غزة على مفترق الطرق.. بين الحرب الممتدة وفقدان المشروع الوطني.. كتاب جديد
تاريخ النشر: 4th, September 2025 GMT
الكتاب: غزة، مدخل إلى الحرب الممتدة
المؤلف: أسعد غانم
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
" نحن أمام تحول استراتيجي وجوهري في الصراع.. إسرائيل تنشد الآن إخراجا كاملا لمشروع دولة إسرائيل أو أرض إسرائيل، وهي جاهزة أكثر لتعزيز نظام التفوق العرقي في فلسطين التاريخية، وتنسف نهائيا مشروع الدولتين.. وتعمل على تصفية قضية اللاجئين والعودة.
هذه الفقرة جزء من مقدمة الباحث والأكاديمي الفلسطيني أسعد غانم لكتابه الذي يطرح مقولة أساسية هي أن الحرب التي نشهدها اليوم في غزة حرب مستمرة وممتدة ونهايتها غير معلومة، وربما تفتح الباب على مواجهة فلسطينية وعربية ودولية مع إسرائيل. وهو يناقش إلى ذلك ارهاصات هذه الحرب والظروف التي أدت إليها، إسرائيليا وفلسطينيا، وتداعياتها وآثارها.
إن ما تقوم به إسرائيل من إبادة وتطهير عرقي في غزة، بلغ ذروة جديدة لم تكن وصلت إليه من قبل، جاء بسبب ما أدركته من تصميم لدى الفلسطينيين على مقاومة الاحتلال وتعبيرهم عن ذلك بطريقة غير مسبوقة، فانطلقت إسرائيل "الرسمية والشعبية"، التي يزدهر فيها اليمين وتتصاعد فيها الفاشية لتشكل تيارا مركزيا في سياساتها، بتصميم أكبر لاستكمال مشروع السيطرة على فلسطين التاريخية وفرض التفوق اليهودي والانتقام من الفلسطينيين وإخضاعهم.كما يشرح تطورات الحركة الوطنية الفلسطينية قبل طوفان الأقصى وبعده، وصعود حماس إلى مركز فعل المقاومة ضد إسرائيل، في الوقت الذي تراجعت فيه منظمة التحرير وفصائلها عن هذا الدور. ويحاول فهم "الحالة المستعرة" في إسرائيل للانتقام من الفلسطينيين عموما وأهل غزة على وجه الخصوص، ويناقش التطورات العربية والدولية بخصوص الحرب على غزة على المستويين الرسمي والشعبي.
الطريق إلى حرب غزة
ينظر غانم إلى هجوم "طوفان الأقصى" باعتباره لحظة فارقة جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني ضد إسرائيل، وهو إلى ذلك شكل صدمة غير مسبوقة للكيان بحيث أصبحت جملة "إخفاق تاريخي وغير مسبوق" هي الجملة التي تستخدم لتوصيف نتيجة "الهجوم الغزي". وأهم ما يجب ملاحظته أننا أمام تطورات فلسطينية وإسرائيلية داخلية أدت بنا إلى واقع الحال اليوم. فقد جاءت عملية حماس الكبيرة والناجحة" في السابع من أكتوبر في سياق رؤية الحركة لنفسها باعتبارها المدافعة عن الفلسطينيين والحاملة لمشروعهم الوطني في ظل غياب أي مشروع سياسي فلسطيني شامل لإنجاز التحرير أو التصدي للتجاوزات الإسرائيلية.
ومن جهة أخرى فإن ما تقوم به إسرائيل من إبادة وتطهير عرقي في غزة، بلغ ذروة جديدة لم تكن وصلت إليه من قبل، جاء بسبب ما أدركته من تصميم لدى الفلسطينيين على مقاومة الاحتلال وتعبيرهم عن ذلك بطريقة غير مسبوقة، فانطلقت إسرائيل "الرسمية والشعبية"، التي يزدهر فيها اليمين وتتصاعد فيها الفاشية لتشكل تيارا مركزيا في سياساتها، بتصميم أكبر لاستكمال مشروع السيطرة على فلسطين التاريخية وفرض التفوق اليهودي والانتقام من الفلسطينيين وإخضاعهم.
إننا، بحسب ما يرى غانم، أمام حرب سوف تستمر لسنوات، ولن تنتهي إلا بصفقة تاريخية مختلفة عن كل ما حدث حتى الآن، يصل فيها الإسرائيليون والفلسطينيون إلى وضع جديد، قد ينفذ فيه واحد من السيناريوهات الثلاثة التالية "بعيدة المنال" وهي: التقسيم المستند إلى مصالحة تفضي إلى دولتين مستقلتين، أو الدولة الواحدة وإنهاء الوضع الاستعماري والأبرتهايد في فلسطين التاريخية، أو الهيمنة الكاملة لأحد الطرفين، بحيث تصل تطلعات الطرف الضعيف بالحصول على حقوق جماعية ـ قومية إلى حالة من الضمور والانتهاء.
لكنها كما أسلف حلول لن تتحقق في المدى المنظور. بينما يستند سيناريو الحرب الممتدة إلى تبريرات واقعية منها أن فكرة انسحاب إسرائيل من غزة تبدو غير مطروحة، إسرائيليا، على الأقل. فقد نشر بنيامين نتنياهو في فبراير 2024 خطة تنص على أن "إسرائيل ستحافظ على حرية العمليات في قطاع غزة، دون حدود زمنية، من أجل منع عودة الإرهاب.. وإن المنطقة الأمنية التي أقيمت في قطاع غزة في محيط حدود إسرائيل ستظل قائمة، وأنه سيتم إغلاق جنوب الحدود بين غزة ومصر". وهي خطة يرى غانم أن أي حكومة إسرائيلية ستأتي ستجد فيها تصورا منطقيا يجب الالتزام به، لتضمن بذلك قدرتها على التوغل والانسحاب بما يشبه الوضع الحالي في الضفة الغربية.
لكن في مقابل التصورات الإسرائيلية هناك موقف شعبي فلسطيني يعتقد أن المقاومة قادرة على التصدي للتوغلات الإسرائيلية حتى وإن كان ذلك بأدوات عسكرية محدودة. أضف إلى ذلك فإن حماس، التي "أضعفت وأنهكت" لم تهزم، وهو ما تصرح به قيادات في الجيش الإسرائيلي، ما يعني أنها قادرة على استعادة دورها في المشهد الغزي في "اليوم التالي". وعدا ما سبق فإن تطورات الحرب وتفاصيلها القاسية، والأثمان الباهظة التي دفعها الفلسطينيون، تثير الكثير من الشكوك اليوم حول أي إمكانية لوقوع تفاهمات متبادلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. يقول غانم إن الإعلان عن هدنة أو وقف لإطلاق النار لا يعني أننا أمام نهاية للصراع. الحرب ستأخذ أشكالا مختلفة ولن تتوقف خلالها الاجتياحات العسكرية الواسعة.
غياب المشروع الوطني
يرى غانم أن التوحش الإسرائيلي ضد غزة والفلسطينيين بشكل عام يمثل امتدادا لحالة دائمة من التصعيد منذ النكبة، لكنه تفاقم أكثر في مرحلة ما بعد أوسلو، ومع صعود نتنياهو لرئاسة الوزراء عام 2009. فمعارضة نتنياهو لأي استراتيجية لتحقيق السلام مع الفلسطينيين ليست تلاعبا سياسيا للمحافظة على ائتلافه اليميني، بل منهجا راسخا ومتعمدا لتمكين إسرائيل من الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية، مع السعي الحثيث "لإضعاف وتهميش الحركة الوطنية الفلسطينية، واعدا الجمهور الإسرائيلي بأن الازدهار يمكن تحقيقه دون سلام".
يرى غانم أن التوحش الإسرائيلي ضد غزة والفلسطينيين بشكل عام يمثل امتدادا لحالة دائمة من التصعيد منذ النكبة، لكنه تفاقم أكثر في مرحلة ما بعد أوسلو، ومع صعود نتنياهو لرئاسة الوزراء عام 2009. فمعارضة نتنياهو لأي استراتيجية لتحقيق السلام مع الفلسطينيين ليست تلاعبا سياسيا للمحافظة على ائتلافه اليميني، بل منهجا راسخا ومتعمدا لتمكين إسرائيل من الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية، مع السعي الحثيث "لإضعاف وتهميش الحركة الوطنية الفلسطينية، واعدا الجمهور الإسرائيلي بأن الازدهار يمكن تحقيقه دون سلام".ومع هذه الاستراتيجية العدائية المتنامية ساهم الوضع الفلسطيني الداخلي المهلهل في وصولنا إلى "طوفان الأقصى" وتداعيات الحرب التي نشهدها اليوم. يوجه غانم انتقادات واضحة للفلسطينيين عموما والكيانات التي يفترض أنها ممثلة لهم، مثل منظمة التحرير، والسلطة الوطنية، وحتى الفلسطينيين في إسرائيل، ويرى أنهم جميعا أخفقوا في تقديم الحد الأدنى من الدعم والمساندة لغزة، ويقول إن "أهم ما حصل فلسطينيا قبل الحرب بوقت طويل هو غياب أي مشروع جدي وفاعل لإعادة الاعتبار للفلسطينيين ولحركتهم الوطنية.. ورغم إن إسرائيل، من خلال نهجها العنصري والفاشي، تعطي الفلسطينيين فرصة تاريخية لمجابهتها دوليا وعربيا وفلسطينيا وحتى إسرائيليا، لكن مع قيادة يمثلها محمود عباس فإننا نكون قد وصلنا إلى الهزيمة الكاملة فلسطينيا".
أما وقد اندلعت الحرب فإن القيادة الفلسطينية في رام الله لم تقم بدورها المطلوب في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية سواء في غزة أو في باقي الأراضي المحتلة التي تتعرض باستمرار لانتهاكات صارخة من قبل المستوطنين وجيش الاحتلال، "فيما ينتظر عباس وسلطة رام الله انتهاء الحرب ليكون لهم دور في ترتيبات اليوم التالي وخصوصا في قضايا الإعمار التي تعتبر لبعض قيادات السلطة وأبنائهم مناسبة للاستثمار". ويضيف أن هذه القيادات تمنى النفس كذلك بتفعيل العملية السياسية والتقدم في مسار قيام دولة فلسطينية، وهو ما يراه أوهاما غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع، إلا لمن يقبلون أن تكون هذه الدولة "بانتوستانا يرعى ويتابع الحاجات المدنية للفلسطينيين داخل حدوده، ويهتم بحماية إسرائيل وأمنها".
أما عن حماس ومستقبلها، فيلفت غانم إلى أن آثار الحرب الكارثية كشفت عن مأزق عسكري للحركة، وعن أنها لم تكن قادرة على تحضير غزة لسيناريو الحرب خلال فترة حكمها، وعن أن المجتمع الغزي يعاني من الضعف والترهل وانعدام التخطيط والتنسيق. وإلى ذلك يقر بأن مستقبل الحركة لا يمكن أن يتضح قبل نهاية الحرب، فرغم أنها لا تزال تحظى بتأييد شعبي كبير فإن مستقبلها السياسي محكوم بتطورات لا بد قادمة في المشهد الفلسطيني والدولي. إلا أنه "لا يمكن تخيل مستقبل سياسي للفلسطينيين من دون حماس".
يقول غانم إن أهم ما يمكن فعله فلسطينيا السعي إلى تغيير جذري في الأداء الرسمي والشعبي. وهو ما يستدعي تغييرا جذريا في طرق النضال ضد إسرائيل. إذ يرى أن الفلسطينيين يقفون اليوم أمام مفترق طرق" فإما الاندثار نهائيا كجماعة وطنية واحدة او الانطلاق نحو التصرف كشعب متماسك تقوده قيادات تليق به وتستطيع صياغة طريق واضح نحو المستقبل".
على صعيد عربي ودولي يشير غانم إلى حالة من الانقسام الحاد بين مواقف الشعوب والحكومات. فالمواقف الرسمية عبرت عن دعم واضح لإسرائيل وتبرير جرائمها، وإن كانت هناك مواقف لبعض الدول منددة بالجرائم الإسرائيلية فإنها لم تكن مؤثرة، بل إن الكثير من هذه الدول واصل التعامل بشكل طبيعي مع إسرائيل متغاضيا عن كونها "دولة مارقة تتحدى القوانين والأعراف الدولية وتمارس جرائمها أمام العالم".
في المقابل عبرت الشعوب عن مواقف أكثر شجاعة وإنسانية، ونددت بالمجازر الإسرائيلية، ودعت إلى وقف الحرب فورا، ومقاطعة إسرائيل وبضائعها وأنشطتها، وشارك في ذلك العديد من المشاهير والشخصيات البارزة. وهذا شكل بدون شك ضغطا ملحوظا على الحكومات الداعمة لإسرائيل في أوروبا والولايات المتحدة، لاتخاذ مواقف أكثر توازنا. يقول غانم أن هذه الاحتجاجات تساهم في "قلب معاناة غزة إلى أداة مركزية لتغييرات كونية". ويلفت إلى أن دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية تطور نوعي ضد إسرائيل. فهذه الدولة التي احتكرت خطاب الضحية متهمة الآن في أعلى هيئة قضائية بالتهمة نفسها التي وجهت للنازية، "إن إسرائيل في ورطة جدية لن تستطيع الإفلات منها بسهولة".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الحرب فلسطين الاحتلال احتلال فلسطين كتاب حرب مآلات كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فلسطین التاریخیة ضد إسرائیل إسرائیل من إلى ذلک غانم أن فی غزة لم تکن
إقرأ أيضاً:
روسيا التي صنعها بوتين.. كيف أُعيد تشكيل البلاد ؟
قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، ومع مطلع عهد فلاديمير بوتين، كان مستقبل روسيا السياسي يبدو غامضا ومتضاربا. فقد عززت الدولة بعض الحريات وقمعت غيرها؛ وألمحت إلى الديمقراطية، لكنها أبقت على قبضتها المحكمة في إدارة الشؤون السياسية.
فتحت الباب أمام رأسمالية السوق، لكنها سمحت في الوقت نفسه للأوليغارشيين والمقربين من السلطة والمسؤولين بالاستحواذ على تلك الأسواق. وتسامحت مع مساحة محدودة من الصحافة الجريئة وإن كانت تعرض أصحابها للضغوط والتهديد.
والأهم أن ارتفاع أسعار النفط وتحسن مستويات المعيشة وتنامي العلاقات مع الغرب جعلت روسيا تبدو وكأنها توفر حياة مستقرة وواعدة لمواطنيها، ما داموا يلتزمون بالابتعاد عن السياسة.
ما افتقرت إليه الدولة، وليس مصادفة، هو أي توجه أيديولوجي واضح. وكان ذلك انعكاسا مباشرا للواقع السياسي في مرحلة ما بعد 1991، حين اعتاد الروس الشك بعد تجربة تدهور الاتحاد السوفييتي ثم انهياره. فقد أصبح فرض قناعة جماعية مهمة صعبة، ومكاسبها غير مؤكدة.
ومع دخول القرن 21، حمل الروس رؤى متناقضة: هل كانت الشيوعية مشروعا نبيلا أم خطأ فادحا؟ وهل شكل انهيار الاتحاد السوفييتي لحظة تحرر وفرص، أم بداية معاناة؟ في ظل هذا الارتباك، بدا للسلطة أن الحفاظ على مساحة رمادية واسعة - تشبه إلى حد ما عالم السياسة الحزبية الأمريكية - أنفع من فرض عقيدة محددة أو تحديد ما يجب على الناس الإيمان به.
لكن الأمر كان أيضا مسألة قانونية. فقد اعترفت المادة 13 من دستور روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي رسميا بالتنوع الأيديولوجي للدولة، وحظرت تأسيس دولة بأيدولوجية واحدة. حتى بوتين لم يُبدِ أي التزام بهذا المبدأ. كما لاحظ الصحفيان الاستقصائيان الروسيان أندريه سولداتوف وإيرينا بوروجان في كتابهما: أصدقاؤنا الأعزاء في موسكو: القصة الداخلية لجيل مكسور(الشؤون العامة، 2025، 336 صفحة).
أجرى زملاؤهما مقابلة مع بوتين عام ٢٠٠٠، في الأشهر الأولى من توليه منصبه، وسألوه عما إذا كانت روسيا بحاجة إلى أيديولوجية جديدة. رفض الفكرة رفضا قاطعا. وقال: «لا يمكن اختراعها عمدا»، مضيفا أن البلاد بحاجة بدلا من ذلك إلى «تعزيز الدولة والاقتصاد والمؤسسات الديمقراطية، بما في ذلك حرية الصحافة».
اليوم، يبدو هذا وكأنه خيالٌ منسيٌّ منذ زمن. لم يعد الكرملين متمسكا بأي ادعاءات ديمقراطية. يبدو أن بوتين مقدر له أن يحكم إلى أجلٍ غير مسمى، وحتى في المراحل الأخيرة من الانتخابات، يمنع المرشحون المستقلون من الترشح.
اختفت الصحافة الحرة، وكذلك جميع أنواع الحريات الأساسية، مهما كانت محدودة: فضغط «إعجاب» على منشور خاطئ على وسائل التواصل الاجتماعي أو تبرع لمؤسسة تُعتبر غير قانونية يكفيان لعقوبة سجن طويلة.
انقطع الاقتصاد إلى حد كبير عن الغرب؛ السفر إلى أوروبا محفوف بالمخاطر ومكلف ومعقد. والأهم من ذلك كله، استغلت الدولة الأيديولوجية لتبرير نفسها أمام الجمهور وتقديم رواية توجيهية: إمبريالية وعسكرية، محافظة ومعادية للغرب.
كتابان جديدان يتتبعان منحنى هذا التحول، ويعرضان عودة ظهور الأيديولوجية كمسألة محورية لكل من الدولة والمواطن في روسيا اليوم. في كتاب أصدقائنا الأعزاء في موسكو، ينظر سولداتوف وبوروجان إلى جيلهم .
يرويان قصة مجموعة من الأصدقاء والزملاء السابقين، الشباب الروس الذين، على مدار سنوات بوتين، تكيفوا بثبات مع النظام الحاكم، وانجرفوا نحو الأفكار والتبريرات القومية وغير الليبرالية، وانتهى بهم الأمر كمؤيدين لحرب روسيا في أوكرانيا. من خلال تركيز كتابهما على القيم المتغيرة لهؤلاء الأصدقاء، يوضح سولداتوف وبوروجان كيف أن استراتيجية بوتين المتعمدة «لعزل روسيا عن الغرب»، كما قالا، قد قويت من قبل الروس أنفسهم.
في كتابها الأيديولوجية وصنع المعنى في ظل نظام بوتن، (مطبعة جامعة ستانفورد، ٢٠٢٥، ٤١٤ صفحة)، توضح المؤرخة وخبيرة العلوم السياسية الفرنسية مارلين لارويل كيف كانت الديناميكية المتغيرة باستمرار بين الدولة والمجتمع أساسية في قوة بوتن. تشير الكاتبة إلى أن جهود بوتين لبناء أيديولوجية وطنية إمبريالية جديدة لا تعتمد فقط على قيم مفروضة من الأعلى، بل تعتمد أيضا على استغلال الأفكار والتوجهات الفكرية السائدة في المجتمع.
وتشير هذه الكتب مجتمعة إلى أن الأفكار التي حركت حرب روسيا المستمرة في أوكرانيا وصراعها الأوسع مع الغرب، ليست تعسفية أو غير عقلانية، بل إنها نتاج التفاعل الطويل والمتطور بين نظام بوتين والشعب الذي يحكمه.
في الصفحات الافتتاحية من أصدقائنا الأعزاء في موسكو، تم تعيين سولداتوف وبوروجان للتو في صحيفة إزفستيا، صحيفة رسمية سابقة، ثم أصبحت صحيفة مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
خلال التسعينيات، اكتسبا قدرا ضئيلا من الحرية الجريئة في قول الحقيقة للسلطة، وسرعان ما وجد المؤلفان أنفسهما مندفعين إلى دائرة نشطة وطموحة من الزملاء والأصدقاء والمنافسين وشركاء النقاش الفكري، وحوارات استمرت لسنوات، وتطورت بالتزامن مع تحول روسيا في عهد بوتين.
منذ بدايات حكم بوتين، بدأت ولاءات أصدقاء موسكو تتغير، حيث صُدم سولداتوف وبوروجان من رد جهاز الأمن الداخلي الروسي على أزمات احتجاز الرهائن في نورماندي- أوستريا ٢٠٠٢ وبيسلان ٢٠٠٤. لاحظا زملاءهم يتأثرون بالجهاز، من كتابة مقالات تصدر مباشرة من الأمن الفيدرالي إلى إنتاج أفلام وثائقية مليئة بنظريات المؤامرة ومعاداة الغرب، وشعرا بأن اثنين من أصدقائهما انتقلوا إلى «الجانب الآخر».
مع نهاية فترة الاستقلال النسبي لصحيفة إزفستيا، بدأ مسار سولداتوف وبوروجان ينحرف عن زملائهم الملتزمين بالقواعد. بدت مقاومة الوضع الجديد بلا جدوى، فتوجه الكثيرون للمسارات المهنية والمالية. في الوقت نفسه، أطلق سولداتوف وبوروجان موقعهما الاستقصائي «Agentura.ru» حول أجهزة الأمن الروسية، مشيرين لاحقا إلى شعورهم بعدم مواكبة جيلهم في منتصف الثلاثينيات.
منذ عام 2008، بدا مسار روسيا السياسي غامضا، مع تنحي بوتين مؤقتا لصالح ميدفيديف، ثم عودته للرئاسة عام 2012 وسط احتجاجات وقمع واسع. مع تصاعد السيطرة السياسية، بدأت الأيديولوجية الروسية الرسمية في الظهور، وبرزت مجموعة من القيم «الروسية» التي دافع عنها بوتين واعتبر معارضوه أعداء للبلاد. وفي هذه الأثناء، تغيّرت مواقف العديد من أصدقاء سولداتوف وبوروجان: بعضهم أصبح مؤيدا قويا للسلطة وشارك في دعم الحروب، بينما اضطر سولداتوف وبوروجان للفرار إلى لندن مع الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022.
يكتشف سولداتوف وبوروجان، أثناء مراجعة مسار أصدقائهما القدامى، أن الكثير من هذه النخبة المثقفة تحوّلت طوعا إلى أدوات في آلة الحرب الروسية، مؤيّدين الغزو وأيديولوجية الكرملين المعادية لليبرالية والغرب.
ويصف المؤلفان كيف يعيش الروس اليوم كما لو كانوا متفرجين على قوى لا يمكن مقاومتها، كما حدث في عهود الاستبداد السابقة. الخيار أمامهم - كما يرونه - إما البقاء خارج النظام مع حتمية الإقصاء والقمع، أو البقاء داخله والقيام بدور فيه. وقد اختار معظم أصدقاء المؤلفَين الطريق الثاني، مدفوعين بالطموح والرغبة في البقاء ضمن المنظومة.
ترى لارويل أنّ قصة أصدقاء سولداتوف وبوروجان تعبر عن القوى العميقة التي شكلت عهد بوتين. فالعلاقة بين النظام والمجتمع ليست استبدادا خالصا، بل علاقة تشاركية قائمة على عقد اجتماعي غير معلن يعاد تشكيله باستمرار.
لكن ثابتا واحدا لم يتغير: قناعة بوتين بأن مهمته هي إعادة روسيا إلى مكانة القوة العظمى. الوسائل وحدها هي التي تغيرت، إذ لجأ النظام إلى خليط من الأفكار- الأرثوذكسية والقيصرية والإرث السوفييتي والشعبوية و»الأوراسية»- لتبرير سياساته وتفسيرها.
توضح لارويل أن نظام بوتين انتقائي ونفعي، لا يقوم على عقيدة سياسية ثابتة، بل يسحب من «مخزن» الأفكار ما يخدم رؤيته ومصالحه في اللحظة. داخل هذه الديناميكية، يمكن للأفكار أن تصعد من النخب إلى القيادة كما يمكن أن تُلقى من فوق نزولا إلى المجتمع.
تضرب مثالا بإيفان إيلين الذي تبنى بوتين بعضا من أفكاره، بينما لم تصمَّم كتاباته أصلا للجمهور العام، بل للنخبة المحيطة بالسلطة. وتشير أيضا إلى «رواد الأعمال الفكريين» الذين يسمح لهم النظام بالدفع بأيديولوجياتهم الخاصة طالما أنها تفيد الدولة أو تتقاطع مع مصالحها- مثل الأوليغارشي المحافظ مالوفيف أو المنظّر المتطرف دوجين، الذي تُستخدم أفكاره بشكل انتقائي كلما احتاجها الكرملين.
وفق تحليل لارويل، بعد عودة بوتين للرئاسة عام 2012، تخلّى النظام بوضوح عن النموذج الغربي الحديث لصالح عقيدة انتقامية تبرز العداء للغرب والليبرالية، وتمجد عظمة روسيا وقادتها عبر التاريخ. تراكمت لدى بوتين والدائرة الأمنية حوله مظالم جيوسياسية- من الثورات الملونة إلى توسع الغرب شرقا- فتحولت إلى رؤية تعتبر النظام الليبرالي العالمي مجرد غطاء للهيمنة الأمريكية ومحاولة لتطويق روسيا.
هذه الرؤية دفعت بوتين إلى تبني دور «مهندس الفوضى» خارج حدوده، ومع تقدم النظام في العمر ازدادت نظرته للعالم تصلّبا. يبرز هنا مفهوم «روسيا الكاتيكونية»، الذي يصور روسيا كقوة مكلفة بحماية النظام العالمي من الانهيار، مستندة إلى مزيج من الأرثوذكسية كدرع روحي والقوة النووية كدرع مادي. في هذا الإطار تبرَر السياسات العدوانية- من ضمّ القرم إلى التدخل في سوريا- وتقدّم كأفعال ضرورية وفاضلة، وهو المنطق نفسه الذي يبرر الحرب الواسعة على أوكرانيا.
منحت الحرب في أوكرانيا نظام بوتين أيديولوجية أكثر تماسكا، إذ أعادت إحياء النزعة الإمبريالية الروسية وجمعت أفكار النظام المختلفة في قضية وجودية واحدة. ثلاثة عوامل خدمت الكرملين: تجنب الهزيمة في الميدان، خوف الروس من خسارة الحرب بغض النظر عن موقفهم من بدايتها، وضمان بقاء سلطة بوتين.
تستعرض لارويل ملامح «الإمبراطورية الروسية» كما يراها النظام: تعزيز نفوذ الدولة خارجيا، واستخدام خطاب قومي، وحماية النظام، ودور بوتين التاريخي الذي لا يُمس. وفي الوقت نفسه، نجحت موسكو في ترويج الحرب للداخل وللجنوب العالمي كـ«حرب تحرير» ضد الهيمنة الغربية، وهو تأطير براجماتي لكنه يعكس جانبا من رؤيتها للعالم.
وبما أن الاندماج مع الغرب بشروط روسية لم يتحقق، ترى موسكو أن التحالف مع العالم غير الغربي لتغيير النظام الدولي هو الخيار الأجدى.
ورغم أن الحرب صنعت دولة أكثر وحدة وأيديولوجية أوضح، إلا أن ذلك لا يعني أن بوتين يملك سلطة مطلقة. فحكمه يوصف بأنه لا يسعى لقولبة عقول الناس بل لتهميش الأيديولوجيات المنافسة وتقديم حوافز ضخمة للولاء. وترصد لارويل بدايات «فاشية مجزأة» يدعو بعض الروس من خلالها إلى عسكرة كاملة، في حين يفضل معظمهم عدم الانجرار للحرب وإبقائها بعيدة عن حياتهم اليومية والاقتصاد الثقافي والمدني.
يستفيد نظام بوتين حاليا من خضوع الناس لا حماسهم، لكن استمرار الحرب سيجبره على تجنيد مزيد من المقاتلين، معظمهم من المناطق الفقيرة التي تُغريها المكافآت المالية. ويعتمد نجاح أيديولوجية الدولة على قدرة الكرملين على حماية الطبقات العليا والمتوسطة من تأثير الحرب.
تتوقع لارويل أن الحرب ستنتهي، لكنها لا ترى أنها ستقود إلى انفتاح ليبرالي جديد؛ فالإعجاب السابق بالغرب تلاشى داخل المجتمع والنخبة. مؤيدو الحرب يرون الغرب عدوا، وحتى معارضوها يشعرون بالمرارة تجاه عجز الغرب وموقفه العقابي من الروس. كما أن الأوروبيين، في 2024، دفعوا لشراء الطاقة الروسية أكثر مما قدموا لأوكرانيا من مساعدات.
جوشوا يافا مراسل صحيفة النيويوركر في موسكو عين زميلا في مؤسسة نيو أمريكا لجهوده في روسيا، وحائز على جائزة برلين من الأكاديمية الأمريكية
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»