غزة- 7 أيام من الركض المحموم، هرول فيها مالك بين مستشفيات قطاع غزة، وطاف على ثلاجات الموتى، يفتّش عن أثرٍ لأخيه المفقود الذي خرج مع حشود المجوّعين نحو منطقة "زيكيم"، حيث شاحنات الطحين ولقمة تحميه من الموت جوعا، لكنه لم يعد.

بعد رحلة البحث المضنية، وقف مالك أمام اختبار صعب يجب أن يخرج منه بخبر يقين، عدد من الجثامين مجهولة الهوية أمام ثلاجات الموتى في مجمع الشفاء الطبي، رفع الغطاء عن الجسد المسجّى أمامه، ففاحت منه رائحة الموت، لا شيء أمامه سوى جثة متحللة مشوهة غيّرها الزمن، فأضحت بلا ملامح.

بدأ مالك بتفقد ما بقي من جثة أخيه، يبحث عن وجهٍ يعرفه، أو يدٍ تشبهه، أو علامة فارقة تنقذه من هذا الشك القاتل، لكن شيئا لم يسعفه سوى الحذاء الممزق العالق في قدميه، فقد فتتت القذيفة الإسرائيلية أعضاءه وأذابت ملامحه.

يقول شقيقه للجزيرة نت "هو الحذاء نفسه الذي كان يلبسه، لكن هل هذا كاف لأقول إنه أخي وأدفنه؟ ماذا لو دفنته ولم يكن هو؟ أو تركته وكان هو؟".

شهداء لبيوت بلا رجال

الحيرة ذاتها عاشتها أسرة في الزاوية المقابلة لهم، لكنها سرعان ما تبددت حين تعرفت على جثمان ابنها من البلاتين المثبت في عظم فخذه، إذ صارت الإصابة القديمة دليل هوية أخيرا.

اقتربنا من والد الشهيد حين كان يغلق كيس جثة ولده يوسف بيدٍ مرتجفة ودموع تتساقط بصمت، وقال "لم يذهب يوسف لإحضار الطحين ليأكل، بل ذهب ليطعم غيره"، قاطعه شقيقه "لا أطفال لديه، خاطر بحياته ليطعم أولاد الشهداء وأراملهم ليقدّمه لبيوت ليس فيها رجال"، يحمل الجثمان على كتفه ويكمل "هذا ليس فقدا شخصيا، هذا فقد لغزة كلها".

يوسف ومالك شهيدان اثنان من بين 15 شهيدا كانوا في عداد المفقودين، انتشلهم الدفاع المدني في غزة من محيط الصالة الذهبية في منطقة "زيكيم" في الشمال الغربي لقطاع غزة، حين كانوا يسعون لتحصيل أكياس من الطحين، فاستهدفتهم قذائف الاحتلال ورصاصه بشكل مباشر.

إعلان

وبحسب تصريح خاص أدلى به المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل للجزيرة نت، فإن أكثر من 20 جثمانا لا تزال في المكان ولم تنتشل بعد. وأضاف بصل "تردنا يوميا عشرات البلاغات والمناشدات من أهالٍ أبلغوا عن اختفاء أبنائهم أثناء محاولاتهم الوصول إلى المساعدات ولم يعودوا حتى اليوم".

وعن سبب تأخر انتشال الجثث، أوضح بصل أن تلك المناطق تُعتبر متقدمة ميدانيا، وخاضعة لنيران الاحتلال، وذلك ما يجعل الوصول إليها صعبا ويحتاج إلى تنسيق مع جهات متعددة".

عائلة الشهيد زاهر جندية بقوا جوعى بعد أن قتلته قوات الاحتلال أثناء توجهه لجلب الطحين (الجزيرة) إرث أطفال جائعين

في طريق الموت لا يتوقف العدّ حيث سقط منذ بدء دخول المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم وممر زيكيم حتى إعداد هذا التقرير أكثر من 435 شهيدا، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، كما أصيب أكثر من 3250 آخرين، ولا يزال العشرات في عداد المفقودين.

وتحت مقصلة الجوع، خسر أبو سامر جندية اثنين من أبنائه، سقطا في فترتين متباعدتين على الطريق نفسه، وهما يحاولان جلب كيس طحين يسندهم ويسند أطفالهم.

التقت الجزيرة نت عائلة ابنه الشهيد زاهر في خيمة صغيرة بمخيم النزوح غرب غزة، وقال الأب "حاولت منعهما وقلت لهما: لا نريد طعاما إذا كان ثمنه الروح، لكن زاهر قال لي: يابا مش قادر أشوفهم هيك".

يتابع الأب "لم يكن زاهر يحمل سلاحا، إنه أب حمل نية صادقة أن يُشبع أطفاله الخمسة. خرج مساء الجمعة، وعاد الأحد محمولا على الأكتاف، برصاصة في الرأس".

أما زوجته فتجلس وحولها 5 أيتام، تواري دمعها وتقول "بحثنا عن تكايا طعام لكننا لم نجد، وحين لم نأكل لمدة 3 أيام، وبينما كان من المفترض أن يعود حاملا كيسا من الطحين على كتفه، عاد محمولا على أكتاف الناس، تاركا لي 5 من الأطفال جائعين".

كان زاهر يعاني إصابات سابقة في كليته وطحاله وقدمه، لكنه أصرّ على الخروج رغم الألم والجوع "كان يقول لي كيف يمكن أن أحتمل نومهم وهم جوعى؟"، أما ابنته الكبرى انتصار فتقول "ذهب بابا للموت بقدميه، ليحضر لنا الطحين، قلنا له: لا نريد طعاما، خرج على قدميه وعاد لنا شهيدا ممددا على ظهره".

الطفلة انتصار جندية (يسار) تبكي والدها الذي خرج لجلب الطحين لهم وعاد محمولا على الأكتاف (الجزيرة) طريق الجوع والفقد

سلك زاهر الطريق ذاته الذي سلكه شقيقه سامر قبل أشهر، لم يمنعه الخوف من أن يلقى المصير نفسه، ولم تثنه ذكرى فقد أخيه عن خوض الرحلة ذاتها، نحو نقطة توزيع قد تفضي إلى لقمة أو إلى نهاية.

ورغم تكرار فواجع الفقد، لا تزال عشرات الآلاف من الحشود تتجمع يوميا تحت شمس غزة الحارقة، عند بوابات الموت، يحدوها الأمل أن تنجو بلقمة أو أن تنال شرف المحاولة.

تجوّلت الجزيرة نت وسط الحشود في منطقة زيكيم، وحاورت عددا من الرجال الذين اختاروا أن يخاطروا بأرواحهم من أجل لقمة العيش، يقول أبو وائل بصوت ملتحم بالغضب واليأس "نرى الشباب يقنصون أمام أعيننا، لكن لولا الحاجة لما خاطرنا بأرواحنا، يبدو الموت أسهل من حياة العجز التي نحياها أمام أطفالنا الجوعى".

يقول محمد "منذ شهرين لم نتذوق خبزا كالذي يأكله البشر، أنا أعيل 12 فردا ولا طريقة لإطعامهم سوى أن تقذف بروحك نحو الموت مهما كان المصير".

يقاطعه أحد المارة وقد عاد خالي الوفاض "إن لم تكن قويا وسريعا فلن تستطيع جني شيء، هذه طرق ظالمة للتوزيع، لا ينال منها كهل ولا امرأة ولا رجل ضعيف".

إعلان

أما أم خليل فأخذت تطوف بين الحشود تبحث عن وجه ابنها الذي خرج من دون علمها لجلب الطحين، تبكي وتصرخ وهي تهرول "يا رب يكون ابني عايش، هذا سندي وظهري، يا الله يا الله!".

وبينما يحمل أحدهم على كتفيه كيسا من الدقيق، عائدا كمحارب ظفر بغنيمته بعد معركة قاسية، يبتسم كالمنتصر، ويقول "انتزعته من بين أنياب الموت، اليوم عيد اليوم عيد، قادم لك يا أمي".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

الصلاة على الطالب محمد القاسم بعد صلاة الجمعة بالمسجد الحرام

نعت عائلة الطالب المغدور محمد بن يوسف بن عبد العزيز القاسم، نجلها، وأعلنت الصلاة عليه يوم الجمعة القادم في المسجد الحرام.

وأضافت «بقلوب مؤمنة وراضية بقضاء الله وقدره، ننعى فقيدنا الغالي ابننا الشاب محمد بن يوسف بن عبد العزيز القاسم الذي وافته المنية إثر اعتداء آثم».

وسيصلى عليه بعد صلاة الجمعة 8 اغسطس الموافق 14 صفر 1447 بمشيئة الله في المسجد الحرام بمكة المكرمة والدفن في مقبرة الشهداء بضاحية في الشرايع.

ومثل «تشاز كوريجان» المتهم بقتل الطالب السعودي محمد القاسم، اليوم الأربعاء، أمام محكمة كامبريدج بعدما وجهت إليه تهمة القتل وحيازة سكين في مكان عام.

والمتهم بريطاني الجنسية من أصول أيرلندية من سكان مدينة كامبريدج، ووجهت المحكمة إلى المتهم تهمة «حيازة السلاح الأبيض، واستخدامه في جريمة القتل العمد»، بينما نفى المتهم عن نفسه ارتكاب جريمة القتل، زاعما أنه كان يدافع عن نفسه، بينما رفضت المحكمة خروجه بكفالة.

كانت سفارة المملكة في بريطانيا، أكدت أنها تتابع واقعة الاعتداء على الطالب السعودي جنوب مدينة كامبريدج البريطانية، والتي أدت إلى وفاته، وأشارت إلى أنها تواصل التنسيق مع الجهات البريطانية المختصة؛ للكشف عن ملابسات الحادث الأليم، تمهيداً لاستكمال إجراءات نقل جثمان الفقيد إلى المملكة، وعقدت محكمة كامبريدج، اليوم الأربعاء، جلسة استماع أولية في قضية مقتل الطالب السعودي محمد القاسم».

وقدَّم وزير الحج والعمرة توفيق الربيعة تعازيه إلى أُسرة الشاب محمد القاسم، وقال عبر منصة (إكس): «رحل محمد القاسم وبقيت سيرته العطرة، شابٌ سعودي شهم، كريم الخلق، مشهودٌ له ببرّ والديه، وتطوّعه في خدمة ضيوف الرحمن؛ بالحرم المكي الشريف»، متابعا: «خالص التعازي والمواساة لأهله وذويه، رحمه الله وغفر له، وتجاوز عنه، وأسكنه فسيح جناته».

المسجد الحرامأخبار السعوديةمحمد القاسمآخر أخبار السعوديةقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • سيف زاهر يكشف سر اختفاء الرقم 25 من الزمالك بعد رحيل زيزو
  • عائلات الأسرى الإسرائيليين: احتلال غزة سيعرض أبنائنا لمزيد من القتل
  • زعيتر: لسنا ضد ملاحقة المطلوبين لكن نرفض القتل الميداني بالطائرات
  • تنفيذ حُكم القتل تعزيرًا في أفغاني لتهريبه الهيروين إلى المملكة
  • موعد مشاركة البرازيلي خوان ألفينا لأول مرة مع الزمالك
  • موعد وصول لاعب الزمالك البرازيلي الجديد للمشاركة في تدريبات الفريق
  • جدل بشأن مقابلة بالذكاء الاصطناعي لأحد ضحايا القتل الجماعي في الولايات المتحدة
  • الصلاة على الطالب محمد القاسم بعد صلاة الجمعة بالمسجد الحرام
  • أقذر جيش في العالم
  • في غزة.. الطحين ذهب أبيض و15 كيلومترًا تحت النار من أجل رغيف خبز