غزة على مفترق الطرق.. بين الحرب الممتدة وفقدان المشروع الوطني.. كتاب جديد
تاريخ النشر: 4th, September 2025 GMT
الكتاب: غزة، مدخل إلى الحرب الممتدة
المؤلف: أسعد غانم
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
" نحن أمام تحول استراتيجي وجوهري في الصراع.. إسرائيل تنشد الآن إخراجا كاملا لمشروع دولة إسرائيل أو أرض إسرائيل، وهي جاهزة أكثر لتعزيز نظام التفوق العرقي في فلسطين التاريخية، وتنسف نهائيا مشروع الدولتين.. وتعمل على تصفية قضية اللاجئين والعودة.
هذه الفقرة جزء من مقدمة الباحث والأكاديمي الفلسطيني أسعد غانم لكتابه الذي يطرح مقولة أساسية هي أن الحرب التي نشهدها اليوم في غزة حرب مستمرة وممتدة ونهايتها غير معلومة، وربما تفتح الباب على مواجهة فلسطينية وعربية ودولية مع إسرائيل. وهو يناقش إلى ذلك ارهاصات هذه الحرب والظروف التي أدت إليها، إسرائيليا وفلسطينيا، وتداعياتها وآثارها.
إن ما تقوم به إسرائيل من إبادة وتطهير عرقي في غزة، بلغ ذروة جديدة لم تكن وصلت إليه من قبل، جاء بسبب ما أدركته من تصميم لدى الفلسطينيين على مقاومة الاحتلال وتعبيرهم عن ذلك بطريقة غير مسبوقة، فانطلقت إسرائيل "الرسمية والشعبية"، التي يزدهر فيها اليمين وتتصاعد فيها الفاشية لتشكل تيارا مركزيا في سياساتها، بتصميم أكبر لاستكمال مشروع السيطرة على فلسطين التاريخية وفرض التفوق اليهودي والانتقام من الفلسطينيين وإخضاعهم.كما يشرح تطورات الحركة الوطنية الفلسطينية قبل طوفان الأقصى وبعده، وصعود حماس إلى مركز فعل المقاومة ضد إسرائيل، في الوقت الذي تراجعت فيه منظمة التحرير وفصائلها عن هذا الدور. ويحاول فهم "الحالة المستعرة" في إسرائيل للانتقام من الفلسطينيين عموما وأهل غزة على وجه الخصوص، ويناقش التطورات العربية والدولية بخصوص الحرب على غزة على المستويين الرسمي والشعبي.
الطريق إلى حرب غزة
ينظر غانم إلى هجوم "طوفان الأقصى" باعتباره لحظة فارقة جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني ضد إسرائيل، وهو إلى ذلك شكل صدمة غير مسبوقة للكيان بحيث أصبحت جملة "إخفاق تاريخي وغير مسبوق" هي الجملة التي تستخدم لتوصيف نتيجة "الهجوم الغزي". وأهم ما يجب ملاحظته أننا أمام تطورات فلسطينية وإسرائيلية داخلية أدت بنا إلى واقع الحال اليوم. فقد جاءت عملية حماس الكبيرة والناجحة" في السابع من أكتوبر في سياق رؤية الحركة لنفسها باعتبارها المدافعة عن الفلسطينيين والحاملة لمشروعهم الوطني في ظل غياب أي مشروع سياسي فلسطيني شامل لإنجاز التحرير أو التصدي للتجاوزات الإسرائيلية.
ومن جهة أخرى فإن ما تقوم به إسرائيل من إبادة وتطهير عرقي في غزة، بلغ ذروة جديدة لم تكن وصلت إليه من قبل، جاء بسبب ما أدركته من تصميم لدى الفلسطينيين على مقاومة الاحتلال وتعبيرهم عن ذلك بطريقة غير مسبوقة، فانطلقت إسرائيل "الرسمية والشعبية"، التي يزدهر فيها اليمين وتتصاعد فيها الفاشية لتشكل تيارا مركزيا في سياساتها، بتصميم أكبر لاستكمال مشروع السيطرة على فلسطين التاريخية وفرض التفوق اليهودي والانتقام من الفلسطينيين وإخضاعهم.
إننا، بحسب ما يرى غانم، أمام حرب سوف تستمر لسنوات، ولن تنتهي إلا بصفقة تاريخية مختلفة عن كل ما حدث حتى الآن، يصل فيها الإسرائيليون والفلسطينيون إلى وضع جديد، قد ينفذ فيه واحد من السيناريوهات الثلاثة التالية "بعيدة المنال" وهي: التقسيم المستند إلى مصالحة تفضي إلى دولتين مستقلتين، أو الدولة الواحدة وإنهاء الوضع الاستعماري والأبرتهايد في فلسطين التاريخية، أو الهيمنة الكاملة لأحد الطرفين، بحيث تصل تطلعات الطرف الضعيف بالحصول على حقوق جماعية ـ قومية إلى حالة من الضمور والانتهاء.
لكنها كما أسلف حلول لن تتحقق في المدى المنظور. بينما يستند سيناريو الحرب الممتدة إلى تبريرات واقعية منها أن فكرة انسحاب إسرائيل من غزة تبدو غير مطروحة، إسرائيليا، على الأقل. فقد نشر بنيامين نتنياهو في فبراير 2024 خطة تنص على أن "إسرائيل ستحافظ على حرية العمليات في قطاع غزة، دون حدود زمنية، من أجل منع عودة الإرهاب.. وإن المنطقة الأمنية التي أقيمت في قطاع غزة في محيط حدود إسرائيل ستظل قائمة، وأنه سيتم إغلاق جنوب الحدود بين غزة ومصر". وهي خطة يرى غانم أن أي حكومة إسرائيلية ستأتي ستجد فيها تصورا منطقيا يجب الالتزام به، لتضمن بذلك قدرتها على التوغل والانسحاب بما يشبه الوضع الحالي في الضفة الغربية.
لكن في مقابل التصورات الإسرائيلية هناك موقف شعبي فلسطيني يعتقد أن المقاومة قادرة على التصدي للتوغلات الإسرائيلية حتى وإن كان ذلك بأدوات عسكرية محدودة. أضف إلى ذلك فإن حماس، التي "أضعفت وأنهكت" لم تهزم، وهو ما تصرح به قيادات في الجيش الإسرائيلي، ما يعني أنها قادرة على استعادة دورها في المشهد الغزي في "اليوم التالي". وعدا ما سبق فإن تطورات الحرب وتفاصيلها القاسية، والأثمان الباهظة التي دفعها الفلسطينيون، تثير الكثير من الشكوك اليوم حول أي إمكانية لوقوع تفاهمات متبادلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. يقول غانم إن الإعلان عن هدنة أو وقف لإطلاق النار لا يعني أننا أمام نهاية للصراع. الحرب ستأخذ أشكالا مختلفة ولن تتوقف خلالها الاجتياحات العسكرية الواسعة.
غياب المشروع الوطني
يرى غانم أن التوحش الإسرائيلي ضد غزة والفلسطينيين بشكل عام يمثل امتدادا لحالة دائمة من التصعيد منذ النكبة، لكنه تفاقم أكثر في مرحلة ما بعد أوسلو، ومع صعود نتنياهو لرئاسة الوزراء عام 2009. فمعارضة نتنياهو لأي استراتيجية لتحقيق السلام مع الفلسطينيين ليست تلاعبا سياسيا للمحافظة على ائتلافه اليميني، بل منهجا راسخا ومتعمدا لتمكين إسرائيل من الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية، مع السعي الحثيث "لإضعاف وتهميش الحركة الوطنية الفلسطينية، واعدا الجمهور الإسرائيلي بأن الازدهار يمكن تحقيقه دون سلام".
يرى غانم أن التوحش الإسرائيلي ضد غزة والفلسطينيين بشكل عام يمثل امتدادا لحالة دائمة من التصعيد منذ النكبة، لكنه تفاقم أكثر في مرحلة ما بعد أوسلو، ومع صعود نتنياهو لرئاسة الوزراء عام 2009. فمعارضة نتنياهو لأي استراتيجية لتحقيق السلام مع الفلسطينيين ليست تلاعبا سياسيا للمحافظة على ائتلافه اليميني، بل منهجا راسخا ومتعمدا لتمكين إسرائيل من الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية، مع السعي الحثيث "لإضعاف وتهميش الحركة الوطنية الفلسطينية، واعدا الجمهور الإسرائيلي بأن الازدهار يمكن تحقيقه دون سلام".ومع هذه الاستراتيجية العدائية المتنامية ساهم الوضع الفلسطيني الداخلي المهلهل في وصولنا إلى "طوفان الأقصى" وتداعيات الحرب التي نشهدها اليوم. يوجه غانم انتقادات واضحة للفلسطينيين عموما والكيانات التي يفترض أنها ممثلة لهم، مثل منظمة التحرير، والسلطة الوطنية، وحتى الفلسطينيين في إسرائيل، ويرى أنهم جميعا أخفقوا في تقديم الحد الأدنى من الدعم والمساندة لغزة، ويقول إن "أهم ما حصل فلسطينيا قبل الحرب بوقت طويل هو غياب أي مشروع جدي وفاعل لإعادة الاعتبار للفلسطينيين ولحركتهم الوطنية.. ورغم إن إسرائيل، من خلال نهجها العنصري والفاشي، تعطي الفلسطينيين فرصة تاريخية لمجابهتها دوليا وعربيا وفلسطينيا وحتى إسرائيليا، لكن مع قيادة يمثلها محمود عباس فإننا نكون قد وصلنا إلى الهزيمة الكاملة فلسطينيا".
أما وقد اندلعت الحرب فإن القيادة الفلسطينية في رام الله لم تقم بدورها المطلوب في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية سواء في غزة أو في باقي الأراضي المحتلة التي تتعرض باستمرار لانتهاكات صارخة من قبل المستوطنين وجيش الاحتلال، "فيما ينتظر عباس وسلطة رام الله انتهاء الحرب ليكون لهم دور في ترتيبات اليوم التالي وخصوصا في قضايا الإعمار التي تعتبر لبعض قيادات السلطة وأبنائهم مناسبة للاستثمار". ويضيف أن هذه القيادات تمنى النفس كذلك بتفعيل العملية السياسية والتقدم في مسار قيام دولة فلسطينية، وهو ما يراه أوهاما غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع، إلا لمن يقبلون أن تكون هذه الدولة "بانتوستانا يرعى ويتابع الحاجات المدنية للفلسطينيين داخل حدوده، ويهتم بحماية إسرائيل وأمنها".
أما عن حماس ومستقبلها، فيلفت غانم إلى أن آثار الحرب الكارثية كشفت عن مأزق عسكري للحركة، وعن أنها لم تكن قادرة على تحضير غزة لسيناريو الحرب خلال فترة حكمها، وعن أن المجتمع الغزي يعاني من الضعف والترهل وانعدام التخطيط والتنسيق. وإلى ذلك يقر بأن مستقبل الحركة لا يمكن أن يتضح قبل نهاية الحرب، فرغم أنها لا تزال تحظى بتأييد شعبي كبير فإن مستقبلها السياسي محكوم بتطورات لا بد قادمة في المشهد الفلسطيني والدولي. إلا أنه "لا يمكن تخيل مستقبل سياسي للفلسطينيين من دون حماس".
يقول غانم إن أهم ما يمكن فعله فلسطينيا السعي إلى تغيير جذري في الأداء الرسمي والشعبي. وهو ما يستدعي تغييرا جذريا في طرق النضال ضد إسرائيل. إذ يرى أن الفلسطينيين يقفون اليوم أمام مفترق طرق" فإما الاندثار نهائيا كجماعة وطنية واحدة او الانطلاق نحو التصرف كشعب متماسك تقوده قيادات تليق به وتستطيع صياغة طريق واضح نحو المستقبل".
على صعيد عربي ودولي يشير غانم إلى حالة من الانقسام الحاد بين مواقف الشعوب والحكومات. فالمواقف الرسمية عبرت عن دعم واضح لإسرائيل وتبرير جرائمها، وإن كانت هناك مواقف لبعض الدول منددة بالجرائم الإسرائيلية فإنها لم تكن مؤثرة، بل إن الكثير من هذه الدول واصل التعامل بشكل طبيعي مع إسرائيل متغاضيا عن كونها "دولة مارقة تتحدى القوانين والأعراف الدولية وتمارس جرائمها أمام العالم".
في المقابل عبرت الشعوب عن مواقف أكثر شجاعة وإنسانية، ونددت بالمجازر الإسرائيلية، ودعت إلى وقف الحرب فورا، ومقاطعة إسرائيل وبضائعها وأنشطتها، وشارك في ذلك العديد من المشاهير والشخصيات البارزة. وهذا شكل بدون شك ضغطا ملحوظا على الحكومات الداعمة لإسرائيل في أوروبا والولايات المتحدة، لاتخاذ مواقف أكثر توازنا. يقول غانم أن هذه الاحتجاجات تساهم في "قلب معاناة غزة إلى أداة مركزية لتغييرات كونية". ويلفت إلى أن دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية تطور نوعي ضد إسرائيل. فهذه الدولة التي احتكرت خطاب الضحية متهمة الآن في أعلى هيئة قضائية بالتهمة نفسها التي وجهت للنازية، "إن إسرائيل في ورطة جدية لن تستطيع الإفلات منها بسهولة".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الحرب فلسطين الاحتلال احتلال فلسطين كتاب حرب مآلات كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فلسطین التاریخیة ضد إسرائیل إسرائیل من إلى ذلک غانم أن فی غزة لم تکن
إقرأ أيضاً:
صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان
في 25 فبراير/شباط 2024، وبعد أشهر قليلة على بدء العمليات الوحشية لجيش الاحتلال في قطاع غزة، الجندي القوات الجوية الأميركية آرون بوشنِل (25 عاما) أمام سفارة إسرائيل في واشنطن بالولايات المتحدة، وأشعل النار في نفسه، احتجاجا على تواطؤ بلاده وجيشه الصريح مع الإبادة الجارية في غزة، وصرخ "فلسطين حرة" حتى فارق الحياة.
لم يكن بوشنِل الوحيدَ الذي لم يحتمل وطأة الإبادة في غزة، رغم أنها تبعد عنه آلاف الأميال.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الرئيس الذي دعا لتحرير فلسطين عبر جيش دوليlist 2 of 2لماذا يريد بلير "الأبيض" حكم غزة؟end of listففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد قرار تسليح إسرائيل المفتوح من قبل إدارة بايدن، قال المسؤول الأميركي جوش بول، المدير السابق للشؤون العامة والتشريعية بهيئة الشأن العسكري-السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، في خطاب على "لينكد إن": "لقد تنازلت عن معاييري الأخلاقية في هذا المنصب مرات لا حصر لها.. وعاهدت نفسي دوما أن أبقى طالما أن الضرر أقل من الفائدة التي أحققها.. لكنني أرحل اليوم لأنني أعتقد أن مسارنا الحالي.. جعلني أصل إلى نهاية تلك المعادلة".
في يوليو/تموز 2024، لحق به المسؤول بوزارة الخارجية الأميركية، مايكل كيسي.. "لقد سئمت الكتابة عن القتلى من الأطفال.. وأن أبذل جهدا باستمرار كي أثبت لواشنطن أن هؤلاء الأطفال ماتوا بالفعل.. كلما ازداد علمك بتلك القضية، واجهتك حقيقة لا مفر منها وهي أن الوضع سيئ للغاية".. هكذا صرّح كيسي في حوار مع صحيفة الغارديان البريطانية.
على حد وصفه، بدأ بعض زملائه يمزح حول عدم جدوى التقارير في التأثير على صناع القرار في واشنطن، الذين فضّلوا دوما الانحياز إلى السردية الإسرائيلية، قائلا إنه لا أحد في الإدارة يقرأ تقاريره ولو وضع فيها نقودا هدية.
منذ بدء طوفان الأقصى قبل عامين، تباينت ردود الأفعال في أنحاء العالم بين التضامن والصمت والتضييق، وظهر بون شاسع بين التعاطف مع الفلسطينيين في الشارع وبين الرغبة في التضييق على الحقائق وعلى أي محاولة للتضامن من جهة الحكومات الغربية، مما دفع بعض المسؤولين -مثل كيسي وبول- إلى تغليب بوصلتهم الأخلاقية على منصبهم الرسمي.
إعلانوقد جرى الحديث لفترة في الأسابيع الأولى حول "تناسُب" رد الاحتلال على العملية الفلسطينية، لكن مع استمرار الحرب على غزة اتسعت دائرة المتابعين والمهتمين حول العالم، وتغيّرت القناعات واتجاهات الرأي العام لما شكّله الحدث من اختبار حقيقي للأخلاقيات والقيم والمواقف السياسية التي يعتنقها الكثيرون في المجتمعات الغربية، بالإضافة للاختبار الحقيقي الذي مثّلته هذه الحرب للقوانين الدولية التي تدّعي الحكومات التمسك بها.
بعد مرور شهور، وتأمُّل التأثير الواسع للطوفان، يمكن القول إن صدمة عميقة أصابت الشعوب حول العالم إزاء ما يحدث في غزة من إبادة يومية. فمنذ بداية الطوفان، بدأ كثيرون يكتشفون أن رد الفعل الإنساني الطبيعي تجاه ما يحدث للفلسطينيين -وهو التعاطف والتضامن معهم- غير مقبول أو مسموح به من قبل كثير من الحكومات حول العالم.
وتعزَّز ذلك الشعور حين توالت فصول الحرب على غزة، وازدادت بشاعتها بحيث لم يَعُد يمكن الدفاع عنها أو التبرير لها بوصفها "ردا" على عملية 7 أكتوبر. وفي خضم هذا الواقع، أدركت الكثير من الشعوب أننا في نظام دولي يسمح بارتكاب إبادة جماعية على الهواء، ولا يسمح حتى بالتضامن مع المظلومين.
قبل أن ينقضي شهر واحد على طوفان الأقصى، وأمام قتل الاحتلال آلاف الأشخاص في غزة، بدأت المظاهرات تَعُم العواصم الأوروبية والعالمية، في اليابان والنرويج وهولندا وبريطانيا وألمانيا ودول أخرى عديدة، حيث خرج مؤيدو القضية الفلسطينية مطالبين بوقف إطلاق النار في غزة، لكنها لم تمض بسلام. ففي دول كثيرة رفعت الشرطة استعدادها واعتقلت عددا من النشطاء، وتعرّض المتضامنون مع القضية الفلسطينية لمشكلات قانونية.
بدا إذن أن الحكومات الغربية اتحدت في الانحياز السياسي إلى الاحتلال، فقيّدت عدة دول الاحتجاج من أجل فلسطين، واستهدفت الأعلام الفلسطينية. وفي الولايات المتحدة تعرّض كثير من المتضامنين للطرد من وظائفهم وإلغاء عقودهم.
ومع اتساع دائرة الحرب، ودائرة المعرفة بها أيضا وبالقضية الفلسطينية في شتى أنحاء العالم، توالت صور الإبادة والتهجير القسري والمجاعة، وطاردت المشاهدين حول العالم بشكل لا يمكن تجنبه.
بعد عامين من طوفان الأقصى، وبعدما جرت المذابح بالبث الحي والمباشر ودُمِّرت البنية التحتية وانهار النظام الصحي وتلوثت المياه وقُصِفت المساعدات الإنسانية والساعون إليها، ومع مشاهد التهجير وإجبار العائلات على النزوح عدة مرات داخل الأرض المحاصرة بالجوع والجفاف، فإن أكثر ما اتضح للمتابعين حول العالم لم يكُن تجاوز الحد فيما يتعلق بارتكاب الجرائم الإنسانية، وإنما تجاوز الحد في الإفلات من العقاب.
تشير المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إيتشاسو دومينغيث، إلى أنه بعد شهور من النقاش حول مدى تناسب القصف مع الطوفان، يبدو أن المجتمع الدولي اليوم أصبح مستعدا للاعتراف بالانهيار.
إعلانولكن دومينغيث تلتقط أيضا ذلك التحوّل الخطابي الذي جرى في هذه الحرب، والذي يميل إلى إدانة الكارثة الإنسانية في غزة دون النظر إلى الجانب السياسي والعسكري منها، فيُكرِّم الضحايا دون تسمية المسؤولين عن الجريمة، وقد أشارت إلى تداول عدد من وسائل الإعلام لصورة طفل جائع مثلا مع تجاهل صورة الجندي الذي يمنع قافلة المساعدات، أو صورة الساسة الذين اتخذوا قرارات الحرب، وهو استبعاد ليس بريئا على حد وصفها، وينطوي على منطق يُتيح للإبادة أن تتكرّر وللمجرم أن يُفلت من جرمه.
على الهواء مباشرةهذا التدفق المستمر للأخبار والصور التي توثق المذابح، يواجه شعوبَ العالم بصور صادمة للإبادة الجماعية في غزة. ففي ورقة بحثية نشرتها مجلة "إنترناشيونال جورنال أوف مانجمنت" عام 2024، يستكشف الدكتور محمد بوحجي الأضرار والجروح النفسية والعاطفية للمتابعين لمسار الحرب والمعاناة الإنسانية في غزة، ويشير إلى أن متابعة مشاهد الحرب عمّقت الشعور بالعجز والخيانة والذنب والعار، وسبّبت جروحا نفسية في المجتمعات أمام إدراك المتابعين لحجم المعاناة وحجم التواطؤ الذي أدى إلى حدوثها.
وقد عاش البعض أعراض ما بعد الصدمة (PTSD) بسبب التعرض المتكرر والمستمر لهذه الأحداث، وتجلَّت أعراضها في تقلُّب المزاج والقلق والاكتئاب واضطرابات النوم. هذا بخلاف تراكم طبقات من مشاعر الغضب والأسى لدى من يشاهدون الإبادة، مما يجعل أي سلوك طبيعي يعتاد المرء على القيام به في يومه بمثابة "خيانة" لدماء الشهداء ولمعاناة أهل غزة.
في العصر الرقمي حيث تُنتج المواد البصرية بسهولة، وتتعدّد مصادر الصور من الصحفيين ووسائل الإعلام التقليدية ومن السكان المدنيين في قلب الصراع، ومع التعرّض المتكرر لكل ذلك؛ يمكن أن يحدث ما يُعرف بإرهاق التعاطف (Compassion Fatigue) الذي ينشأ عن مشاهدة مكثفة للألم، فيتحوّل إلى نوع من الخدر العاطفي، ومن ثمّ تنخفض الاستجابة العاطفية مع كل مأساة جديدة نتعرض لها.
ومع ذلك، فإن ما يبدو تبلُّدا عاطفيا ليس شعورا نهائيا، بل محطة قد نمُر بها في الصراعات الطويلة. فما يحدث هو أن صورا أخرى سرعان ما تخترق هذا الحاجز العاطفي، فيتجدد التأثير ويتحرّك الشعور بالغضب، لذا فالحرب لا تتوقف عن إيلامنا ولا تُفقدنا إنسانيتنا كما يبدو لأول وهلة.
لذلك، يمكننا اليوم أن نضيف إلى تعداد ضحايا الحرب على غزة؛ آخرين لم يكونوا في القطاع من شعوب العالم التي تابعت العدوان والإبادة، وتعرّضت لما يُعرف باسم "الجرح الأخلاقي". ويشير هذا المصطلح إلى الصدمة النفسية التي يتعرض لها الجنود بسبب عدم قدرتهم على التوفيق بين قيمهم الأخلاقية وما يرتكبونه من أفعال غير أخلاقية مثل التعذيب أو القتل، والذي يظهر في معدلات مرتفعة من الاكتئاب والانتحار لدى المحاربين القدامى.
لكن الجرح الأخلاقي اليوم يُمكن أن يكون أثرا مُحتملا لمشاهدة الفظائع التي يرتكبها آخرون دون الانخراط في القتال، فهو استجابة إنسانية عميقة للأحداث التي تنتهك الأخلاقيات الراسخة، وتُسبّب جُرحا في الروح والضمير، سواء لدى من ارتكب تلك الأفعال أو حتى لدى من شهدها ولم يمتلك القدرة على وقفها.
وبخلاف اضطراب ما بعد الصدمة الذي يقوم على الشعور بالخوف، فإن الجرح الأخلاقي ينشأ من مشاعر الذنب والعار والغضب، ومن أزمة عميقة في المعنى. إنها أزمة يواجهها اليوم متابعو الحرب، وتتسع دائرة المصابين بهذا الشعور حول العالم بسبب قناعاتهم بأنهم لم يفعلوا ما يكفي لوقف الإبادة في غزة. كما ينطوي هذا الجرح الأخلاقي على شعور بالخيانة من سلطات كان يُفترَض أن تكون جديرة بالثقة أو على الأقل أن تفعل شيئا لوقف هذه الحرب، ويمكن لهذا الجرح أن يصيب الأطباء والممرضين والصحفيين وغيرهم حين يشعرون بالعجز عن احتمال معاناة البشر.
إعلانتُرسّخ مشاهد وصور الإبادة، وحقيقة استمرار الحرب، الاعتقاد بأن العالم مكان بشع ومخيف وغير إنساني، وأن الشر يُمكن أن يتغلّب في النهاية، مما يرسخ شعور الشعوب بأنها "مشلولة" وغير قادرة على الفعل الجماعي لمواجهة ما هو إجرامي وغير إنساني.
كما يزداد هذا الجرج الأخلاقي لدى مواطني بعض الدول التي تقدم مساعدات عسكرية للاحتلال بسبب شعورهم بأنهم متواطئون كدافعي ضرائب، وكذلك بسبب فشل المؤسسات الدولية في وقف شلال الدماء، ما يتسبب في الشعور بانهيار الثقة بالنظام الأخلاقي العالمي.
إن الشعور بأن ظلما جسيما يقع بلا عواقب يولّد إحباطا عميقا، فهو خرق لما تعهّدت الإنسانية بعدم تكراره عقب الحرب العالمية الثانية، وتعود خصوصية التأثير العالمي في حرب غزة بسبب كونها أول إبادة جماعية تُبَث فصولها على الهواء مباشرة، بحيث لا يمكن لمشاهدي الأخبار ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تجنبها أو تجاهل وجودها.
"القيد في أيدينا"يمكن القول إن الادعاءات الأخلاقية الأوروبية فقدت مصداقيتها مبكرا بعد حروب العراق وأفغانستان و"الحرب على الإرهاب".
واليوم بينما يمارس الاحتلال الإسرائيلي معدلات غير مسبوقة من العنف، تتابع شعوب العالم الحر وخاصة شعوب دول الجنوب العالمي وفي ذاكرتها العبارة الشهيرة التي قالها نيلسون مانديلا: "إن حريتنا لا تكتمل دون حرية الفلسطينيين"، والتي لا تعتبر تضامنا فقط، بل عبارة تحليلية تشير إلى أن الإمبريالية ستستمر في تقييد شعوب دول الجنوب طالما أن بإمكانها حرمان الفلسطينيين من حقوقهم على هذا النحو.
ولكن الأمر يمتد إلى الشمال ذاته أيضا، كما أشار السياسي البريطاني جيمس شنايدر في مقال له، فالسعي كي يتحقّق التحرر الوطني للشعب الفلسطيني بقدر ما يُحارب الإمبريالية في الخارج، فإنه يُرسِّخ أيضا الاستقلال والديمقراطية في الداخل بالنسبة للدول المتقدمة التي انتفضت شعوبها للدفاع عن غزة، ولهذا السبب يؤكد شنايدر "لسنا أحرارا حقا حتى تصبح فلسطين حرة".
في ورقة نشرتها مجلة "بابليك أنثروبولوجيست" في مايو/أيار الماضي بعنوان "فلسطين منهجا"، أوضحت الكاتبة آنا إيفاسيوك كيف تابع العالم بذهول العنف الإبادي الذي شنَّه الكيان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وسجَّلت بداية ملاحظاتها بالقول إنه لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه لا يعلم عن الإبادة الجارية، في وقت يُدرِك فيه المتابعون أن ما يحدث على الأرض يفوق ما تنقله الصور والأخبار. وأضافت إيفاسيوك أن هذا الصمت واللامبالاة ما كانا ليحدثا لو تعرض له آخرون، لا سيما من ذوي البشرة البيضاء.
وأشارت آنا إيفاسيوك إلى التناقض الذي كشفته نقاشات داخل المجتمع الأنثروبولوجي الأوروبي بعد نشر بيان الجمعية الأوروبية للأنثروبولوجيين الاجتماعيين (EASA) لإدانة العنف ضد غزة، وكيف رأى كثير من الأنثروبولوجيين أن هناك سردية واحدة في التعامل مع قضية أوكرانيا، في حين تعدّدت السرديات في حالة فلسطين، وأمكن للبعض الوقوف "على الحياد".
وتتساءل آنا في مقالها: "ما هو الحياد في مواجهة الإبادة الجماعية إن لم يكن تواطؤًا؟ وما هو تعريف إسكات من يتحدثون ضد الإبادة إن لم يكن دعم الإمبريالية؟". وختمت آنا مقالها قائلة إن ما يشهده العالم في غزة اليوم يدفعنا إلى نقطة اللاعودة، ونحو فهم ما تتعرض له شعوب العالم يوميا، والعنصرية والاعتراف الانتقائي في التضامن مع ضحايا الصراعات.
ويقول الكاتب الإسباني خافيير خورادو إن مشاهد عشرات الآلاف من الشهداء وبينهم أطفال، وما حدث من تدمير للبنى التحتية، تثير أعمق التساؤلات غير المحسومة في الخيال السياسي الغربي: كيف يمكن الاستمرار في دعم الكيان المحتل وتبني كونه ضحية تاريخية؟ لقد كانت الشهور الماضية للحرب على غزة كاشفة للحقائق بشأن عنف الاحتلال، وكسرت أمام المتابع الأوروبي رواية ظلت لعقود تُبرّر صمت الغرب إزاء الانتهاكات وتؤسس للاستثناء الإسرائيلي.
تشرح رابيا يافوز المتخصصة في علم النفس الاجتماعي في مقال لها، كيف أن هذا الشعور بالحزن يعني أننا ما زلنا بشرا، وكيف أن القضية لا تتعلق بغزة وحدها، وإنما بكيفية استجابة العالم لكل هذا الألم. فحين تتفوّق المصلحة السياسية على مبادئ العدالة، ويتعرّض المؤيدون والمتضامنون للقمع، فهذا يشير إلى فوضى عالمية أعمق، بما تُسبّبه من جرح في الوعي المجتمعي العالمي.
إعلانأما حين يصبح الصمت الخيار الأكثر أمانا فإننا أمام عنف نفسي يُهدّد مجتمعاتنا، ويكشف عن وجه مخيف لعالم اليوم، فهذه "الفظائع" تخلف فراغا أخلاقيا لا يُحتمل، يهدد إحساسنا بتحقق العدالة وبإنسانيتنا نفسها، وتتساءل في النهاية: ما ثمن كبح المشاعر أمام المجازر؟
في مقال له حول أنجع العلاجات للجرح الأخلاقي، أوضح أستاذ علم الاجتماع بجامعة ولاية كارولينا الشمالية، مايكل شوالبي، أن أفضل استجابة لما يجري من حولنا هي التكاتف مع الآخرين كي نحافظ على إيماننا بأنفسنا وبإمكانية أن يكون العالم أفضل وأن يُعرض المجرمون يوما ما للعدالة.
ووفقا لشوالبي، فإن موجات الاحتجاج والمسيرات والبيانات المُندّدة التي تؤيد الحقوق الفلسطينية وتسعى لوقف الحرب ضرورية أيضا، لا لوقف الحرب فحسب، وإنما لإنقاذ هؤلاء الذين يشعرون بالجرح الأخلاقي من الإصابة بالعجز الدائم.
لقد تحوّلت غزة -وهي على أعتاب السنة الثالثة للحرب- إلى مرآة تكشف حقائق مخيفة عن نفاق المجتمع الدولي، والرقابة على ما يمكن قوله حول فلسطين، والضغط الذي يُمارس لإسكات الفلسطينيين أو المتخصصين في إنتاج المعرفة بهذا الشأن، وهو ما يزيد أهميتها كمنهج لكشف زيف العالم "كما يُروى لنا".
اليوم لا يزال العديد من النشطاء والمتضامنين مع غزة حول العالم يواجهون عُنفا يطالبهم بالصمت حتى لا يطالهم العقاب، بينما تُهدِّد الحرب إنسانيتنا ويختار البعض التضامن مع دفع أثمانه، في حين يبقى البعض الآخر رهن الشعور بالعجز ومواجهة الصدمات النفسية التي يُسبّبها إدراكنا أن ثمن هذا التجاهل هو ألا يبقى أحد في أمان.