غزة- يخفي الشاب منار عبد الله دموعه أمام صغاره الثلاثة الذين يتلوون جوعا بعدما فشل في توفير طعام لهم منذ 3 أيام مع اشتداد المجاعة على سكان غزة، حينها قرر شق طريقه سيرا على الأقدام إلى منفذ "زيكيم" أقصى شمال غرب القطاع، في محاولة أخيرة منه لسد رمق أطفاله، رغم ما يحيط بها من مخاطر.

ترك الشاب زوجته وأطفاله في خيمتهم التي أقامها بحي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة بعدما اضطر للنزوح من مخيم جباليا قبل 3 أشهر، وبدأ يختفي عن أنظارهم وكأنه يودعهم دون عودة.

بجسده الهزيل الذي يكتوي بأشعة الشمس الحارقة، اضطر منار لقطع مسافة تزيد عن 6 كيلومترات وصولا إلى النقطة الأخيرة التي يتمركز خلفها جنود الاحتلال على شارع الرشيد غرب مدينة بيت لاهيا، وبدأ يرقب حركة الشاحنات علها تتقدم تجاهه من منفذ زيكيم حيث تسمح إسرائيل بمرور قليل من الشاحنات المحملة بالمساعدات إلى شمال غزة.

جيش الاحتلال يسمح بمرور شاحنات مساعدات قليلة جدا ويتعمد استهداف الغزيين قرب زيكيم (الجزيرة)طريق الموت

تخطى الشاب الذي يحلم بالعودة بكيس طحين عشرات آلاف المجوعين المتكدسين على الطريق الساحلي على امتداد 3.6 كيلومترات ما بين المنطقة الواقعة بين منتجع بيانكو شمالا ومدخل مخيم الشاطئ الشمالي جنوبا، وجميعهم يأملون أن يعودوا بالقليل من الغذاء لأبنائهم المجوعين.

يصف منار الذي ضاقت به الدنيا الطريق إلى زيكيم، المصنفة إسرائيليا حمراء وتُعد منطقة قتال خطيرة، بالسير تجاه الموت الذي يخيم على المنطقة مع تعمد جنود الاحتلال قتل المجوعين.

يتزاحم المواطنون الشاخصة أنظارهم تجاه الشاحنات المرتقبة شمالا، ورغم أن العربات تعود محملة بالشهداء والمصابين الذين طالتهم نيران وقذائف الجيش الإسرائيلي إلا أنه لا مفر أمامهم سوى استكمال المسير.

بعد أكثر من ساعة ونصف من السير، وصل الشاب الثلاثيني إلى أقرب نقطة لوجود الجيش، حينها ازدادت دقات قلبه خوفا، ومع ذلك قرر الاحتماء بمكعب أسمنتي عله يقيه من النيران القادمة صوبه.

إعلان

يتعمد جيش الاحتلال إطلاق النار والقذائف المدفعية على المجوعين بشكل مباشر، رغم معرفته بأنهم جاؤوا طلبا للقمة العيش ولا يشكلون تهديدا عليه، ويرتكب الجنود كل يوم مجزرة بحقهم يروح ضحيتها العشرات ما بين شهداء ومصابين.

على وقع أصوات القصف وتحت سماء مشبعة بدخان الحرب، يمر الوقت ثقيلا على المجوعين المنتظرين لما يملأ بطون أطفالهم، ومع ذلك لا يفقدون الأمل حتى لو اقتربت الشمس من المغيب. يزداد الخوف الذي يخيم على منار ومن حوله مع انطلاق صفير الرصاص المتطاير فوق رؤوسهم، وسقوط الضحايا أمام أعينهم، ولا يستطيع أحد انتشالهم بسبب كثافة النيران، فيبقون لساعات غارقين بدمائهم.

بعض الغزيين يعودون بأكياس طحين أو يتقاسمونها وآخرون يعودون فارغي الأيدي (الجزيرة)مشاهد موجعة

ما إن اقتربت أضواء الشاحنات الواصلة مع دخول عتمة الليل حتى علت الأصوات وازداد الازدحام، واضطر البعض للدوس على الجثث الملقاة على الأرض نتيجة التدافع، هكذا يصف الشاب منار المشهد.

في تلك اللحظة يهرول الجميع تجاه الشاحنات المسرعة، هناك من يحالفه الحظ ويتمكن من انتزاع كيس طحين من فوقها، وآخرون تسبقهم الرصاصات القاتلة قبل أن يصلوا إلى الدقيق فتروّي دماؤهم الأكياس الشاهدة على تجويعهم، والكثيرون يعودون فارغي الأيدي بعد رحلة موت قاسية.

تمكن منار من تقاسم كيس دقيق مع شاب رافقه إلى رحلة الموت، احتضن حصته بين ذراعيه كأنه يحمل صغيره، وطار بها فرحا حيث خيمته، وخلال الطريق تبدأ رواية أخرى من الألم.

تقف نساء على امتداد الطريق المؤدي إلى الشاحنات يتوسلن الشباب الحاملين للطحين منحهن ولو قليلا منه، وأخريات يحاولن لململة ما سقط من طحين واختلط بالتراب، فيما قدمت بعض الأمهات للبحث عن أبنائهن الذين انقطع الاتصال بهم بعدما وصلوا إلى المكان.

يروي منار مشاهد من الألم عندما يُضطر مسنون للزحف أرضا علهم يحصلون على القليل من الطحين، وآخرون لا تقوى أجسادهم على الاستمرار حتى في الزحف فيغمى عليهم بانتظار من يحملهم لبيوتهم.

وما إن يهدأ غبار الشاحنات، وتنخفض أصوات المدافع والرشاشات، حتى يبدأ العائدون فارغي الأيدي مهمة أخرى: تغطية أجساد الشهداء بأكياس بلاستيكية كانت تغطي شاحنات الطحين، حيث ترقد الأجساد المجوعة، التي لن تعود إلى المكان الشاهد على تجويعها مرة أخرى، دون أن يحظى أطفالهم بما يخفف جوعهم.

استمرار التجويع

عاد منار بحذاء ممزق وقدمين متقرحتين من طول المشي، وجسد يكاد يقع من الجوع، وكل ما يملك بضع كيلوات من الطحين يهرول بها تجاه أطفاله المجوعين. كان القلق يلف الخيمة التي تقيم بها زوجته وأبناؤه، وهم يترقبون عودة والدهم، وما إن رأوه حتى تبدل حزنهم فرحا وهللوا "بابا جاب طحين".

يلقي بالدقيق الذي انتزعه من بين مخالب الموت داخل خيمته، بينما يمنح جسده الذي خارت قواه قسطا من الراحة عله يستفيق على خبر السماح بتدفق المساعدات إلى قطاع غزة دون أن يضطر لرحلة أخرى من الموت.

وفي الوقت الذي نجح فيه مئات الشباب بالحصول على الدقيق، يعود آلاف آخرون دون نتيجة، ينظرون إلى أطفالهم بنظرات منكسرة، ولا يستطيعون الإجابة على عيون دامعة تسألهم "بابا وين الطحين؟".

إعلان

ويعيش سكان غزة عزلة خانقة منذ 5 أشهر، مع إغلاق المعابر ومنع دخول الغذاء والمساعدات، جعلت أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون تجويعا قاسيا، ولا يجدون ما يأكلونه.

واستحدثت قوات الاحتلال الإسرائيلي منفذ زيكيم البري الواقع غرب بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة نهاية العام الماضي، لتمرير القليل من الشاحنات المحملة بالمساعدات، ومنذ ذلك الحين تحول إلى مصيدة موت.

واستشهد 213 فلسطينيا خلال انتظارهم المساعدات قرب زيكيم بما يشكل 19% من مجمل ضحايا منتظري المساعدات في مختلف أماكن القطاع والبالغ عددهم 1121 شهيدا، وذلك حسب إحصائية خاصة حصلت عليها الجزيرة نت من وزارة الصحة بغزة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات

إقرأ أيضاً:

آلاف الفلسطينيين يتدافعون للحصول على المساعدات.. وجيش الاحتلال يستهدف العشرات منهم

أفاد يوسف أبو كويك، مراسل "القاهرة الإخبارية" من مدينة غزة، أن عشرات الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية دخلت صباح اليوم إلى قطاع غزة عبر منطقة زكيم، الواقعة في أقصى الشمال الغربي للقطاع، ويُعد معبر زكيم منطقة عسكرية تخضع لسيطرة الجيش الإسرائيلي، وتعتبرها إسرائيل ضمن "المنطقة الآمنة"، ومع ذلك، توافد عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين من مناطق السودانية والسلاطين وبيت لاهيا باتجاه الشاحنات القادمة، في محاولة للحصول على المواد الغذائية، خاصة أكياس الدقيق.

أونروا: لا يمكن توزيع المساعدات في قطاع غزة دون الوكالةيونيسف: يمكن إنهاء سوء تغذية أطفال غزة خلال شهر إذا فتحت المعابر

وأضاف أبو كويك خلال رسالة على الهواء، أن القوات الإسرائيلية استهدفت المدنيين أثناء اقترابهم من الشاحنات، مما أسفر عن سقوط أكثر من عشرة شهداء، نُقلوا إلى مستشفى حمد ومنه إلى مجمع الشفاء الطبي، كما ارتكبت مجزرة جديدة قرب منطقة نتساريم، مركز توزيع المساعدات الأمريكية، حيث استشهد 11 مدنيًا بينهم نساء وأطفال، وأصيب أكثر من 100 آخرين، وفي رفح، استهدف الجيش الإسرائيلي أيضًا مدنيين قرب مركز توزيع آخر، ما أدى إلى استشهاد ستة مواطنين على الأقل.

وأشار إلى غياب أي دور فعلي للمنظمات الدولية، مثل الأونروا أو الهلال الأحمر، في استلام أو تنظيم توزيع المساعدات التي تدخل القطاع، فبمجرد عبور الشاحنات من معبري زكيم أو ميراج، يسيطر عليها المواطنون نظرًا للجوع الشديد وانعدام التنظيم، دون أن تصل إلى مخازن المؤسسات الدولية، مؤكدا أن هناك حاجة ماسة إلى تدخل عاجل يضمن حماية القوافل الإنسانية وتنظيم توزيعها، وسط تفاقم الكارثة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع منذ أسابيع.

طباعة شارك غزة الشاحنات المساعدات الإنسانية

مقالات مشابهة

  • مراسل القاهرة الإخبارية: معبر رفح من جانب مصر لم يُغلق طوال الأشهر الماضية
  • هدن مزيفة ومساعدات منهوبة.. خداع إسرائيلي يفاقم معاناة المجوّعين بغزة
  • مساعدات وممر آمن.. غزة تسمع زميرًا ولا ترى طحينًا
  • الهلال الأحمر يكشف تعنت إسرائيل تجاه الشاحنات المصرية المتجهة لغزة.. فيديو
  • رغم إطلاق النار.. مئات الغزيين يخاطرون بحياتهم للحصول على المساعدات عبر محور «زكيم»
  • دمر الاحتلال أرشيفه.. مصور صحفي بغزة يقايض كاميرته بكيس طحين
  • آلاف الفلسطينيين يتدافعون للحصول على المساعدات.. وجيش الاحتلال يستهدف العشرات منهم
  • عشائر غزة: سيتم غدًا تأمين قوافل المساعدات الإنسانية القادمة من زيكيم
  • قصة أب ونجله مع التجويع بغزة.. الطريق إلى لقمة العيش محفوف بالموت