لندن- يخوض الأوروبيون بحثا شاقا عن البدائل منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض حيث لم يتردد بالتهديد بنهج سياسة أكثر انعزالا تجاه الحلفاء، سعيا لتحويل العلاقة المتوترة مع واشنطن في أكثر من ملف إلى محرك لاستعادة زمام المبادرة الاقتصادية وتولي دفة القيادة الدفاعية.

فبعد أن انتهت قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" الأخيرة في لاهاي بالرضوخ للضغط الأميركي برفع سقف إنفاق الحلفاء الأوروبيين الدفاعي إلى 5% من ناتجهم الداخلي الخام، يسعى الأوروبيون -بعد أن هدأت مخاوفهم نسبيا من انسحاب أميركي مفاجئ من الحلف- إلى نقل عبء قيادة الحلف إلى أوروبا.

الأوروبيون يفكرون في كيفية سد الثغرات والفجوات الحرجة في منظومتهم الدفاعية بعيدا عن الناتو (رويترز) التزام أميركي مشروط

تعهد الرئيس الأميركي بالتمسك بالشراكة في حلف الناتو وعدم فك الارتباط الأمني بين ضفتي الأطلسي، في الوقت الذي أصرعلى الظهور بمظهر المنتصر القادر على إرغام الأوروبيين على إنفاق المزيد من الأموال لتحمل أعباء توفير الحماية لأنفسهم.

أما الأمين العام لحلف الناتو مارك روته، فقد حاول خلال تصريحاته في القمة التأكيد على أن الضغط الأميركي شكل قوة دافعة حاسمة ساهمت في اتخاذ الأوروبيين خطوة طالما ترددوا في الإقدام عليها على مدار سنوات.

وتخلص صحيفة بوليتيكو إلى أن الأمين العام للناتو نجح في "فك شفرة" الرئيس الأميركي، وتمكن من تأمين قمة ناجحة خالية من المفاجآت، عبر كيله المديح لترامب، في وقت أصر على تلافي طرح الأسئلة الصعبة بشأن طرق تمويل ميزانيات الدفاع الأوروبية.

ويرى رافائيل لوست الخبير في شؤون الدفاع بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية -في حديث للجزيرة نت- أن رفع الإنفاق الدفاعي ليس قرارا أميركيا بحتا بل هو توجّه بدأت الدول الأوروبية تدرك أهميته منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث انخرط الحلفاء بالفعل، خلال القمم الثلاث الأخيرة لحلف الناتو في مدريد وفيلينيوس وواشنطن، في إعداد خطط دفاعية أكثر تفصيلا وواقعية.

إعلان

ويضيف الخبير البريطاني أن الأوروبيين فقدوا كثيرا من ثقتهم بالحليف الأميركي الذي يبدو منشغلا بشكل متزايد بإدارة أزمات في مناطق أخرى من العالم، كمنطقة الشرق الأوسط والمحيطين الهادي والهندي، بعيدا عن مظلة الحلف.

وفي المقابل، تؤكد مارتا موتشنيك -الباحثة الأولى بشؤون الاتحاد الأوروبي لدى "مجموعة الأزمات الدولية" في بروكسل- أن النجاح في إدارة العلاقة المعقدة مع الرئيس الأميركي لا يعفي الأوروبيين من الحاجة للتفكير الجاد في كيفية سد الثغرات والفجوات الحرجة في منظومتهم الدفاعية.

وترى الخبيرة في السياسات الأوروبية -في حديثها للجزيرة نت- أن التزام واشنطن الحالي بالحلف لا يمكن اعتباره مضمونا في المستقبل، إذ قد تتجه الولايات المتحدة إلى خفض وجودها العسكري بأوروبا، في وقت تحتاج فيه القارة إلى دعم عسكري مستدام لمواجهة تحديات أمنية متصاعدة.

وفي مقال مشترك للخبيرين على صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، ألمح كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتس إلى أن بلديهما يعملان بشكل مشترك على استقلالية المنظومة الدفاعية الأوروبية وجعلها قادرة على العمل في إطار حلف الناتو كإطار مرجعي للدفاع عن الأمن الأوروبي.

بحث عن البدائل

بدأت فرنسا وبريطانيا -منذ عودة ترامب للبيت الأبيض- بالدفع نحو تشكيل "تحالف الراغبين" كآلية دفاعية عسكرية توفر للأوكرانيين الضمانات الأمنية التي يرفض الأميركيون تقديمها حال التوقيع على أي اتفاق سلام في كييف.

وجاء ذلك على خلفية تراجع حماسة الأميركيين في عهد الإدارة الحالية عن دعم كييف، إذ يتجنب ترامب تأييد أي خطوات تصعيدية قد تؤثر على تقاربه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على الرغم من لقائه خلال قمة الناتو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وعدم اعتراضه على وصف بيان القمة لروسيا بـ"التهديد العابر لضفتي الأطلسي".

ويرى رافيئل لوست الخبير في الشؤون الدفاعية أن قمة الناتو في لاهاي أضفت طابعا أوروبيا للحلف، وأطلقت حوارا مهما لإعادة توزيع الأدوار والأعباء داخله، بما ينسجم مع التوجه الأوروبي.

لكن شاشانك جوشي محرر الشؤون الدفاعية بصحيفة إيكونوميست البريطانية أصر -خلال حديثه للجزيرة نت- على أن الأوروبيين بحاجة لامتلاك رؤية وخطط واضحة لطبيعة القدرات العسكرية الأميركية التي يستطيعون التخلي عنها أو استبدالها، ووضع جدول زمني محدد لبدء تلك المرحلة الانتقالية.

وفي هذا السياق، يحاول الأوروبيون والبريطانيون إيجاد إطار بديل لمظلة "الناتو" لبناء تعاون دفاعي يُمكنهم من حماية الأمن القومي الأوروبي بشكل مستقل.

فمنذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفر حلف الناتو إطارا حافظ على التنسيق العسكري بين الجانبين، في وقت تخففت فيه لندن من التزاماتها بسياسات الدفاع والأمن المشتركة للاتحاد بعد توقيع اتفاق "بريكست".

ووقع الاتحاد الأوروبي وبريطانيا قبل أسابيع -في قمة تعد الأولى من نوعها منذ خروج الأخيرة من الاتحاد- اتفاقا دفاعيا يمكن لندن من المشاركة في صندوق الصناعات الدفاعية الأوروبية البالغ قيمته 150 مليار يورو، ويمنح الشركات البريطانية فرصة الانخراط في مشاريع إعادة تأهيل البنية التحتية العسكرية الأوروبية.

سياسة ترامب (يسار) مع شركاؤه الأوروبيين بحلف الناتو دفعتهم للتفكير في بدائل لضمان أمنهم (الأوروبية) الشراكة الصعبة

تشير صحيفة غارديان البريطانية أن الطموح الدفاعي الأوروبي سيتطلب أيضًا التزاما سياسيا طويل الأمد، وهو ما يواجه تحديا حقيقيا مع الصعود اللافت لليمين الشعبوي في عدد من الدول الأوروبية والذي يتبنى سياسات أكثر انعزالية.

إعلان

وفي الوقت الذي أبدت إسبانيا معارضة صريحة لخطة زيادة الإنفاق الدفاعي لـ5% من ناتجها المحلي، وبدت وكأنها صوت معزول داخل الحلف، لم توار دول أخرى مخاوفها من عدم قدرة ميزانياتها المثقلة بأعباء كثيرة على تلبية أسقف الإنفاق المرتفعة التي فرضها الرئيس الأميركي.

وبدوره هدد الرئيس الأميركي بإجبار إسبانيا على الرضوخ للقرار عبر بدء مفاوضات معها، في وقت يخوض مسؤولو إدارته مباحثات مكثفة وصعبة مع الاتحاد الأوروبي بشأن تخفيف الرسوم الجمركية الأميركية التي قد تصل حد 50% على الصادرات الأوروبية إلى الأسواق الأميركية.

وأعرب الرئيس الفرنسي عن أمله في أن يستثني ترامب الحلفاء الأوروبيين في حربه التجارية التي أطلقها، مشيرا إلى أن زيادة الانفاق الدفاعي لا يمكن أن تتحقق دون رفع القيود الجمركية الأميركية.

ويرى نايك تويني الباحث في السياسات الأمنية بالمركز الأوروبي للسياسات الخارجية -في حديثه للجزيرة نت- أن رفع الإنفاق العسكري لمستوى غير مسبوق ليس بالضرورة الحل الأمثل لردع أي تهديد للأمن الأوروبي، إذ تبرز خشية حقيقية من أن تؤدي الزيادة لتعقيد عمليات إعادة الهيكلة والتأهيل للقدرات العسكرية الأوروبية، وتضع الأوروبيين تحت ضغط مأزق التمويل.

ورغم حرص الحلفاء الأوروبيون على ضمان التزام واشنطن بحلف الناتو، حذرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين من صعوبة التوصل إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، ودعت إلى تأسيس إطار بديل عن منظمة التجارة العالمية لتسهيل التبادل الحر مع الدول الراغبة، من دون أن تشير صراحة إلى واشنطن.

ولاء بريطاني

في المقابل، اختار رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر قمة حلف الناتو منصة للإعلان عن اقتناء بلاده 12 طائرة مقاتلة من طراز "إف 35" الأميركية القادرة على حمل رؤوس نووية جوا، في وقت تواصل فيه لندن إعادة هيكلة ترسانتها من الغواصات النووية بشراكة وثيقة مع واشنطن.

وفي حين يتجه الرئيس الفرنسي إلى طرح ترسانته النووية مظلة ردع أوروبية مستقلة عن الهيمنة الأميركية، لتوفير الحماية النووية للقارة، يتجنب ستارمر اتخاذ أي مواقف قد تفسر على أنها تحدٍ للتوجهات الأميركية مؤكدًا التزامه بسياسة "عدم التفضيل بين الشركاء".

ويشير الخبير بالشؤون الدفاعية روست -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن بريطانيا كانت تملك فرصة حقيقية لتوسيع تعاونها النووي مع فرنسا، وتكييف ترسانتي البلدين معًا لتلبية الحاجة الأوروبية لردع مستقل "لكن يبدو أن البريطانيين غير متحمسين لذلك المسار، ويجدون صعوبة في فك ارتباطهم النووي المزمن بالولايات المتحدة".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الاتحاد الأوروبی الرئیس الأمیرکی للجزیرة نت حلف الناتو إلى أن فی وقت

إقرأ أيضاً:

"الناتو" يعين الفرنسي سيباستيان لوبرس رئيسًا لمجلس المراجعين الدوليين لمدة عامين

أعلن مجلس حلف شمال الأطلسي (الناتو)، اليوم الخميس، تعيين الفرنسي سيباستيان لوبرس رئيساً لمجلس المراجعين الدوليين لحلف شمال الأطلسي (IBAN) لمدة عامين اعتباراً من الأول من أغسطس الجاري.


ويعد لوبرس، المولود عام 1973 في نوميا، كاليدونيا الجديدة (فرنسا)، شخصية بارزة في مجالات الإدارة العامة والعمليات الدفاعية والتدقيق الدولي.

والتحق لوبرس بوزارة الدفاع الفرنسية بين عامي 1999 و2016 بعد إكمال دراساته الأكاديمية في الإدارة العامة والعلوم الاقتصادية والاجتماعية، حيث تولى مسؤوليات متزايدة شملت التدقيق والرقابة الداخلية والإدارة العامة والمشتريات الحكومية والمالية واللوجستيات، إلى جانب مهام خارجية لدعم العمليات الخارجية.

وبدأ لوبرس مسيرته المهنية نائباً لرئيس البنية التحتية في قاعدة سولنزرا الجوية 126 في جزيرة كورسيكا، المخصصة للتدريب التكتيكي ونشر طائرات (الناتو)، قبل أن يتولى رئاسة الدعم الإداري والمالي واللوجستي في قاعدة روكبيرون-كاب-مارتن الجوية 943 لمدة أربع سنوات. وخلال تلك الفترة، ساهم في مبادرات استراتيجية لتجميع خدمات الدعم، وشارك في عمليات وطنية كبرى مثل خطة مكافحة التلوث البحري، ومكافحة حرائق الغابات والإغاثة من الكوارث وتعزيز الأمن في مطار نيس الدولي، إضافة إلى المشاركة في تدريبات واسعة النطاق داخل فرنسا وخارجها.

وخدم لوبرس في الإدارة المركزية لمفوضية القوات الجوية بباريس، حيث جمع بين مهام الضابط الإداري والمشاركات الميدانية في أفغانستان وطاجيكستان ولبنان والهند، وقاد فرقاً إدارية ومالية ولوجستية في بيئات متعددة الجنسيات، مبرزاً قدرة عالية على التكيف والقيادة.

وفي عام 2016، عين لوبرس قاضياً مالياً في "مجلس المحاسبة" الفرنسي، حيث أجرى تدقيقات أداء ومالية وقضائية في قطاعات حيوية مثل البيئة والزراعة والطاقة والنقل. ومن 2018 إلى 2023، شغل لوبرس منصب نائب مدير إدارة العلاقات الدولية والتدقيق الخارجي والفرنكوفونية، وتولى مرتين مهام المدير بالإنابة، منسق مبادرات تعاون ثنائية ومتعددة الأطراف مع منظمات دولية بارزة، وداعماً لتنفيذ أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، ومشرفاً على مشروعات ممولة من جهات مانحة متعددة.

ويحمل لوبرس عدداً من الشهادات المهنية الدولية المرموقة، ومنها مدقق داخلي معتمد، ومدقق مهني معتمد للحكومات، وخبير معتمد في مكافحة الاحتيال، ومتخصص معتمد في الجرائم المالية. وتجمع خبرته الواسعة بين التدقيق الداخلي والخارجي، والمعرفة الميدانية والقيادة الإدارية، مما يضمن استمرار عمل مجلس المراجعين الدوليين للناتو وفق أعلى معايير الاحترافية والشفافية والحكم الرشيد.

مقالات مشابهة

  • "الناتو" يعين الفرنسي سيباستيان لوبرس رئيسًا لمجلس المراجعين الدوليين لمدة عامين
  • برشلونة يبحث عن إضافة الصلابة الدفاعية إلى قوته الهجومية
  • ترامب يبدي استعدادًا لتقديم ضمانات أمنية مشروطة لأوكرانيا خارج الناتو
  • إيطاليا.. غرق 20 مهاجراً والبحث جارٍ عن مفقودين
  • بدائل شهادات الـ27% في البنوك| تفاصيل العوائد وخيارات الاستثمار الآمن.. واقتصادي يوضح مميزاتها
  • لعبة القوى العظمى في جمعة الملك ترمب والقيصر بوتين
  • مصدر لـCNN: تدخل مبعوث ترامب في المفاوضات حول أوكرانيا أصاب المسؤولين الأوروبيين بـالحيرة والقلق
  • بسبب غزة.. تمرّد داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي
  • "محادثات ألاسكا" بين تفاؤل ترامب ومخاوف أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين
  • خبراء إسرائيليون يقترحون بدائل أقل ضررا من خيار احتلال غزة