أعلام آل البيت في اليمن .. دروس في القيادة والأخلاق في الماضي والمستقبل
تاريخ النشر: 2nd, July 2025 GMT
لطالما شكّل اليمن فضاءً خصبًا لتفاعل القيم الإسلامية مع الموروث الاجتماعي العريق، وكان في قلب هذا التفاعل حضورٌ مميز لأعلام آل البيت، الذين مثّلوا في وجدان اليمنيين ليس فقط رموزًا دينية، بل نماذج عملية للقيادة الرشيدة، والعدالة، والزهد، والتواضع ، بدأت علاقة اليمنيين بآل البيت منذ صدر الإسلام، حيث دخل أهل اليمن في الإسلام طواعية، وكان لهم دور مبكر في مناصرة الرسالة المحمدية، وتوطيد أركان الدولة الإسلامية، ومع تعاقب القرون، وجد عدد من أعلام آل البيت في اليمن أرضًا حاضنة، لجأوا إليها حين اشتدّ الظلم في الحواضر الإسلامية، أو قصدوا أهلها لهداية الناس وتعليمهم.
فاستقبلهم اليمنيون بالولاء والاحترام، واحتضنوا فكرهم، وتأثروا بنهجهم في السياسة والأخلاق والإصلاح.
يمانيون / تقرير/ طارق الحمامي
علاقة متجذرة ومصدر إلهام دائم
ينطلق هذا التقرير من هذه العلاقة المتجذّرة ليستعرض الدروس التي تعلّمها اليمنيون من أعلام آل البيت عبر التاريخ، خصوصًا في مجال القيادة والأخلاق. ويهدف إلى تقديم قراءة تحليلية متسلسلة، تجمع بين الرواية التاريخية، والتحليل الثقافي، والاستشهاد بالتجارب السياسية والاجتماعية التي خاضها اليمن تحت قيادة أئمة من آل البيت، خاصة في ظل الدولة الزيدية التي امتدت قرونًا طويلة.
يُعد استحضار النماذج القيادية الأخلاقية من التاريخ ضرورة ملحة. إن سيرة أعلام آل البيت تمثل مرآة للقيادة النزيهة، ومصدرًا لإعادة بناء الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتذكيرًا بأن السياسة يمكن أن تكون خادمة للأخلاق لا متجاوزة لها.
قدوم آل البيت إلى اليمن .. علاقة تاريخية متجذرةبدأت العلاقة منذ البعثة النبوية، عندما أرسل النبي محمد صلوات الله عليه وآله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى اليمن، وتعمّقت هذه العلاقة لاحقًا مع قدوم الإمام الهادي يحيى بن الحسين إلى صعدة عام 284 هـ، والذي أسس دعائم الإمامة الزيدية في اليمن، جامعًا بين العلم والقيادة، وممهّدًا لعلاقة متجذرة بين اليمنيين وآل البيت.
ووجد أئمة آل البيت في اليمن بيئةً مرحبة تتعطش للعدل والقيادة الراشدة، فقد آمن اليمنيون بمشروعهم القائم على نصرة المستضعفين، ومقاومة الظلم، وتقديم نموذج مغاير للحكم المتسلط في بعض العواصم الإسلامية آنذاك.
القيادة عند أعلام آل البيت – النموذج والممارسةلم تكن القيادة عند آل البيت مجرد حكم سياسي، بل قدوة روحية وأخلاقية، وكان من شروط الإمامة : العلم، العدالة، الجهاد، الزهد، والخروج على الظالم، فكان الأئمة مثل الإمام الهادي والقاسم بن محمد لا يعيشون في قصور، بل يشاركون الناس في معيشتهم، ويقضون بين الناس بأنفسهم.
جعل أئمة آل البيت من العدالة ركيزةً أساسية في الحكم، يُعامل فيها الجميع سواسية، ولم تكن هناك امتيازات للأقارب أو المحيطين، بل كانت السلطة أداة لإقامة الحق، لا وسيلة للهيمنة أو الاستئثار.
تميز الفكر الزيدي بالشورى، فقد كانت المجالس الفقهية والعلمية منابر حقيقية للنقاش حول الشأن العام، وكان الإمام يُحاور العلماء والمصلحين، ويأخذ بالرأي الأرجح، مما عزز ثقافة المشاركة واتساع الرأي.
الأخلاق كقاعدة للحكم والمعاملةارتبطت قيادة آل البيت في الوجدان اليمني بالصدق، لا بالتزييف السياسي ، فلم تكن خطب الأئمة حشدًا شعبيًا، بل دعوات إصلاحية صادقة، تنبع من المسؤولية الشرعية قبل أن تكون طموحًا سلطويًا، وتميزت فترات الحكم الزيدي بمستوى من التسامح مع الطوائف الأخرى، خاصة الشافعية، وكان هذا انعكاسًا للفكرالأخلاقي لأعلام آل البيت، الرافض للتكفير والعنف المذهبي ، كما برزت مواقف إنسانية عظيمة لأئمة آل البيت في اليمن، مثل الإنفاق على المحتاجين من أموالهم الخاصة، والوقوف مع المستضعفين ، ومشاركتهم في أعمال الزراعة أو البناء، في مشاهد ترسّخت في الذاكرة الجمعية.
التأثير الثقافي والتربوي المستمرأسس أعلام آل البيت مدارس ومجالس علمية شكلت مرجعيات للفكر والفقه والتفسير، كـ “المدرسة العلمية في صعدة”، و”الجامع الكبير بصنعاء”. ونُقل عن الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة قوله: “إننا نعدّ العالم أحق بالإمامة من الحاكم الجاهل” ، كما أثّر حضور آل البيت في الشعر اليمني تأثيرًا بالغًا، فامتلأت القصائد بمديح أخلاقهم وعدلهم، ونُسجت فيهم الخطب التي تحفز الناس على الصبر، وطلب العلم، والارتقاء بالأخلاق، ولا يزال المجتمع اليمني، يستحضر سير أعلام آل البيت في المجالس والمناسبات، ويدرّس فكرهم في المدارس الدينية، ما يعكس امتداد هذا الإرث الروحي في الوجدان الشعبي حتى اليوم.
السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي .. امتداد لقيادة الرُشد ونموذج من آل البيتفي سياق الامتداد التاريخي لقيادة أعلام آل البيت، يبرز اليوم السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي كأحد الرموز البارزة في تجسيد مبادئ الرشد والقيادة الأخلاقية في واقعٍ يموج بالتحديات السياسية والعدوان الخارجي ، ويُنظر إليه من قِبل اليمنيين، باعتباره امتدادًا حيًّا لنهج آل البيت في القيادة المسؤولة والمقاومة الصادقة.
فمنذ بداية تحركه، حرص السيد القائد على أن يكون المشروع القرآني الذي يقوده مشروعًا قيميًا، يقوم على أساس التحرر من التبعية، ورفض الهيمنة الخارجية، والدفاع عن كرامة الإنسان اليمني، وهو ما يتسق مع نهج أئمة آل البيت الذين جعلوا من التحرر من الظلم والفساد شرطًا أساسيًا للقيادة ، وتميزت خطاباته حفظه الله بأنها خطابات قيمية ومبدئية، بعيدة عن الخطاب الشعبوي أو الدعائي، إذ يدعو في مجمل كلماته إلى الصبر، والتقوى، والصلاح، والعمل الجاد، واحترام الإنسان، والتمسك بالهوية الإيمانية، ما يعكس حرصًا على إعادة بناء الإنسان قبل أي حسابات سياسية ، كما اتّسمت قيادة السيد القائد بروح المسؤولية والارتباط بالشعب، في وقت يتراجع فيه كثير من القادة إلى مناطق الحماية والترف، يظهر السيد القائد في كل خطاباته قريبًا من معاناة الناس، مشيرًا إلى ضرورة التكاتف، والتكافل، وتحمل المسؤولية الجماعية، مقتفيًا أثر أئمة آل البيت في تبني هموم الناس ومصالحهم العامة ، وفي الجانب السيادي، يقود السيد القائد حفظه الله ، مشروعًا مقاومًا ضد العدوان والحصار، مدافعًا عن استقلال القرار اليمني، وكرامة الأرض والشعب. وهو ما يجعل من حركته امتدادًا عمليًا لتلك الحركات التي قادها أئمة آل البيت قديمًا، حين واجهوا قوى الجور والانحراف، ورفعوا راية المقاومة ، ومن أبرز مرتكزات فكر السيد القائد تركيزه على “الهوية الإيمانية”، كجامع وطني وثقافي يعيد توحيد اليمنيين على أساس الدين والقيم، لا المناطق والمذاهب. وهذا التوجه يُعيدنا إلى مرحلة التأسيس الأولى للإمامة الزيدية في اليمن، التي قامت على أساس القرآن كمصدر مرجعي جامع، والعقل كأداة لفهم الدين والتفاعل مع الحياة.
الخاتمة .. قدوة الماضي والمستقبللقد قدم أعلام آل البيت لليمن أنموذجًا راشدًا في القيادة، كان محوره الأخلاق، وعماده العلم، وهدفه إقامة الحق. واليوم، يجد كثير من اليمنيين في السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي امتدادًا لهذه المدرسة، ليس فقط في نسبه الشريف، بل في نهجه الرافض للظلم، وحرصه على بناء الإنسان والمجتمع وفق قيم الإسلام الأصيل.
وفي زمن التحولات، حيث تُصنع القيادات غالبًا في أروقة المصالح والمساومات، تظلّ قيادة الرشد التي يمثلها أعلام آل البيت، والسيد القائد في مقدمتهم اليوم، بمثابة نبراس يهتدي به الساعون نحو التغيير الحقيقي والنهضة المستقلة.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: السید القائد امتداد ا
إقرأ أيضاً:
دروس من كربلاء
جابر حسين العُماني **
jaber.alomani14@gmail.com
تعد كربلاء من أهم المدن التي ذكرها التاريخ الإسلامي؛ إذ إنها ليست مجرد مدينة عادية رسمت على الخارطة العالمية؛ بل هي من أبرز المعالم الخالدة التي ارتبط اسمها بأعظم فاجعة في التاريخ، وذلك عندما قُتل على أرضها سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وريحانته من الدنيا الإمام الحسين ومعه أهل بيته وأصحابه. واقعة تعد من أهم الوقائع التاريخية التي وقعت في التاريخ؛ يوم العاشر من شهر محرم الحرام سنة 61 للهجرة، والتي فيها تجسد الحق وزهق الباطل.
في واقعة الطف تمثل صوت الحق في شخص الإمام الحسين بن علي، بينما تمثل صوت الباطل في أعداء الله ورسوله، فأصبحت كربلاء رمزًا للحق والتضحية والعدل، والإلهام والإصلاح، بل واستطاعت عبر العصور المتعاقبة أن تقدم للأمة دروسًا عظيمة تستحق أن تدرس في مدارس وجامعات الأمة العربية والإسلامية.
فيا ترى ما أهم تلك الدروس المستفادة من واقعة كربلاء، والتي ينبغي الاستفادة منها وعدم تجاهلها؟
الدرس الأول: الانتصار ليس مرهونا بالكثرة العددية
وهو ما تجسد في ملحمة كربلاء الخالدة، ويتبين ذلك جليا للباحثين والمتأملين الذين يقرأون الحقائق بعين الإنصاف، فالحسين وقف في واقعة الطف مع قلة قليلة من المؤمنين الأشاوس من أنصاره الذين قدموا له من أجل الدفاع عن الإسلام كل ما يملكونه من مال وأولاد وعتاد، وهم يقفون أمام جيش ظالم جرار لا يعرف من الدنيا إلا الظلم والتكبر والغطرسة، ومع كل ذلك كانت الغلبة لصوت الحق رغم التضحيات التي قدمها الإمام الحسين مع أهل بيته وأصحابه، وانتصر الدم على السيف. قال الله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}.
الدرس الثاني: مصير الظالمين الهلاك
اليوم عندما نتأمل الأسماء الظالمة التي شاركت في مقتل الإمام الحسين وأهل بيته، نجد أن الله تعالى عاقبهم في الدنيا قبل الآخرة، بما سفكوا من دماء زكية، وأما الحسين بن علي وأصحابه الكرام الأوفياء فقد بذلوا مهجهم لنصرة الإسلام؛ مما جعل من أسمائهم لامعة ومشرقة تتردد في الأسماع عبر التأريخ.
الدرس الثالث: التضحية من أجل القيم والمبادئ الإنسانية
وهي من أهم الدروس والعِبر التي قدمتها لنا كربلاء؛ فالقيم الإنسانية تستحق من الجميع أن يضحوا من أجلها بالغالي والنفيس، كما ضحى الإمام الحسين بنفسه وأولاده وأصحابه من أجل إعلاء كلمة الحق واحترام مكانة الأمانة والعدل والرحمة والصدق والمساواة وغيرها من الصفات النبيلة التي حث عليها الإسلام، والتي من خلالها يتم الحفاظ على الخير والرفاهية الإنسانية في المجتمع.
الدرس الرابع: الثبات على المبدأ
المتأمل في مواقف الإمام الحسين في واقعة كربلاء، يتضح له جليًا حجم العروض المادية والدنيوية التي قدمها له الأعداء في محاولة منهم لزعزعة مبادئه وقيمه ومواقفه البطولية والإنسانية، ومع كل تلك العروض المغرية والتهديدات المتكررة بإراقة دمه ودماء أهل بيته ومن معه، ولكنه كان ثابتاً ومتمسكاً بمبادئه وقيمه التي آمن بها وسار عليها.
الدرس الخامس: كرامة الإنسان أعز من الحياة وما فيها
تُعد الكرامة الإنسانية قيمة أساسية متأصلة في واقع كل فرد من أبناء المجتمع، فلا يجوز المساس بها أو الانتقاص منها، بل ولا يصح أن يتنازل عنها الإنسان مهما كانت الظروف، وهو ما أثبته ودافع عنه الإمام الحسين في واقعة كربلاء إلى آخر لحظة من حياته، حيث كان يقول: "إِنِّي لاَ أَرَى اَلْمَوْتَ إِلاَّ سَعَادَةً، وَاَلْحَيَاةَ مَعَ اَلظَّالِمِينَ اَلْبَاغِينَ إِلاَّ بَرَمًا"، فما أجمل الإنسان عندما يكون صاحب عزة وكرامة.
الدرس السادس: أن يكون الولاء لله فوق كل ولاء واعتبار
ويتجلى هذا المفهوم واضحا في شخصية الإمام الحسين، الذي جسَّد ولاءه لله الواحد الأحد أثناء صراعه مع الظلم والظالمين، وليس للسلطة أو لتحقيق مكاسب دنيوية، كما يتضح ذلك في قوله عند توجهه إلى كربلاء: "أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا وَلاَ بَطِرًا وَلاَ مُفْسِدًا وَلاَ ظَالِمًا وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ".
وأخيرًا.. علينا أن نفهم كربلاء جيدًا؛ فهي ليست مجرد معركة عادية؛ بل هي ملحمة عظيمة حملت معاني الفداء والصمود والوفاء والإخلاص؛ فأصبحت منهج حياة يدعو الناس للإصلاح ومحاربة الفساد والفاسدين، ومواجهة الظلم والظالمين، والاعتراف بالحق، وأن الحق لا يقاس بالعدد؛ بل بقيمته الحقيقية والمعنوية التي تأتي من خلال الإيمان بالله والتخلق بأخلاق أهل "لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله".
** عضو الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء
رابط مختصر