قُتِلَ أنس الشريف لأنه كان صوت غزة.
تاريخ النشر: 14th, August 2025 GMT
خارج مستشفى الشفاء في مدينة غزة، اغتالت قوات الاحتلال الإسرائيلي مراسلي قناة الجزيرة أنس الشريف ومحمد قريقع، والمصورين إبراهيم زاهر، ومحمد نوفل، ومعن عليوة، في قصف مباشر استهدف خيمتهم الإعلامية. لم يكن الأمر خطأ عشوائياً من أخطاء الحرب، بقدر ما كان هجوماً دقيقاً مقصوداً، يهدف إلى محو صحفيين لم يتوقفوا عن قول الحقيقة.
كان الشريف شاباً فلسطينياً من جباليا شمال قطاع غزة، غطّى الحرب على مدى اثنين وعشرين شهراً. كانت "جريمته" الوحيدة رفضه أن يدير ظهره، وإصراره على فضح واقع الإبادة: القتل بلا حدود، والتدمير الممنهج لكل خيط من خيوط الحياة. عمل دون توقف.
وُلد الشريف عام 1996، وكان في الثالثة من عمره حين اندلعت الانتفاضة الثانية، وفي العاشرة عند بدء الحصار الإسرائيلي على غزة، وفي الثانية عشرة حين شنت إسرائيل حرب 2008، وفي الثامنة عشرة أثناء عدوان 2014.
قُتل وهو في الثامنة والعشرين يوم الأحد، وقد رسمت الحروب ملامح حياته، كل واحدة منها أشد فتكاً من التي سبقتها.
على مدى 22 شهراً، وصل صوته إلى ملايين البيوت في العالم العربي. لم يكن مجرد صحفي، بل كان شاهداً موثوقاً. عرفه جمهوره بقدر ما عرفوا صوته: فقد والده بنيران الاحتلال، وانفصاله عن أمه، وابنته شام، وطفله صلاح المولود أثناء الإبادة، وزوجته بيان.
تبعناه إلى أعنف جبهات الشمال، حيث واصل عمله تحت القصف والجوع، دون أن ينحني أو يُسكت صوته أحد.
حل الشريف مكان زملاء سبق أن اغتالهم الاحتلال، من بينهم إسماعيل الغول مراسل الجزيرة. وزميل آخر، وائل الدحدوح، واصل التغطية بعد أن فقد زوجته وأطفاله وحفيده، قبل أن يغادر غزة للعلاج من إصاباته. ورث الشريف مهمتهم المتمثلة في رواية حكاية غزة في وقت كان العالم يحاول صرف النظر عنها. ومع اغتيال الشريف وزملائه الأربعة، محا الاحتلال كامل طاقم الجزيرة في مدينة غزة.
نتذكر يوم انهار على الهواء، صوته يرتجف وهو يشاهد امرأة تسقط من الجوع، وصوت عابر ينادي: "تابع يا أنس، أنت صوتنا". ونتذكر يوم خلع سترته الصحفية على الهواء معلناً وقف إطلاق النار، في استراحة قصيرة وسط القتل المستمر. ونتذكره محمولاً على أكتاف الفلسطينيين شاكرين شجاعته.
بهذا كله صار عدواً معلناً لدولة تمارس الإبادة. هددته الاستخبارات الإسرائيلية علناً. بدأ الأمر بقتل والده بعد أن تلقى الشريف اتصالات من الجيش الإسرائيلي تحذره من مواصلة عمله، فكان ذلك إنذاراً أوليا. ثم قُتل زملاؤه واحداً تلو الآخر. وفي النهاية، نُفذ التهديد بعد أن مزقته طائرة مسيرة إسرائيلية مع زملائه الأربعة، كما حدث في آلاف الاغتيالات عبر غزة ولبنان وسوريا.
ذكره أفخاي أدرعي، المتحدث الإسرائيلي، بالاسم. وفي الشهر الماضي، حذرت لجنة حماية الصحفيين قائلة: "هذه الاتهامات الباطلة تمثل محاولة لتهيئة الرأي العام لقتل الشريف". أدرعي هو جوبلز الجديد، يملك وسائل التواصل بدل المذياع، ويحدد أهدافه بابتسامة ساخرة.
رأى الشريف أصدقاءه وزملاءه يسقطون قتلى أمامه، حمل نعوشهم، ثم عاد إلى عمله والتراب ما زال على يديه. استمد قوته من شيرين أبو عاقلة، التي اغتالتها إسرائيل في جنين عام 2022، كانت مسيحية، وهو مسلم، وإسرائيل لا تفرق حين تحارب الحقيقة.
لو أرادت إسرائيل اعتقاله لفعلت؛ كان مكانه معروفاً دائماً، ولم يحمل سلاحاً قط، وكثيراً ما عمل على مقربة من الحواجز الإسرائيلية. لكنها لم تأتِ لتعتقل، بل لتقتل.
كان ذلك تمهيداً أيضاً. فحرب بنيامين نتنياهو على غزة مستمرة منذ 22 شهراً دون أن تحقق أهدافها المعلنة سوى قتل المدنيين وتدمير أسس الحياة، وائتلافه يتصدع.
ومع موافقة حكومته، يستعد الآن لغزو ما تبقى من غزة، في المرحلة الأخيرة من التطهير العرقي. وستكون مهمته أسهل إذا لم يبقَ من يوثق الجريمة. كان الشريف وزملاؤه خطراً على دعايتهم، ولذا قرروا أن تتم المرحلة المقبلة في الظلام.
بعد ساعات من قتله، أصدرت قوات الاحتلال بياناً بلا ندم، بل بفخر، متباهية بالاغتيال، وواصفة الشريف بـ"الإرهابي"، عارضة “أدلة” مريبة لا يمكن التحقق منها، وهذه حيلة القاتل القديمة: يقتل الصحفي، ثم يقتل سمعته. ويُطلب منا أن نصدق أن رجلاً قضى أكثر من 670 يوماً يبث مباشرة لشبكة دولية كان سراً يقود خلية مسلحة، بين تصوير المستشفيات المقصوفة ودفن الأطفال.
بعض وسائل الإعلام الكبرى رددت الافتراء، كما رددت أكاذيب نتنياهو حين أنكر المجاعة في غزة وألقى باللوم على حماس في دمار صنعته إسرائيل. أقوال فضحتها تقارير دولية، لكنها بُثت بلا خجل.
كان الشريف يعرف أن هذا قد يكون مصيره. قبل أشهر كتب وصيته: "إذا وصلتكم هذه الكلمات، فاعلموا أن إسرائيل نجحت في قتلي وإسكات صوتي... أوصيكم بفلسطين، جوهرة تاج العالم الإسلامي، ونبض قلب كل إنسان حر في هذا العالم. أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الأبرياء الذين لم يُتح لهم أن يحلموا أو يعيشوا بأمان وسلام. سُحقت أجسادهم البريئة تحت آلاف الأطنان من قنابل وصواريخ إسرائيل، ومزقت أشلاؤهم وتبعثرت على الجدران".
لم يكن هدف إسرائيل من قتله وزملائه إخفاء الحقيقة عن مجازرها فحسب، بل استهدافه شخصياً لكسر روح الفلسطينيين في غزة، وهم يعلمون مدى ارتباطهم به وثقتهم فيه وفخرهم بشجاعته. لكن هذا المخطط سيفشل. لن يكسر موته إرادة غزة، بل سيزيد أهلها عزماً على المضي في طريقه.
هناك مقطع فيديو للشريف مع ابنته شام، يجلسان متقاربين، يبتسم وهو يسألها: "ترامب يريدنا أن نغادر غزة، هل تريدين أن تغادري؟ ... إلى قطر؟ الأردن؟ مصر؟ تركيا؟" فتهز رأسها بالنفي مع كل اسم. "لماذا؟" يسألها. فتجيبه ببساطة: "لأنني أحب غزة". فيضمها إلى صدره، محتضناً جواباً يعرف أنه ينبض في قلبه هو أيضاً.
حملوه على أكتافهم، كما حملوا شيرين أبو عاقلة من قبل، يوم حاول الجنود الإسرائيليون إسقاط نعشها أرضاً، وفي تلك اللحظة تعهدوا بأن ينهض آلاف آخرون حماةً للحقيقة التي لا تقتلها الرصاصات.
اغتيال الشريف ليس نهاية، بل محو لشاهد قبل أن تُرفع الستارة عن المرحلة التالية، وهي مجازر مخططة على الملأ، برعاية حلفاء أجانب، لطرد آخر من تبقى من أهل غزة.
دمه ليس عبئاً على إسرائيل وحدها، بل يلطخ أيادي كل حكومة أعرضت بوجهها، وكل وسيلة إعلام رددت نص القاتل، وكل زعيم سلّح اليد التي صوبت إلى قلبه.
إنه يسيل بين أصابع كل من شاهد مراراً إسرائيل وهي تطارد صحفيي غزة، واكتفى بترك العدسة تغيب في العتمة. لم يكن هذا مجرد قتل رجل، بل إسكات صوت كان العالم بحاجة إليه. وجرى ذلك بمباركة صمت عالمي، ترك إسرائيل تذبح الصحفي تلو الآخر، وترحل بلا حساب.
سمية غنوشي كاتبة تونسية بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الأوسط.
الترجمة عن موقع ميدل إيست آي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لم یکن
إقرأ أيضاً:
منظمة التعاون الإسلامي تدين توغّل إسرائيل في "بيت جن" وتحمّلها مسؤولية التصعيد في سوريا
أدانت منظمة التعاون الإسلامي، اليوم السبت، بأشد العبارات الاعتداء الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلي على بلدة بيت جن في ريف دمشق، مؤكدة رفضها القاطع لانتهاك سيادة سوريا وزعزعة أمنها واستقرارها.
وقالت المنظمة، ومقرها جدة، في بيان إن استمرار العدوان الإسرائيلي على الأراضي السورية يشكل تهديدًا مباشرًا للاستقرار الإقليمي ومحاولة لإفشال جهود إحلال الأمن والسلام في المنطقة، محمّلة سلطات الاحتلال المسؤولية الكاملة عن تبعات هذه الاعتداءات المتصاعدة.
ودعت منظمة التعاون الإسلامي المجتمع الدولي إلى التحرك الجاد لتنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بسوريا، وضمان احترام سيادتها ووحدة أراضيها.
وكانت قوة إسرائيلية خاصة قد توغلت فجر الجمعة في قرية بيت جن بهدف تنفيذ عمليات اعتقال، إلا أن الأهالي اعترضوا الدورية، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات استمرت نحو ساعتين.
وتدخل الجيش الإسرائيلي باستخدام الطائرات والمدفعية لفك الحصار عن القوة، ما أسفر عن مقتل 13 مدنيًا من سكان البلدة، إضافة إلى إصابة 6 ضباط وجنود إسرائيليين، بينهم حالتان وصفتا بالخطيرة.