WP: هل تتصدع سوريا مع تزايد مطالب بعض الأقليات الخائفة بالحكم الذاتي
تاريخ النشر: 25th, August 2025 GMT
نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريرًا موسعًا تناول مستقبل سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، متسائلةً عمّا إذا كانت البلاد مهددة بالتفكك في ظل تصاعد العنف واتساع مشاعر "الخوف والاغتراب لدى الأقليات"، خاصة الدروز والأكراد والعلويين، في مواجهة الإدارة الجديدة في دمشق.
وجاء في التقرير الذي أعده كريم فهيم وزكريا زكريا أن "العنف المحير في أجزاء متعددة من البلاد غذى مطالب أقليات بالاستقلالية والحكم الذاتي، ما يمثل تحد لخطط الرئيس أحمد الشرع والحكومة المركزية في دمشق.
وذكر التقرير أن "سكان البلدة ولا يقلون ترددا في السماح لبعض الغرباء بالدخول: فالقوات الحكومية متمركزة عند نقطة تفتيش في البلدة المجاورة. وفي عرنة وغيرها من المناطق التي تقطنها أقليات دينية وعرقية، ينظر إلى الحكومة السورية التي يقودها الإسلاميون بشكل متزايد على أنها تهديد".
وعلقت أن "هذا الشعور بالاغتراب يمثل منعطفا خطيرا لقادة البلاد، الذين تولوا السلطة أواخر العام الماضي بعد الإطاحة بدكتاتورية بشار الأسد وتعهدوا بتوحيد البلاد، وبدلا من ذلك تظهر البلاد تصدعات، فقد انطلقت دعوات الحكم الذاتي في مناطق الدروز في الجنوب وفي الغرب وعلى طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث تعيش الأقلية العرقية وفي شمال- شرق سوريا حيث يعيش الأكراد السوريون الذين يريدون حكما لامركزيا أو ببساطة تركهم وشأنهم".
وأوضح أن "السكان يؤكدون أنهم ما زالوا يعتزون بهويتهم السورية إلا أنهم يشعرون بالقلق من المستقبل الذي تسير نحوه البلاد، وقد استغل بعض القادة المحليين المخاوف الحالية للضغط والمطالبة بصراحة وتحقيق أحلام الاستقلال".
وبعد أشهر من السقوط السريع لنظام الأسد، قال نبيه كابول، وهو درزي من سكان عرنة: "كان هناك الكثير من الأمل في سوريا الجديدة" و"للأسف، فهذه الفترة هي أسوأ من تلك التي كنا فيها".
ويعلق التقرير أن مشاعر السخط هذه تمثل تحد لجهود الرئيس الشرع لتعزيز سلطة حكومته الجديدة والمضي في تطبيق خطة للتعافي الوطني الإقتصادية والسياسية والمجتمعية وبعد سنوات من الحرب الأهلية الرهيبة.
حكومة مدعومة دوليًا
ويدعو الشرع إلى حكومة مركزية من دمشق، تشبه الحكومة التي كانت في البلاد قبل اندلاع "الحرب الأهلية". وتركز رؤيته، كما يقول على "التطوير والبناء ووحدة الأراضي السورية"، وهي رؤية تحظى بدعم الكثير من السوريين وتبناها الداعمون الخارجيون، بمن فيهم دول الخليج المؤثرة التي تعهدت بمساعدة الشرع ودعمه.
ويقول حايد حايد، الزميل في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتشاتام هاوس في لندن، إنه في المرحلة الإنتقالية من عهد الأسد تريد الحكومة "بنية مركزية قوية تمكنها من اتخاذ القرارات بسرعة"، لكن حوادث العنف المتصاعدة الأخيرة تهدد بل وتطيح، بهذه الخطط. وأضاف حايد: "في كل أسبوع، تصبح الأمور أكثر إثارة للقلق بدلا من أن تتحسن".
وتشير الصحيفة إلى أن الحكومة حملت المسؤولية وبشكل مستمر لفلول نظام الأسد المخلوع أو القوى الأجنبية وبخاصة إسرائيل، المسؤولية بسبب تدخلاتها العسكرية في البلاد وتواصلها مع الدروز، وقد أدت هذه الاتهامات إلى تغذية استقطاب سياسي زاد من مستوى عدم الثقة بين بعض الأقليات والقوات الحكومية.
ونقلت الصحيفة عن ضياء خيربك، رئيس بلدية جبلة على الساحل السوري، الذي يحاول تهدئة التوترات بين القوات الحكومية المتمركزة هناك والسكان العلويين الذين ما زالوا يعانون من مذبحة راح ضحيتها أقاربهم وجيرانهم في آذار/مارس على يد القوات الحكومية أو المقاتلين المتحالفين معها قوله إن: "الخوف موجود في الجانبين".
وشهدت سوريا موجة اضطرابات أخرى وعمليات قتل الشهر الماضي في مدينة السويداء، وهي مدينة ذات أغلبية درزية جنوب العاصمة دمشق. وقتل أكثر من 1,000 شخصا في اضطرابات رافقتها انتهاكات، نفذ بعضها مقاتلون متحالفون مع الدولة ضد المدنيين الدروز.
وبعد أسابيع، لا تزال السويداء تعاني من اضطرابات ومعزولة، حيث أغلقت القوات الحكومية مداخلها، بينما يكافح سكانها للحصول على الطعام والماء، وينظمون مظاهرات بين الحين والآخر. وخلال الاحتجاجات الأخيرة يوم السبت، طالب السكان بشكل استفزازي بحق تقرير المصير والحماية من إسرائيل، التي شنت غارات جوية على القوات السورية خلال المعارك في المدينة.
واشنطن تنصح ببدائل
وقد اعترف توماس باراك، مبعوث الرئيس دونالد ترامب إلى سوريا والداعم القوي للشرع وجهوده لتوحيد البلاد، بعد أحداث السويداء الدموية، بأن سوريا قد تحتاج إلى دراسة بدائل لدولة بالغة المركزية. وقال لمجموعة من الصحافيين الشهر الماضي: "ليست فدرالية، بل شيء أقل من ذلك، يسمح للجميع بالحفاظ على وحدتهم وثقافتهم ولغتهم، وبعيدًا عن أي تهديد إسلامي". وأضاف: "أعتقد أن الجميع يقولون إننا بحاجة إلى إيجاد طريقة لنكون أكثر عقلانية".
من جانبه، استبعد الشرع إمكانية تقسيم سوريا. وقال في خطاب بثته وسائل الإعلام الرسمية يوم الأحد: "هناك رغبات لدى البعض بتقسيم سوريا ومحاولة إنشاء كانتونات محلية داخليا، لكن منطقيا وسياسيا وعقلانيا، هذا مستحيل"، وأدان التدخلات الإسرائيلية في السويداء، قائلا إنها "تهدف إلى إضعاف الدولة". لكنه أقر أيضا بدور حكومته في عزل المدينة، مؤكدا أن مرتكبي الانتهاكات خلال القتال سيعاقبون.
ومنذ توليه السلطة بعد سقوط الأسد، كافح الشرع لإقناع المتشككين بصدق تعهداته لحماية الأقليات. فقد ظل تاريخه الشخصي، كمقاتل سابق قاد فرع القاعدة في سوريا، عبئا عليه. إلى جانب سلوك المقاتلين المتطرفين الذين يخضعون ظاهريا لقيادته، والمرتبطين بسلسلة متزايدة من الإنتهاكات.
المشاكل السياسية هي الأكثر تعقيدًا
مقارنة مع جهود حكومة الشرع الخارجية التي أدت إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتخفيف العزلة الدبلوماسية لسوريا، والتخلص من العقوبات الدولية المفروضة على الأسد. علق حايد قائلا: "مع أن ذلك قد يساعد"، إلا أن أكثر مشاكل سوريا تعقيدا هي مشاكل سياسية. وأضاف أن حماس الحكومة لفرض سيطرتها على كامل الأراضي السورية – وبقوة السلاح - "لم يجدِ نفعا". وبدلا من ذلك، دعا إلى حوار وطني بين مختلف مكونات البلاد. وقال: "الوقت والالتزام الجاد والجهد وحدهما يبنيان تلك الثقة والتفاهم"، ولكن بالنظر إلى النهج الحالي للحكومة، "فمن المرجح أن تزداد الأمور سوءا".
وقالت الصحيفة إن أكثر الخلافات تأثيرا على استقرار سوريا هو الخلاف مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهي ميليشيا كردية، سيطرت على مساحة واسعة من الأراضي في شمال - شرق سوريا في السنوات الأخيرة خلال الحرب ضد تنظيم الدولة "الإسلامية"، وقد وقعت قسد،المدعومة من الولايات المتحدة، اتفاقا مع الحكومة السورية في آذار/مارس نص جزئيا على "دمج جميع المؤسسات المدنية والعسكرية" في الدولة السورية. ومع ذلك، لم يتم تنفيذ الاتفاق بعد، وسط خلافات حول مدى الحكم الذاتي الذي ستتمتع به المنطقة التي تسيطر عليها الآن قسد.
ومما يزيد الوضع تعقيدا استمرار العنف بين قسد والميليشيات المدعومة من تركيا، حيث تنظر أنقرة إلى هذه القوات على أنها خصم بسبب صلاتها بحزب العمال الكردستاني، الذي خاض تمردا طويلا ضد الدولة التركية.
وقد أثار مؤتمر للأقليات برعاية قسد في مدينة الحسكة الشرقية هذا الشهر غضب الحكومة السورية لدعوته، من بين أمور أخرى، إلى دولة لامركزية. وبعد أيام قليلة، قال وزير الخارجية السوري إن التجمع "لا يمثل الشعب السوري"، متهما المشاركين بمحاولة "استغلال الأحداث في السويداء".
المشاعر المناهضة للحكومة تتركز في الساحل السوري
وتتزايد المشاعر المناهضة للحكومة في قرى وبلدات ومدن المنطقة الساحلية السورية، حيث تعيش الأقلية العلوية في سوريا. وقد أودت عمليات القتل الساحلية في آذار/مارس، والتي اندلعت بسبب هجمات شنها موالون للأسد على قوات الأمن الحكومية، بحياة ما لا يقل عن 1,400 شخصا وزادت من استياء العلويين. وقتل أكثر من 200 جندي حكومي في أعمال العنف. لكن معظم المذبحة استهدفت المدنيين على أساس طائفتهم، حيث قُتل الضحايا بالرصاص بعد سؤالهم عما إذا كانوا علويين، من قبل القوات الحكومية أو مقاتلين متحالفين معها، وفقا للسكان وتقرير الأمم المتحدة حول العنف.
ويقول سكان الساحل الخائفين إنهم يشعرون بالشك حول ما إذا كانت الحكومة ستقدم الجناة إلى العدالة، والأهم من ذلك، ما إذا كانت منطقتهم سيرحب بها كجزء من سوريا ولن ينظر إليها على أنها منطقة غير موالية يسكنها الحنين لنظام بائد.
وقال خيربيك، رئيس بلدية حي الرميلي في منطقة جبلة، إن أكثر من 55 شخصا في منطقته قتلوا خلال الاضطرابات. وأُحرقت ودمرت المتاجر التي يملكها أسفل شقته، بما في ذلك صالون حلاقة. ومع ذلك، فقد عمل خيربك كوسيط بين قوات الأمن الحكومية التي لا تزال تحافظ على وجود مكثف في المناطق العلوية والسكان المحليين. إلا أن عمله ليس بالأمر السهل. وقال إن سكان الحي، الذين ما زالوا يخشون الخروج بعد حلول الظلام، وصموه بالخيانة.
تجاهلت الحكومة مناشداته بنشر عناصر من السكان المحليين على نقاط التفتيش الأمنية، مفضلةً أن يكون فيها جنود من إدلب، المحافظة السورية التي كان الشرع يحكمها قبل وصوله إلى دمشق. ومع ذلك، قال خيربك إن تقسيم سوريا "لن يحل مشاكلنا". وأضاف: "نحتاج إلى قمح الحسكة"، في إشارة إلى المحافظة الواقعة شرق سوريا على الحدود العراقية و "هم يحتاجون إلى سمك الساحل" و"نحن بحاجة إلى بعضنا البعض".
الدروز نحن "لسنا خونة"
في عرنة، يواصل سكان الدروز التأكيد على الروابط التاريخية لمجتمعهم بسوريا وأهمية الدروز في النسيج الاجتماعي للبلاد. وقالت الطالبة ريم أبو قيس: "كلنا سوريون. كلنا هنا معا". واعتبرت الاتهامات الموجهة للدروز بمحاولة تقسيم البلاد بـ"التضليل". فيما اتخذ سكان محليون آخرون موقفا دفاعيا عند مناقشة دور إسرائيل، التي تقدم نفسها على أنها حامية الدروز السوريين.
وقال أحد السكان: "إنهم ينعتوننا بالخونة". وأضاف آخر: "لا يستأذن الإسرائيليون منا قبل مجيئهم إلى هنا". ولكنهم مرتابون من حكومة الشرع، التي حملوها مسؤولية أعمال العنف في السويداء، التي بدأت باشتباكات بين مقاتلين دروز وبدو محليين في المدينة.
لكن المظالم في عرنة تتجاوز السويداء حيث يقول السكان إنهم تعرضوا للمضايقات عند نقاط التفتيش أثناء محاولتهم مغادرة المدينة. ويشكون من تعرض أبناء جلدتهم الدروز للتمييز في مؤسسات الدولة، مثل الجامعات والمستشفيات.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة عربية صحافة إسرائيلية سوريا دمشق الشرع السويداء سوريا دمشق الشرع السويداء تغطيات سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القوات الحکومیة على أنها من ذلک
إقرأ أيضاً:
روسيا التي صنعها بوتين.. كيف أُعيد تشكيل البلاد ؟
قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، ومع مطلع عهد فلاديمير بوتين، كان مستقبل روسيا السياسي يبدو غامضا ومتضاربا. فقد عززت الدولة بعض الحريات وقمعت غيرها؛ وألمحت إلى الديمقراطية، لكنها أبقت على قبضتها المحكمة في إدارة الشؤون السياسية.
فتحت الباب أمام رأسمالية السوق، لكنها سمحت في الوقت نفسه للأوليغارشيين والمقربين من السلطة والمسؤولين بالاستحواذ على تلك الأسواق. وتسامحت مع مساحة محدودة من الصحافة الجريئة وإن كانت تعرض أصحابها للضغوط والتهديد.
والأهم أن ارتفاع أسعار النفط وتحسن مستويات المعيشة وتنامي العلاقات مع الغرب جعلت روسيا تبدو وكأنها توفر حياة مستقرة وواعدة لمواطنيها، ما داموا يلتزمون بالابتعاد عن السياسة.
ما افتقرت إليه الدولة، وليس مصادفة، هو أي توجه أيديولوجي واضح. وكان ذلك انعكاسا مباشرا للواقع السياسي في مرحلة ما بعد 1991، حين اعتاد الروس الشك بعد تجربة تدهور الاتحاد السوفييتي ثم انهياره. فقد أصبح فرض قناعة جماعية مهمة صعبة، ومكاسبها غير مؤكدة.
ومع دخول القرن 21، حمل الروس رؤى متناقضة: هل كانت الشيوعية مشروعا نبيلا أم خطأ فادحا؟ وهل شكل انهيار الاتحاد السوفييتي لحظة تحرر وفرص، أم بداية معاناة؟ في ظل هذا الارتباك، بدا للسلطة أن الحفاظ على مساحة رمادية واسعة - تشبه إلى حد ما عالم السياسة الحزبية الأمريكية - أنفع من فرض عقيدة محددة أو تحديد ما يجب على الناس الإيمان به.
لكن الأمر كان أيضا مسألة قانونية. فقد اعترفت المادة 13 من دستور روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي رسميا بالتنوع الأيديولوجي للدولة، وحظرت تأسيس دولة بأيدولوجية واحدة. حتى بوتين لم يُبدِ أي التزام بهذا المبدأ. كما لاحظ الصحفيان الاستقصائيان الروسيان أندريه سولداتوف وإيرينا بوروجان في كتابهما: أصدقاؤنا الأعزاء في موسكو: القصة الداخلية لجيل مكسور(الشؤون العامة، 2025، 336 صفحة).
أجرى زملاؤهما مقابلة مع بوتين عام ٢٠٠٠، في الأشهر الأولى من توليه منصبه، وسألوه عما إذا كانت روسيا بحاجة إلى أيديولوجية جديدة. رفض الفكرة رفضا قاطعا. وقال: «لا يمكن اختراعها عمدا»، مضيفا أن البلاد بحاجة بدلا من ذلك إلى «تعزيز الدولة والاقتصاد والمؤسسات الديمقراطية، بما في ذلك حرية الصحافة».
اليوم، يبدو هذا وكأنه خيالٌ منسيٌّ منذ زمن. لم يعد الكرملين متمسكا بأي ادعاءات ديمقراطية. يبدو أن بوتين مقدر له أن يحكم إلى أجلٍ غير مسمى، وحتى في المراحل الأخيرة من الانتخابات، يمنع المرشحون المستقلون من الترشح.
اختفت الصحافة الحرة، وكذلك جميع أنواع الحريات الأساسية، مهما كانت محدودة: فضغط «إعجاب» على منشور خاطئ على وسائل التواصل الاجتماعي أو تبرع لمؤسسة تُعتبر غير قانونية يكفيان لعقوبة سجن طويلة.
انقطع الاقتصاد إلى حد كبير عن الغرب؛ السفر إلى أوروبا محفوف بالمخاطر ومكلف ومعقد. والأهم من ذلك كله، استغلت الدولة الأيديولوجية لتبرير نفسها أمام الجمهور وتقديم رواية توجيهية: إمبريالية وعسكرية، محافظة ومعادية للغرب.
كتابان جديدان يتتبعان منحنى هذا التحول، ويعرضان عودة ظهور الأيديولوجية كمسألة محورية لكل من الدولة والمواطن في روسيا اليوم. في كتاب أصدقائنا الأعزاء في موسكو، ينظر سولداتوف وبوروجان إلى جيلهم .
يرويان قصة مجموعة من الأصدقاء والزملاء السابقين، الشباب الروس الذين، على مدار سنوات بوتين، تكيفوا بثبات مع النظام الحاكم، وانجرفوا نحو الأفكار والتبريرات القومية وغير الليبرالية، وانتهى بهم الأمر كمؤيدين لحرب روسيا في أوكرانيا. من خلال تركيز كتابهما على القيم المتغيرة لهؤلاء الأصدقاء، يوضح سولداتوف وبوروجان كيف أن استراتيجية بوتين المتعمدة «لعزل روسيا عن الغرب»، كما قالا، قد قويت من قبل الروس أنفسهم.
في كتابها الأيديولوجية وصنع المعنى في ظل نظام بوتن، (مطبعة جامعة ستانفورد، ٢٠٢٥، ٤١٤ صفحة)، توضح المؤرخة وخبيرة العلوم السياسية الفرنسية مارلين لارويل كيف كانت الديناميكية المتغيرة باستمرار بين الدولة والمجتمع أساسية في قوة بوتن. تشير الكاتبة إلى أن جهود بوتين لبناء أيديولوجية وطنية إمبريالية جديدة لا تعتمد فقط على قيم مفروضة من الأعلى، بل تعتمد أيضا على استغلال الأفكار والتوجهات الفكرية السائدة في المجتمع.
وتشير هذه الكتب مجتمعة إلى أن الأفكار التي حركت حرب روسيا المستمرة في أوكرانيا وصراعها الأوسع مع الغرب، ليست تعسفية أو غير عقلانية، بل إنها نتاج التفاعل الطويل والمتطور بين نظام بوتين والشعب الذي يحكمه.
في الصفحات الافتتاحية من أصدقائنا الأعزاء في موسكو، تم تعيين سولداتوف وبوروجان للتو في صحيفة إزفستيا، صحيفة رسمية سابقة، ثم أصبحت صحيفة مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
خلال التسعينيات، اكتسبا قدرا ضئيلا من الحرية الجريئة في قول الحقيقة للسلطة، وسرعان ما وجد المؤلفان أنفسهما مندفعين إلى دائرة نشطة وطموحة من الزملاء والأصدقاء والمنافسين وشركاء النقاش الفكري، وحوارات استمرت لسنوات، وتطورت بالتزامن مع تحول روسيا في عهد بوتين.
منذ بدايات حكم بوتين، بدأت ولاءات أصدقاء موسكو تتغير، حيث صُدم سولداتوف وبوروجان من رد جهاز الأمن الداخلي الروسي على أزمات احتجاز الرهائن في نورماندي- أوستريا ٢٠٠٢ وبيسلان ٢٠٠٤. لاحظا زملاءهم يتأثرون بالجهاز، من كتابة مقالات تصدر مباشرة من الأمن الفيدرالي إلى إنتاج أفلام وثائقية مليئة بنظريات المؤامرة ومعاداة الغرب، وشعرا بأن اثنين من أصدقائهما انتقلوا إلى «الجانب الآخر».
مع نهاية فترة الاستقلال النسبي لصحيفة إزفستيا، بدأ مسار سولداتوف وبوروجان ينحرف عن زملائهم الملتزمين بالقواعد. بدت مقاومة الوضع الجديد بلا جدوى، فتوجه الكثيرون للمسارات المهنية والمالية. في الوقت نفسه، أطلق سولداتوف وبوروجان موقعهما الاستقصائي «Agentura.ru» حول أجهزة الأمن الروسية، مشيرين لاحقا إلى شعورهم بعدم مواكبة جيلهم في منتصف الثلاثينيات.
منذ عام 2008، بدا مسار روسيا السياسي غامضا، مع تنحي بوتين مؤقتا لصالح ميدفيديف، ثم عودته للرئاسة عام 2012 وسط احتجاجات وقمع واسع. مع تصاعد السيطرة السياسية، بدأت الأيديولوجية الروسية الرسمية في الظهور، وبرزت مجموعة من القيم «الروسية» التي دافع عنها بوتين واعتبر معارضوه أعداء للبلاد. وفي هذه الأثناء، تغيّرت مواقف العديد من أصدقاء سولداتوف وبوروجان: بعضهم أصبح مؤيدا قويا للسلطة وشارك في دعم الحروب، بينما اضطر سولداتوف وبوروجان للفرار إلى لندن مع الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022.
يكتشف سولداتوف وبوروجان، أثناء مراجعة مسار أصدقائهما القدامى، أن الكثير من هذه النخبة المثقفة تحوّلت طوعا إلى أدوات في آلة الحرب الروسية، مؤيّدين الغزو وأيديولوجية الكرملين المعادية لليبرالية والغرب.
ويصف المؤلفان كيف يعيش الروس اليوم كما لو كانوا متفرجين على قوى لا يمكن مقاومتها، كما حدث في عهود الاستبداد السابقة. الخيار أمامهم - كما يرونه - إما البقاء خارج النظام مع حتمية الإقصاء والقمع، أو البقاء داخله والقيام بدور فيه. وقد اختار معظم أصدقاء المؤلفَين الطريق الثاني، مدفوعين بالطموح والرغبة في البقاء ضمن المنظومة.
ترى لارويل أنّ قصة أصدقاء سولداتوف وبوروجان تعبر عن القوى العميقة التي شكلت عهد بوتين. فالعلاقة بين النظام والمجتمع ليست استبدادا خالصا، بل علاقة تشاركية قائمة على عقد اجتماعي غير معلن يعاد تشكيله باستمرار.
لكن ثابتا واحدا لم يتغير: قناعة بوتين بأن مهمته هي إعادة روسيا إلى مكانة القوة العظمى. الوسائل وحدها هي التي تغيرت، إذ لجأ النظام إلى خليط من الأفكار- الأرثوذكسية والقيصرية والإرث السوفييتي والشعبوية و»الأوراسية»- لتبرير سياساته وتفسيرها.
توضح لارويل أن نظام بوتين انتقائي ونفعي، لا يقوم على عقيدة سياسية ثابتة، بل يسحب من «مخزن» الأفكار ما يخدم رؤيته ومصالحه في اللحظة. داخل هذه الديناميكية، يمكن للأفكار أن تصعد من النخب إلى القيادة كما يمكن أن تُلقى من فوق نزولا إلى المجتمع.
تضرب مثالا بإيفان إيلين الذي تبنى بوتين بعضا من أفكاره، بينما لم تصمَّم كتاباته أصلا للجمهور العام، بل للنخبة المحيطة بالسلطة. وتشير أيضا إلى «رواد الأعمال الفكريين» الذين يسمح لهم النظام بالدفع بأيديولوجياتهم الخاصة طالما أنها تفيد الدولة أو تتقاطع مع مصالحها- مثل الأوليغارشي المحافظ مالوفيف أو المنظّر المتطرف دوجين، الذي تُستخدم أفكاره بشكل انتقائي كلما احتاجها الكرملين.
وفق تحليل لارويل، بعد عودة بوتين للرئاسة عام 2012، تخلّى النظام بوضوح عن النموذج الغربي الحديث لصالح عقيدة انتقامية تبرز العداء للغرب والليبرالية، وتمجد عظمة روسيا وقادتها عبر التاريخ. تراكمت لدى بوتين والدائرة الأمنية حوله مظالم جيوسياسية- من الثورات الملونة إلى توسع الغرب شرقا- فتحولت إلى رؤية تعتبر النظام الليبرالي العالمي مجرد غطاء للهيمنة الأمريكية ومحاولة لتطويق روسيا.
هذه الرؤية دفعت بوتين إلى تبني دور «مهندس الفوضى» خارج حدوده، ومع تقدم النظام في العمر ازدادت نظرته للعالم تصلّبا. يبرز هنا مفهوم «روسيا الكاتيكونية»، الذي يصور روسيا كقوة مكلفة بحماية النظام العالمي من الانهيار، مستندة إلى مزيج من الأرثوذكسية كدرع روحي والقوة النووية كدرع مادي. في هذا الإطار تبرَر السياسات العدوانية- من ضمّ القرم إلى التدخل في سوريا- وتقدّم كأفعال ضرورية وفاضلة، وهو المنطق نفسه الذي يبرر الحرب الواسعة على أوكرانيا.
منحت الحرب في أوكرانيا نظام بوتين أيديولوجية أكثر تماسكا، إذ أعادت إحياء النزعة الإمبريالية الروسية وجمعت أفكار النظام المختلفة في قضية وجودية واحدة. ثلاثة عوامل خدمت الكرملين: تجنب الهزيمة في الميدان، خوف الروس من خسارة الحرب بغض النظر عن موقفهم من بدايتها، وضمان بقاء سلطة بوتين.
تستعرض لارويل ملامح «الإمبراطورية الروسية» كما يراها النظام: تعزيز نفوذ الدولة خارجيا، واستخدام خطاب قومي، وحماية النظام، ودور بوتين التاريخي الذي لا يُمس. وفي الوقت نفسه، نجحت موسكو في ترويج الحرب للداخل وللجنوب العالمي كـ«حرب تحرير» ضد الهيمنة الغربية، وهو تأطير براجماتي لكنه يعكس جانبا من رؤيتها للعالم.
وبما أن الاندماج مع الغرب بشروط روسية لم يتحقق، ترى موسكو أن التحالف مع العالم غير الغربي لتغيير النظام الدولي هو الخيار الأجدى.
ورغم أن الحرب صنعت دولة أكثر وحدة وأيديولوجية أوضح، إلا أن ذلك لا يعني أن بوتين يملك سلطة مطلقة. فحكمه يوصف بأنه لا يسعى لقولبة عقول الناس بل لتهميش الأيديولوجيات المنافسة وتقديم حوافز ضخمة للولاء. وترصد لارويل بدايات «فاشية مجزأة» يدعو بعض الروس من خلالها إلى عسكرة كاملة، في حين يفضل معظمهم عدم الانجرار للحرب وإبقائها بعيدة عن حياتهم اليومية والاقتصاد الثقافي والمدني.
يستفيد نظام بوتين حاليا من خضوع الناس لا حماسهم، لكن استمرار الحرب سيجبره على تجنيد مزيد من المقاتلين، معظمهم من المناطق الفقيرة التي تُغريها المكافآت المالية. ويعتمد نجاح أيديولوجية الدولة على قدرة الكرملين على حماية الطبقات العليا والمتوسطة من تأثير الحرب.
تتوقع لارويل أن الحرب ستنتهي، لكنها لا ترى أنها ستقود إلى انفتاح ليبرالي جديد؛ فالإعجاب السابق بالغرب تلاشى داخل المجتمع والنخبة. مؤيدو الحرب يرون الغرب عدوا، وحتى معارضوها يشعرون بالمرارة تجاه عجز الغرب وموقفه العقابي من الروس. كما أن الأوروبيين، في 2024، دفعوا لشراء الطاقة الروسية أكثر مما قدموا لأوكرانيا من مساعدات.
جوشوا يافا مراسل صحيفة النيويوركر في موسكو عين زميلا في مؤسسة نيو أمريكا لجهوده في روسيا، وحائز على جائزة برلين من الأكاديمية الأمريكية
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»