوبة، في حين تستمر النيابة في استكمال تحرياتها حول بنود الاتهام.
تهديدات وزارة الصحة لنقابة الأطباء واتهامها بتكدير السلم المجتمعي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة:
سبق وأن تقدمت وزيرة الصحة السابقة د. هالة زايد في شهر شباط/ فبراير عام 2020، ببلاغ رسمي للنائب العام ضد النقابة العامة للأطباء، حيث رصدت الوزارة في بلاغها عدة مخالفات ارتكبتها نقابة الأطباء، من شأنها تكدير الأمن العام باختلاق الأكاذيب وافتعال الأزمات، وإثارة الأطباء، والتسبب في إهدار المال العام. وتضمن البلاغ اتهام النقابة بتعمد ليّ الحقائق والعمل على إفشال جهود الوزارة في الارتقاء بالمستوى التعليمي والمهني للأطباء، من خلال إثارتهم ومحاولة منعهم من التسجيل في برنامج الزمالة المصرية، والتسبب في امتناع نحو نصف دفعة أيلول/ سبتمبر 2019 عن التسجيل. كما تضمن البلاغ اتهاما موجها لنقابة الأطباء بتضليل وتحريض أعضائها على عدم الاستجابة لمناشدة وزارة الصحة للأطباء بالتقدم لتلقي التدريب على كيفية التعامل مع أي حالات محتملة للإصابة بكورونا، والتأثير على بعض المتدربين؛ مما تسبب في تراجع البعض عن الموافقة على الالتحاق بالحجر الصحي المخصص للعائدين من دولة الصين، بعد انتهاء التدريب، وهو ما كان من شأنه إهدار المال العام وضياع مخصصات التدريب هباء.
واتهمت وزارة الصحة نقابة الأطباء، بتعمد تأجيج الرأي العام، وتوجيه التهم لمسؤولي الوزارة بالتسبب في وفاة ثلاث طبيبات وإصابة 14 طبيبة من محافظة المنيا جنوب القاهرة؛ في الحادث الذي وقع على طريق الكريمات خلال توجههم للتدريب في أكاديمية الأميرة فاطمة في القاهرة، إلى جانب اتهام مسؤولي الوزارة بالتعسف الإداري ضد أي طبيبة. وبالتالي فقد كانت هناك أزمة عدم ثقة حقيقية بين الوزارة والنقابة خلال معاناة الأطباء والمجتمع كله من ويلات ومخاطر وباء كورونا؛ لدرجة أنه تم اعتقال أعضاء مجالس نقابة الأطباء في محافظتي القاهرة والشرقية لكشفهم أوجه القصور الحكومي في توفير وسائل منع انتقال العدوى ومستلزمات حماية أعضاء الفريق الطبي.
وبخصوص قانون المسئولية الطبية والذي وردت الإشارة إليه في بلاغ الوزارة الأخير، فإن السبب الذي دفع وزير الصحة لهذا الإجراء العنيف هو الموقف الذي تبناه الوزير تحت قبة البرلمان في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024 الماضي، حيث صاح مهددا بأن الدولة أقوى من النقابة وأقوى من السوشيال ميديا؛ ضاربا عرض الحائط بالتحفظات التي عرضها النقابة حول بعض المواد الجائرة في القانون.
ومن المتوقع اتخاذ إجراءات قانونية مستقبلا ضد أي شكوى من أعضاء النقابات المهنية سواء من الأطباء أو الصحفيين أو الإعلاميين حول تلوث أو فساد مياه الشرب، بعد إصدار قانون يتيح مشاركة القطاع الخاص في إنتاج وتوزيع المياه، ويحظر نشر أية شكوى أو طرح أوجه القصور جماهيريا.
وما زال مجتمع المهنيين يترقب نتيجة تحقيقات النيابة مع عضو مجلس نقابة الأطباء، على أمل أن يأتي القرار متوافقا مع ما يمليه قانون المهن الطبية من واجبات ومهام على النقابة لتأدية دورها المنشود لخدمة أعضائها وصحة المواطنين، وعلى خشية أن يأتي قرار النيابة بإقامة الدعوى الجنائية، حيث يمثل عضو مجلس النقابة أمام المحكمة ممثلا عن ناخبيه من أطباء مصر، في سابقة هي الأولى من نوعها.