لجريدة عمان:
2025-10-18@11:22:33 GMT

العقلية المتسترة.. عندما تؤذي العدالة

تاريخ النشر: 17th, October 2025 GMT

في البدء سنطرح سؤالنا الجوهري: هل يمكن حقًا أن نُوجد سياقًا سلبيًا للعدالة من منظور المتضرر؟

بالتأكيد يمكن؛ لأن هذه القضية لا تمسّ شخصًا معينًا، بل تصل إلى أن نعتبرها ظاهرة، وقد ذكرت سابقًا أن ما يهمنا هو وجود القضية بالفعل، أما مسألة سلبية العدالة وضررها فهي في الواقع مسألة أخلاقية وقانونية مرتبطة بالشخص المتضرر.

على سبيل المثال: يستطيع شخص حيازة أرض بشكل سري وغير قانوني وهو على علم بذلك، ومن جهة أخرى، شخص يطالب بشكل أخلاقي وإجرائي بحيازة أرض، ولكنه يكتشف أن طلبه يُرفض لسبب قانوني آخر.

فهنا أمامه خياران: أولهما: أن يشي بالشخص غير القانوني ليكون الأمر عادلًا ولا يقتصر الرفض عليه وحده، أما الخيار الثاني: أن يتستر عليه لأسباب خاصة به قد تتمثل في العرف، القيم، التعارف... إلخ، وتُوجِد هذه الأسباب تناقضًا في نفسه، بين هدف التستر (لحماية جاره مثلًا)، وبين جدلية التستر نفسها، وخاصة إذا كان على أمر غير قانوني.

بالنسبة لخيار الوشاية، أرى أن الموضوع معقد قليلًا، فيصل الأمر أحيانًا للتضحية الناجمة عن مفارقة الحسد كما أوردها سلافوي جيجيك، (وعي صاحب الوشاية بأن حرمان شخص آخر أكثر منه يمنحه متعة إضافية)، بذلك يشير لرفض مذهب المساواة بقيمته الاسمية، والقائمة عليه العدالة: «أنا مستعد للتخلي عنه على ألا يكون في وسع الآخرين الحصول عليه!»، بالإضافة إلى إمكانية وجود حس العدالة المبالغ فيه الذي يمنعه من التستر على مثل هذه التجاوزات، حتى لو كانت بسيطة. فوجود حس العدالة يناقض موضوع المتعة نتيجة حرمان الآخرين، لذلك قلت: إن الموضوع معقد قليلًا.

إن ما يثير هذه التجاوزات من قبل الناس هو هذه العقلية المتسترة، وهذه الأخيرة تتم إثارتها أكثر من قبل الجهات المختصة. كيف ذلك؟

في مثال أجهزة التكييف التي سردتها في الحلقة الأولى من المقال، ماذا لو لم أذهب للاستفسار عن الأمر عند المسؤولين؟ سيستمر الوضع بالتأكيد إلى أن تكتشف الجهة بنفسها، وهذا بعد وقت طويل ربما، أو أن تكتشف ذلك من خلال تلقيها لشكوى من قبل متضرر آخر. وذهابي بالفعل أدى -كما رأيتم- لإثارة عقليتي المتسترة (أعترف بذلك) من خلال امتناعي عن ذكر الأقسام المكيّفة.

بالمختصر المفيد، قد يتردد الإنسان في المطالبة بحقه ليس لضعف أو جهل، بل هو خوف من أن يؤثر ذلك سلبًا على شخص آخر، كجار أو قريب أو زميل. لذلك قمت باستطلاع آراء الناس وتجاربهم حول هذا النوع من المواقف، أي حيث تتعارض العدالة الفردية مع الروابط الإنسانية أو الاجتماعية، وذلك باستخدام أداة الاستبانة. تضمنت الاستبانة عدة محاور، المحور الأول: «في حال علمت أن المطالبة بحقك ستؤدي إلى فتح ملف قد يضر بجارك أو قريبك، ماذا ستفعل؟» كان النصيب الأكبر من الاستجابات عبارة «أبحث عن حل وسيط أو تفاوضي» بواقع 81 استجابة من أصل 108، ثم تلتها عبارة: «أطالب بحقي مهما كانت النتائج» بواقع 20 استجابة، وأخيرًا جاءت عبارة: «أتغاضى حفاظًا على الطرف الآخر» بواقع 14 عينة.

بعض الإجابات الأخرى تنوعت بين المسامحة حسب الوضع، وكذلك حسب كمية الضرر، فإذا كان ضرر الطرف الآخر أكثر فسوف يتغاضى، كذلك الحق لا يرتبط بقريب أو بعيد. فعندما يسكت الإنسان عن حقه نتيجة خوفه من خسارة علاقة أو شخص، فسوف يتكرر الأمر معه ظنًّا منه أنه شيء عادي، (من يهن يسهل الهوان عليه).

أما بالنسبة للمحور الثاني، فقد كان حول «الأسباب التي تمنع الناس من المطالبة بحقوقهم»، وكانت الاستجابات كالتالي: حصلت عبارة «تعقيد الإجراءات القانونية» على أكبر عدد من الاستجابات بواقع 73 عينة، ثم تلاها السبب المتمثل في: «الأعراف والعلاقات العامة» بواقع 71 عينة، ثم جاء السبب: «الخوف من الضرر بالآخرين» تاليًا بواقع 52 عينة.

طرحت في المحور الثالث سؤالًا حول ما إن كانوا قد تنازلوا فيه عن حقهم مراعاة للغير، وكانت النسبة الكبيرة من الاستجابات هي «نعم» بواقع 70 عينة.

دائمًا ما أنوه في مثل هذه الدراسات، وخاصة استطلاع الرأي، أن ما يهم فيها أنها تثبت وجود القضية في الواقع، بغض النظر عمّا أوردته في مقالي هذا من تحليل قد لا يراه البعض وافيًا وبعيدًا كل البعد عما نسميه بالتحليل العلمي والمنهجي.

فإدراك وجود القضية يعد مهمًا ولا يجب أن يستهان به في مثل هذه الدراسات، فهي تساعد في بلورة نقاط وقضايا مهمة أيضًا، ولا بد لمن يرى بأنه ذو معرفة فكرية أكثر أن يشرع فيها، ولا يكتفي عند النقد وتجاهل مثل هذه المواضيع بداعي أسبابه العادية وغير المعقولة.

أين أنت أيها القارئ من هذه القضية؟ في أي من الفئتين تقبع، أم أنك في كلاهما؟ اعترف كما اعترفت أنا، فإدراكنا لماهويتنا الحقيقية، عقليتنا في هذه المواقف، يغننا عن الخروج عن سياقات مسلم بها، وخاصة في مثل هذه المصطلحات. فلن يتم الاعتراف من خلال منظورنا بأن العدالة فعلًا مؤذية، ستُتَهم الجهات المسؤولة، وسنُتَهم نحن أيضًا. فعلًا، نحن هكذا، «... نعرقل كل شيء وكل شخص...».

وأخيرًا: أقتبس جزءًا من قصيدة جورجيو أغامبين «لو أُلغي الحب»، حيث يقول فيها:

لو أُلغي الحب/ باسم الصحة/ فالصحة ستُلغى أيضًا.

لو أُلغيت الحرية/ باسم الطب/ فالطب سيُلغى أيضا.

لو أُلغي الإله/ باسم العقل/ فالعقل سيُلغى أيضًا.

لو أُلغي الإنسان/ باسم الحياة/ فالحياة ستُلغى أيضًا.

لو أُلغيت الحقيقة/ باسم المعلومة/ فلن تُلغى المعلومة.

لو أُلغي الدستور/ باسم حالة الطوارئ/ فلن تُلغى حالة الطوارئ.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: مثل هذه

إقرأ أيضاً:

الاختفاء العظيم: كيف هرب كبار أعوان الأسد من سوريا وضاعت العدالة؟

الاختفاء العظيم: كيف هرب كبار أعوان الأسد من سوريا وضاعت العدالة؟

مقالات مشابهة

  • متبقيات المبيدات: تحليل أكثر من 70 ألف عينة خلال الربع الثالث من 2025
  • الاختفاء العظيم: كيف هرب كبار أعوان الأسد من سوريا وضاعت العدالة؟
  • المسيلة: تفكيك شبكتين لترويج المؤثرات العقلية وحجز أكثر من 16 ألف قرص
  • دراسة تحذر: مواقع التواصل الاجتماعي تقلص قدرات الأطفال العقلية وتضعف تحصيلهم الدراسي
  • دراسات تحذر: الذكاء الاصطناعي قد يغذي الأوهام ويهدد الصحة العقلية
  • قنوات عربية ناطقة باسم جيش العدو الإسرائيلي
  • وزير الري: التعديات على حرم النيل تؤذي 55 مليون مصري يعيشون في الدلتا
  • المشروبات المُحلاة بالسكر تؤذي الكبد .. كيف ذلك ؟
  • الحلم.. الحقيقة.. العدالة!