بعد عامين من الحرب في السودان.. صعوبة تقفّي مصير قطع أثرية منهوبة
تاريخ النشر: 2nd, September 2025 GMT
شامخا ومتفردا، يقف التمثال الضخم للملك تهارقا، الذي حكم مملكة كوش القديمة طوال أكثر من عقدين، وحيدا في فناء متحف السودان القومي بالخرطوم. لم يعد محاطا بزوار معجبين أو باحثين متأملين، بل بحطام تماثيل أخرى وزجاج صناديق عرض مهشمة، في مشهد يروي بصمت مأساة وطن بأكمله. فبعد عامين من الإعلان الرسمي عن نهب المتحف، لا يزال البحث جاريا عن عشرات الآلاف من القطع الأثرية التي تبخرت في ظلام الحرب، والتي بدأ بعضها يظهر بشكل متقطع في دول مجاورة مثل مصر وتشاد وجنوب السودان.
تلخص روضة إدريس، ممثلة النيابة العامة السودانية في لجنة حماية المتاحف والمواقع الأثرية، حجم الكارثة بعبارة موجعة: "لم ينج من آثار المتحف القومي سوى الآثار الكبيرة أو الثقيلة التي يصعب حملها".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مجوهرات الدم.. إرث الاستعمار الأوروبي في نهب الألماس الأفريقيlist 2 of 2الشيخ المعصراوي: دمجنا المصحف الورقي والإلكتروني في 20 رواية مطبوعة ومسموعةend of listعند مدخل المتحف، تحولت الحديقة التي كانت يوما ما تضم أشجارا نادرة ونموذجا مصغرا لنهر النيل إلى ساحة قاحلة يملؤها العشب الجاف، تحرسها تماثيل آلهة الحرب الكوشية الصامتة، بينما يحمل السقف آثار قذائف غادرة. يصف حاتم النور، المدير السابق لهيئة الآثار والمتاحف، الإرث الذي ضاع بقوله لوكالة فرانس برس إن المتحف القومي كان "يضم أكثر من 500 ألف قطعة تغطي مساحة زمنية كبيرة جدا شكلت التاريخ العميق للشخصية السودانية".
في مارس/آذار الماضي، وطأت أقدام موظفي قطاع الآثار أرض المتحف للمرة الأولى منذ عامين، بعد أن استعاد الجيش السيطرة على وسط العاصمة. كانت الصدمة تفوق كل تصور، إذ فوجئوا بحجم الدمار الذي شمل معروضات لا تقدر بثمن. كانت الفاجعة الكبرى هي "غرفة الذهب" التي كانت تضم، بحسب إخلاص عبد اللطيف مديرة المتاحف في هيئة الآثار السودانية، "مقتنيات لا تقدر بالمال… قطعا من ذهب خالص من عيار 24، يعود عمر بعضها إلى نحو 8 آلاف عام".
تؤكد عبد اللطيف، التي ترأس أيضا وحدة متابعة الآثار المسروقة، أن هذه الغرفة "سرقت عن بكرة أبيها". وتشرح أن الكنز المفقود كان يضم حليا فريدة تعود لأفراد في الأسر الحاكمة في حضارة كوش، إلى جانب أدواتهم المذهبة وتماثيل مزخرفة بالمعدن الثمين. إنها كنوز حضارة ازدهرت بالتزامن مع الحضارة الرومانية، واتخذت من مدن نبتة ومروي في شمال السودان عواصم لها، وهي حضارة لا تقل ثراء عن الحضارة المصرية القديمة رغم كونها أقل شهرة عالميا.
اندلعت الحرب بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق محمد حمدان دقلو في أبريل/نيسان 2023، لتقسم البلاد وتخلف عشرات آلاف القتلى وملايين النازحين. في خضم هذه المأساة، وجهت الحكومة السودانية اتهاما مباشرا لقوات الدعم السريع "بتدمير آثار ومقتنيات تؤرخ للحضارة السودانية الممتدة على مدى 7 آلاف عام"، معتبرة ذلك "جريمة حرب"، وهي تهم تنفيها قوات الدعم السريع بشكل قاطع.
إعلانوكانت إخلاص عبد اللطيف قد أكدت في يونيو/حزيران 2023 أن قوات الدعم السريع سيطرت على المتحف القومي. وفي مطلع العام الحالي، كشفت لوسائل إعلام محلية أن مقتنيات المتحف نقلت بشاحنات كبيرة عبر أم درمان إلى غرب السودان، ومن هناك إلى حدود دولة جنوب السودان.
هذا النهب الممنهج دفع منظمة الأمم المتحدة للثقافة (يونسكو) في نهاية العام الماضي إلى إطلاق نداء عالمي، دعت فيه الجمهور إلى الامتناع عن الاتجار بالقطع الأثرية، مشددة على أهمية ما كان يحويه المتحف من "قطع أثرية مهمة وتماثيل ذات قيمة تاريخية ومادية كبيرة".
سباق لاستعادة الذاكرة المنهوبة
في مواجهة هذا الدمار، بدأت السلطات السودانية سباقا مع الزمن. فقد أكد مصدر مسؤول في هيئة الآثار لفرانس برس أن هناك تعاونا وثيقا مع دول الجوار لرصد واستعادة الآثار التي تُهرّب عبر الحدود. وتشير عبد اللطيف إلى أن التماثيل الجنائزية الكوشية تحديدا تلقى "رواجا كبيرا في السوق غير الشرعية لأنها جميلة الشكل وصغيرة الحجم يمكن حملها بسهولة".
لكن الغموض لا يزال يلف مصير القطع الأثمن. فلم تظهر أي من مقتنيات غرفة الذهب أو التماثيل الجنائزية في مزادات الآثار العلنية أو مسارات السوق الموازية حتى اليوم. وتعتقد عبد اللطيف أن الجزء الأكبر من عمليات التداول يتم بسرية وفي دوائر ضيقة، مؤكدة أن الحكومة السودانية، بالتعاون مع الإنتربول واليونسكو، تقوم "برصد كافة الأسواق".
وقد أكد الإنتربول لوكالة الصحافة الفرنسية انخراطه في جهود اقتفاء أثر الآثار السودانية المسروقة، من دون الكشف عن تفاصيل العمليات الجارية. لكن ثمار هذه الجهود بدأت تظهر، فقد أفادت روضة إدريس بتوقيف مجموعة أشخاص في ولاية نهر النيل بشمال السودان، "تضم أجانب وبحوزتها قطع أثرية"، مضيفة أن "التحقيقات جارية لمعرفة من أي متحف خرجت تلك الآثار". كما كشف مصدران في هيئة الآثار عن واقعة لافتة، حيث تواصلت إحدى المجموعات التي عبرت الحدود إلى مصر مع الخرطوم، عارضة إعادة آثار مسروقة مقابل مبالغ مالية.
لم تكن مأساة متحف السودان القومي حادثة معزولة. فالدمار عمّ الإرث الثقافي في كل مناطق الحرب. تقول إدريس بحسرة: "نهب أكثر من 20 متحفا في السودان، في الخرطوم والجزيرة ودارفور". وتضيف: "ما زلنا نجهل حجم الضرر في المناطق التي لم تحرر بعد". وتقدر الهيئة القومية للآثار والمتاحف الخسائر التي أمكن إحصاؤها حتى الآن بـ"110 ملايين دولار أميركي".
في أم درمان، على الضفة المقابلة للنيل، تحمل جدران متحف بيت الخليفة آثار طلقات الرصاص وقذائف المدفعية، بينما تحطمت مقتنياته التي تعود إلى القرن 18. ويؤكد حاتم النور أن "متحف علي دينار في مدينة الفاشر دُمّر أيضا، وهو المتحف الأكبر في إقليم دارفور"، بالإضافة إلى متحفي الجنينة ونيالا في الإقليم ذاته.
وشهد متحف نيالا في جنوب دارفور "قتالا شرسا" في محيطه، وفق مصدر محلي يتابع قائلا: "أصبحت المنطقة مدمرة تماما، ولا أحد يستطيع التحرك فيها باستثناء أفراد الدعم السريع". وتؤكد إخلاص عبد اللطيف أن المتحف تحول إلى "ثكنة عسكرية"، في صورة تختزل مصير الإرث الثقافي السوداني في زمن الحرب؛ ذاكرة أمة تسحق تحت أقدام المقاتلين.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات اجتماعي الدعم السریع عبد اللطیف
إقرأ أيضاً:
شجرة المتحف القومي ولصوصية الكيزان..!
شجرة المتحف القومي ولصوصية الكيزان..!
د. مرتضى الغالي
“كفاح الكيزان” من أجل العودة للسلطة (على أسنة الرماح) أعاد للذاكرة غرائب اللصوصية التي جرت في عهدهم السابق..! هل تذكرون “شجرة الصندل” التي كانت في فناء المتحف القومي بالخرطوم..؟!
اختفت فجأة من حديقة المتحف.. وسبّب ذلك حيرة للجميع..! وعُدّت هذه الواقعة من (غرائب السرقات) في عالم اللصوصية.. فمن كان يظن أن أحداً من الناس يمكن أن يقتلع شجرة من جذورها ويحملها إلى بيته..!
لذلك ذاع خبرها وتم نشر عدة تقارير حولها في وكالات ومواقع وصحف عالمية منها “صحيفة الشرق الأوسط”..!
عمر هذه الشجرة في ذلك الوقت كان 56 عاماً.. ويقدّر العائد من أخشابها بقيمة (700 ألف دولار).. فمن يعرف مثل هذه الحسابات غير الكيزان..؟!!
هم يعلمون أن مُخرجاتها تُستخدم في صناعة العطور من “خُمرة وبخور ودلكة”..! ولكن يأخذك العجب من هذه (الفكرة الشيطانية): سرقة شجرة باسقة تتأود مع الريح من حوش المتحف القومي..!
لم يترك اللصوص من جذعها المتشبّث بالأرض غير 25.2 سنتيمتر (وهي أقدم شجرة صندل في السودان تم جلبها من الهند، وزُرعت في خمسينيات القرن الماضي على يد خبير تصنيف الأشجار “أمين ميخائيل” مما أضفى عليها “قيمة تاريخية وآثارية”.. ولكن مال الكيزان وذلك..؟! المهم هو (قيمتها الدفترية)..!
قالت التقارير إن مثل هذه السرقة لا تتم إلا بمعرفة وإشراف (كبار كوادر الشريعة المدغمسة) الذين يسمحون بـ(الحركة الليلية) ويُشرفون على (الترتيبات الأمنية) وعلى تجهيز الناقلات و(مراعاة الصالح العام)..!
ولكن الأقوال تضاربت حول الآليات التي تم استخدامها في خلخلة جذع الشجرة وقطع ساقها وإخراجها عبر (البوابة الرئيسية) مع وجود الخفراء والحرّاس..!
ولم يُعرف كذلك المكان الذي تم فيه تشذيب أطرافها ولملمة فروعها والتخلّص من أوراقها.. وتشريحها إلى أحجام أصغر قابلة (للنقل والتسويق)..!
وبعد انتشار خبر السرقة وبداية التحرّيات حولها تكفّل قضاء الكيزان ونيابته العامة و”ديوان الحِسبة والمظالم” بقتل القضية وإغلاق ملفاتها.. لأن (حاميها هو حراميها)..!
لقد كانت حكاية مشوّقة لمأساويتها وطرافتها الموجعة ولـ(صغارة نفس) هؤلاء القوم..! وقد كانت تستحق المتابعة رغم أنها تدور في ذات السياق المعروف عن شره وطمع الكيزان وتتبّعهم لكل شاردة وواردة تدًر المال..! لا يرون (فلساً طائراً) إلا وركبوا له السلطة وأتوا به من قرونه..!
هذا ليس غريباً فقد قام الكيزان الكبار بخصخصة واحتكار (الدرداقات) التي كان الصبيان الصغار يدحرجونها لنقل خضار المتسوّقين من أجل توفير مصروف إفطار المدرسة وشراء بعض أرغفة الخبز لأهاليهم..!
فعلاً كانت قصة هذه الشجرة المسكينة تستحق أن تكون رواية على غرار موسم الهجرة إلى الشمال أو رواية مارغريت ميتشل (ذهب مع الريح)..!
إنها مثل (حكاية الزرافة الشهيرة) التي خرجت من السودان في رحلة عجيبة إلى ميناء مرسيليا في فرنسا عبر الإسكندرية.. عندما قرر “محمد علي باشا” إهداء زرافة سودانية إلى “شارل العاشر” ملك فرنسا..!
وجرى استقبال هذه الزرافة (استقبالاً دبلوماسياً) وأُعجب بها الفرنسيون إعجاباً بلغ إقامة الكرنفالات وفرش الأبسطة تحت إقدامها..! وقامت بيوت الأزياء الشهيرة بمحاكاة لونها وخطوط جلدها في موضات ربطات العنق والأحذية والمعاطف وأغطية الرأس.. وتم تأليف السيمفونيات والمقطوعات الموسيقية التي تحمل اسمها.. إلخ
لقد عُرف ذلك لاحقاً بـ”هوس الزرافة”.. حتى بعد وفاتها (عام 1845) حيث جرى تحنيطها وعرضها في متحف التاريخ الطبيعي بمدينة “لاروشيل” كواحدة من أغرب الهدايا السيادية في التاريخ..!
أنت (كوز)..؟! إذن انهب واسرق ما شئت..! ولو كانت شجرة في فناء متحف السودان القومي.. الله لا كسّبكم..!
الوسومالاسكندرية السودان الكيزان المتحف القومي الهند د. مرتضى الغالي شارل العاشر شجرة الصندل فرنسا مارسيليا مارغريت ميتشل محمد علي باشا