لعبة القط والفأر في البيت الأبيض
تاريخ النشر: 2nd, September 2025 GMT
جاءت محاولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إقالة عضوة مجلس الاحتياط الفدرالي ليزا كوك لتمثل تصعيدا جديدا ضمن مساعيه لإحكام السيطرة على مجريات الأمور في بلاده، على الرغم من تأكيد الكونغرس الأميركي منذ عقود على استقلالية بنك الاحتياط الفدرالي، باعتبارها تمثل أهمية خاصة لاحتفاظ البنك الأميركي بمكانته كبنك مركزي لبنوك العالم المركزية، ولضمان استمرار تبوُّؤ الاقتصاد الأميركي الصدارة بين أكبر اقتصادات العالم.
وبينما تمثل الخطوة منعطفا جديدا، إذ تُثير تساؤلا حول ما إذا كان بإمكان الرئيس الأميركي وحده أن يُقرر إقالة مسؤول في وكالة مستقلة يحمي القانون قادتها من الإقالة التعسفية، تتطلع الأعين في واشنطن والعالم إلى ما ستكون المحاكم الأميركية مستعدة وقادرة على القيام به، إذا رأى قضاتها أن مبررات ترامب ليست سوى ذريعة للسيطرة على البنك المركزي الأكبر في العالم، بعد أن أثبت رئيسه عدم اكتراثه بتهديدات الرئيس الأميركي.
وقرر الكونغرس منذ عقود أن الرئيس الأميركي يمكنه إقالة أي من محافظي البنك الفدرالي فقط إذا كان هناك "سبب وجيه"، وهو ما فسرته عدة محاكم أميركية بأنه تقصير من المحافظ في أداء عمله.
ورغم أن استقلالية البنك كانت تعني بالأساس عدم تدخل الرئيس أو أي من مساعديه، أو أعضاء الإدارة الأميركية في وضع السياسة النقدية للبلاد، لم تتوقف لعبة القط والفأر بين البيت الأبيض وبنك الاحتياط الفدرالي، منذ ما يقارب ثلاثة أرباع القرن.
وخلال فترة الحرب العالمية الثانية والسنوات القليلة التي تلتها، حافظ بنك الاحتياط الفدرالي الأميركي على سياسته القائمة على إبقاء معدلات الفائدة على ديون الحكومة الأميركية عند مستويات منخفضة. لكن مع اقتراب عام 1950 من نهايته، ارتفع التضخم بقوة، ورأى البنك الفدرالي أن الوقت قد حان لإنهاء سياسة الفائدة المنخفضة.
إعلانتقول بعض المصادر الأميركية إن الرئيس هاري ترومان كتب إلى رئيس البنك الفدرالي متوسلا إياه أن يُرجئ القرار، مستخدما لغة تتعلق بالأمن القومي، وملوحا بخطر الشيوعية السوفياتية والدكتاتور جوزيف ستالين. قال ترومان: "آمل ألا يسمح مجلسكم بانهيار سنداتنا المالية. إذا حدث ذلك، فهذا بالضبط ما يريده ستالين".
لكن الفدرالي قاوم الضغوط، ليقوم البيت الأبيض بعدها، لأول وآخر مرة في التاريخ الأميركي، باستدعاء أعضاء لجنة تحديد أسعار الفائدة بالكامل إلى البيت الأبيض للاجتماع مع الرئيس، إلا أن تطورات الأحداث بعدها أظهرت ثبات فريق البنك في المواجهة التي كانت محفوفة بالمخاطر.
وخلال أسابيع، توصل البنك الفدرالي وإدارة ترومان إلى تفاهم عُرف بـ"اتفاق وزارة الخزانة – الفدرالي"، حصل البنك المركزي بموجبه على حرية أكبر في تحديد أسعار الفائدة وفق ما يراه مناسبا.
ومثل هذا الاتفاق بداية فترة سلام هش بين البيت الأبيض والبنك المركزي، تعرضت للاختبار مرات عدة خلال نصف القرن اللاحق، لكنها أرست في النهاية قواعد النظام المؤسسي الذي بقي حتى يومنا هذا، حيث يتمتع البنك الفدرالي باستقلالية تشغيلية واسعة في تحديد أسعار الفائدة، واستخدام كافة أدوات السياسة النقدية الأخرى، من أجل تحقيق أهدافه، خاصة ما يتعلق منها بمستويات الأسعار والتشغيل في البلاد، وأيضا تحفيز معدلات نمو النشاط الاقتصادي.
ومنذ فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية 2024، سعى ترامب وفريقه الذي لا يعصي له أمرا لإيجاد مخرج يسمح لهم بالتراجع عن هذه الأعراف، بحسب ما ذكرته وسائل إعلام أميركية، من خلال منح الرئيس مساحة أكبر للتشاور مع رئيس البنك الفدرالي.
وسيكون اختيار ترامب لمن يتولى المنصب بعد انتهاء مدة الرئيس الحالي جيروم باول في مايو/أيار 2026، ومدى استعداد باقي أعضاء مجلس الاحتياط الفدرالي ورؤساء بنوك الاحتياط الـ12 لقبول ذلك، فاصلا في إفساح الطريق لترامب، أو كف يده عن البنك.
ويتكون مجلس محافظي بنك الاحتياطي الفدرالي من سبعة أعضاء يعيّنهم الرئيس لفترات تمتد 14 عاما، ويجب أن يقرّهم مجلس الشيوخ.
وهناك قانون منفصل يتيح للرئيس أن يختار أحد هؤلاء الأعضاء ليكون رئيس البنك الفدرالي لفترة 4 أعوام، أيضا بموافقة مجلس الشيوخ، لكنه لا يحدد بوضوح إن كان يمكن عزله بنفس المعايير.
وعين ترامب جيروم باول رئيسا للبنك الفدرالي في 2018 خلفا للمخضرمة جانيت يلين التي لم تجمعها علاقة ودية بالرئيس الأميركي، إلا أنه سرعان ما انقلب عليه عندما رفض إبقاء الفائدة منخفضة مع تحسن الاقتصاد. وأعاد الرئيس جو بايدن تعيين باول لفترة ثانية في 2022.
وخلال فترة رئاسة ترامب الأولى، وصف باول بالحماقة، وحاول إقالته، لامتناعه عن خفض الفائدة، لكن الأخير أوضح سرا وعلانية أنه لا يعتقد أن الرئيس يملك هذه الصلاحية. قال وقتها: "لن أترك هذا المنصب طوعا أبدا، وتحت أي ظرف، قبل انتهاء ولايتي. لا يخطر ببالي مطلقا أن هناك وضعا قد يمنعني من إكمالها سوى الموت".
وتحدث باول مرارا عن أهمية الدفاع عن استقلالية الفدرالي لضمان ثقة الناس بأن البنك سيفعل ما يلزم لكبح التضخم، حتى لو كان ذلك مؤلما. وقال الشهر الماضي: "المصداقية في ملف التضخم تعني كل شيء".
إعلانوخلال فترة رئاسته الأولى، حاول ترامب الضغط على البنك الفدرالي ورئيسه، من خلال الإعلان عن نيته الإطاحة به، وانتقاد سياساته أمام الشاشات، وترشيح خلفاء له، لكنه لم يمضِ بعيدا على أرض الواقع، إذ جاءت ردة فعل الأسواق سلبية وعنيفة، فارتفعت الفوائد على الديون الحكومية طويلة الأجل، وتراجعت أسعار الأسهم، وهو ما دفع الرئيس الأميركي للتراجع والتركيز على أولوياته الأخرى.
وتاريخيا، لم تمنع استقلالية البنك الفدرالي الرؤساء من محاولة الضغط عليه. ففي 1951، عندما تم التوصل لاتفاق الخزانة – الفدرالي، تم دفع رئيس البنك وقتها إلى الاستقالة، وخلفه وليام مارتن الذي ساهم في ترتيب الاتفاق.
وظن ترومان أن مارتن سينصاع له، لكن الأخير فاجأه في اجتماع بالبيت الأبيض قبل تعيينه رسميا، حين رفض إعطاء ضمانات بعدم رفع الفائدة، وقال إن الأسواق لن تنتظر الملوك أو الرؤساء أو وزراء الخزانة أو حتى محافظي البنك الفدرالي.
قاد مارتن البنك لعقدين كاملين، وعزز استقلاليته، لكنه صنع لنفسه أعداء أقوياء. ففي 1952، التقى مارتن بالرئيس ترومان صدفة في نيويورك، فحيّاه قائلا "مساء الخير سيادة الرئيس"، ليرد ترومان بكلمة واحدة فقط: "خائن!"
وتجدد التوتر في عهد ليندون جونسون أثناء حرب فيتنام، عندما ضغط على البنك الفدرالي لإبقاء الفائدة منخفضة، خلال سعيه لتمويل برنامجه الاجتماعي الطموح. وعندما رفض مارتن، استدعاه جونسون إلى مزرعته في تكساس حيث وبخه بعنف قائلا: "الأولاد يموتون في فيتنام، ومارتن لا يكترث!"
أما خلفه آرثر بيرنز، الذي عينه ريتشارد نيكسون، فقد كان نموذجا سلبيا للاستسلام للضغوط السياسية. ورغم سمعته كخبير اقتصادي قوي، فإن انشغاله بنيل رضا الرئيس أضعف قراراته، ليصبح رمزا لفشل البنك الفدرالي في السيطرة على التضخم.
وعندما جاء بول فولكر 1979، كان التضخم قد انفلت تماما، ما دعاه لإطلاق إستراتيجية جديدة سمحت للفوائد بالارتفاع إلى مستويات قياسية، وأدى ذلك إلى ركودين موجعين في الثمانينيات، إلا أنه نجح في القضاء على التضخم.
ومنذ ذلك الوقت، أصبح مبدأ استقلالية البنك الفدرالي راسخا باعتباره شرطا ضروريا لضبط الأسعار، حتى مع تغير الإدارات الرئاسية وتبدل أولوياتها.
تثبت التجارب التاريخية أن أي محاولة مستقبلية للحد من استقلالية البنك الفدرالي ستواجه ليس فقط قيودا قانونية، بل أيضا مقاومة مؤسساتية وخبرة تراكمت على مدى عقود، أثبتت جميعها أن الأسواق لا ترحم، وأن السياسة النقدية المستقلة تبقى خط الدفاع الأول ضد التضخم، وعدم الاستقرار الاقتصادي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات الرئیس الأمیرکی استقلالیة البنک البنک الفدرالی البیت الأبیض رئیس البنک
إقرأ أيضاً:
البيت الأبيض يحتضن نزال يو أف سيفي يوم ميلاد ترامب
في سابقة من نوعها، سيقام نزال في بطولة القتال النهائي (يو أف سي) في البيت الأبيض بمناسبة العيد الثمانين للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفقا لما أعلنه الأخير، ذلك رغم الإعلان سابقا عن إقامة الحدث المرتقب في 4 يوليو/تموز.
وقال ترامب -أمام حشد من البحّارة في القاعدة البحرية الضخمة في نورفولك بولاية فيرجينيا- إنه "في 14 يونيو (حزيران) من العام المقبل، سننظم نزالا كبيرا في بطولة يو أف سي على أرضية البيت الأبيض".
ولم يأتِ ترامب على الإشارة إلى أن التاريخ نفسه يصادف عيد ميلاده، أو أن العام المقبل سيكمل عامه الـ80.
وفي عيد ميلاد ترامب الـ79 هذا العام، أقام عرضا عسكريا لتخليد ذكرى تأسيس الجيش الأميركي.
وفي أغسطس/أب، أعلن رئيس اتحاد بطولة القتال النهائي "يو أف سي" دانا وايت، أن نزالا سيقام في البيت الأبيض في 4 يوليو/تموز العام المقبل، وهو اليوم الذي تحتفل فيه الولايات المتحدة بالذكرى الـ250 لتأسيسها.
ويُعد ترامب من الضيوف الدائمين لنزالات الفنون القتالية، حيث يتبادل المقاتلون اللكمات والركلات والاشتباك الجسدي في معركة بلا قيود تنتهي بالاستسلام أو بالضربة القاضية.
ويُشكل نقل هذه الرياضة القتالية العنيفة إلى مركز السلطة السياسية في الولايات المتحدة سابقة تاريخية.
وفي مؤتمر صحافي بثته القناة الرسمية لاتحاد بطولة القتال النهائي في يوتيوب، قال وايت إنهم سيبدؤون مطلع العام المقبل العمل على إعداد بطاقة نزالات البيت الأبيض، مؤكدا "أنها ستكون أعظم بطاقة نزالات أُطلقت في تاريخ هذه الشركة، دون أدنى شك".
ويُعد إتحاد "يو أف سي" أكبر وأنجح منظمة في عالم الفنون القتالية المختلطة (أم أم أيه)، وهي رياضة تجمع بين عدة أساليب قتالية مثل الجيوجيتسو، والكيك بوكسينغ، والملاكمة، والمصارعة.
إعلانوتُقام النزالات داخل حلبة بثمانية أضلاع تُعرف باسم "أوكتاغون"، ويُحيط بها سياج معدني.
ويُسمح للمقاتلين من الرجال والنساء باستخدام أي تقنية تقريبا لمهاجمة خصومهم مع بعض الاستثناءات على غرار خدش العين.
وتحظى الرياضة بشعبية كبيرة بين الشبان، الفئة الرئيسة في الانتخابات الأميركية عام 2024، كما أن ارتباط ترامب الطويل باتحاد "يو أف سي" جعل منه شخصية دائمة الحضور في أبرز فعالياتها، حيث يُستقبل هناك كنجم عالمي.
ونظرا لطبيعتها الوحشية ومعدل الإصابات المرتفع في منافساتها، تُعد رياضة مثيرة للجدل. وينتقد الأطباء احتمال حدوث تلف في الدماغ بين المقاتلين الذين يتعرضون للضرب بشكل متكرر في الرأس، رغم أنها اكتسبت قبولا متزايدا في السنوات الأخيرة.