الوجه المظلم للأدوات الرقمية في العمل
تاريخ النشر: 18th, October 2025 GMT
كلنا نعرف ذاك الشعور جيدا، حين تبدأ يومك بذهن صافٍ وهمّة عالية لإنجاز مهمة بعينها، لتجد نفسك وقد ابتلعك دوامة الأدوات الرقمية الحديثة من الإشعارات المتلاحقة، والرسائل العاجلة. وعندما يحل المساء، لا يتبقى لك إلا شعور بالإنهاك وحصاد لا يرقى لطموحك.
هذا الموقف المتكرر بات يعرف بظاهرة “الإنهاك الرقمي”. هذا الضجيج الرقمي لا يؤثر على تركيزنا فحسب، بل ينخر في صحتنا النفسية ويفتت الروابط الحقيقية بين فرق العمل.
والمفارقة أن الذكاء الاصطناعي، الذي تعقد عليه الآمال ليكون طوق النجاة، تحول في أحيانا إلى وقودٍ لهذه الفوضى. وهي الأزمة التي لخصها تقرير لمجلة فوربس بعنوان “الإنهاك الرقمي: تآكل الصحة النفسية والإنتاجية المهنية”.
سراب الإنتاجية
نظريا كان وعد الإنتاجية العالية كلما استخدمنا الأدوات الرقمية، لكن على أرض الواقع، كشفت الأرقام عن حقيقة أخرى، ففي استطلاع شمل 1000 مهني في الولايات المتحدة، كانت أبرز النتائج كالتالي:
%79 من الموظفين أفادوا بأن مؤسساتهم تقف موقف المتفرج، دون أي مبادرة جادة لكبح جماح هذا الإنهاك.
%60 يعيشون تحت ضغط دائم للشعور بأنهم “متاحون” للرد على الإشعارات حتى بعد انقضاء يوم العمل.
موظف من كل خمسة يبدد ما يزيد على ساعتين أسبوعيا في رحلات مكوكية بين النوافذ والتطبيقات.
%45 أصبحوا على قناعة بأن أدواتهم الرقمية تُعيق إنتاجيتهم بدلا من أن تطلق لها العنان.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي دليل على أن كثرة التشتت تضر بعقولنا، فالتنقل المستمر بين التطبيقات يستنزف تركيزنا بشدة، ويمنعنا من الوصول إلى مرحلة التركيز الكامل التي نحتاجها لإنجاز أفضل الأعمال، وهي المرحلة التي يولد فيها الإبداع.
الذكاء الاصطناعي يفاقم الأزمة
كان الأمل أن يحررنا الذكاء الاصطناعي من المهام المتكررة، لكننا طبقناه في بيئات عمل تعاني أصلا من مشكلات وفوضى. وبدلا من أن نصلح تلك الأنظمة أولا، قمنا باستخدام التقنية “لأتمتة هذه الفوضى”.
والنتيجة كما يوضح تقرير عالمي لعام 2025، أن 70% من الموظفين صاروا يعتمدون على الذكاء الاصطناعي، لكن الإرهاق الرقمي لديهم قفز إلى 84%.
سبب كبير لهذه المشكلة هو ما يعرف بـ”المخرجات الجوفاء”، وهي أعمال ينتجها الذكاء الاصطناعي تبدو رائعة، لكنها في الحقيقة ضعيفة الجودة وتحتاج للكثير من التصحيح.
هذا يعني أن المشكلة ليست في الأداة نفسها، بل في غياب الرؤية؛ فنحن نستخدمه بلا إستراتيجية واضحة أو معايير جودة إلزامية.
دليلك إلى السكينة الرقمية
الخلاص ليس في تبني أداة جديدة، بل في تبني عقلية جديدة؛ عقلية تعود إلى مبادئ بسيطة ومنضبطة لاستعادة الهدوء المفقود في يومنا. وهذه هي مبادئها الخمسة:
الأقل قوة: احذف بلا تردد كل ما هو مكرر أو غير ضروري. لا تحتفظ إلا بالأدوات التي تخدم هدفا واضحا وتُحدث أثرا يمكن قياسه، فكل أداة زائدة هي ثقب يتسرب منه تركيزك.
سيادة الانتباه: تحرر من سجن الإشعارات وضع “ميثاقا للتواصل” يحدد ما هو عاجل وما يمكنه الانتظار. تذكر دائما أن وهم الاستجابة الفورية هو أكبر سارق للإنتاجية العميقة.
التعلّم الذكي: اعتمد الجرعات المعرفية، لا الفيضانات المعلوماتية. استبدل بالساعات الطويلة من التدريب كبسولات مركزة (15-20 دقيقة) تعالج مشكلة حقيقية ومباشرة يواجهها فريقك.
بوصلة الأثر: حوّل مقاييس نجاحك من سؤال “كم ساعة عملنا؟” إلى “ما جودة ما أنجزنا؟”. النجاح الحقيقي لا يكمن في حجم النشاط، بل في قيمة الأثر الذي نتركه.
قوة الهدف الواحد: ابدأ كل أسبوع بسؤال “ما النتيجة المحورية التي ستجعل هذا الأسبوع ناجحا؟”. بمجرد تحديدها، اجعل كل قراراتك وأولوياتك تخدم هذا الهدف وحده، وكل ما عداه يصبح مجرد تفاصيل.
إن المقياس الحقيقي للنجاح لم يعد في امتلاك المزيد من الأدوات، بل في امتلاك أنفسنا، فالتقنية التي صنعت لتخدمنا، قد تُحولنا إلى عبيد لها حين تُستخدم بلا حكمة، فتسلبنا صفاء التفكير وسكينة العيش.
الجزيرة
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
حكم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة الموظفين.. الإفتاء تجيب
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا يقوب صاحبه: ما هو حكم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة الموظفين في بيئة العمل؟ وهل يجوز أن يمتد ذلك إلى تتبع خصوصياتهم خارج نطاق الوظيفة؟
وأجابت الإفتاء عن السؤال قائلة: استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل إن كان لمتابعة إنجاز المهام، وضبط أوقات الدوام، وحماية البيانات، ونحو ذلك من الأغراض المشروعة، فلا حرج في ذلك شرعًا إذا روعي فيه أن يكون مقصورًا على نطاق العمل، وفي حدود الضوابط التي تنظمها القوانين واللوائح المعمول بها.
وأمَّا استخدامها في غير ذلك من نحو تتبع الحياة الخاصة للموظفين وتتبع عوراتهم، أو مراقبة ما لا يتعلق بالعمل، أو جمع بياناتهم واستغلالها خارج ما تسمح به اللوائح والقوانين -فإن ذلك يكون مُحرَّمًا شرعًا، ومُجرَّمًا قانونًا.
الحكم الشرعي لاستخدام الذكاء الاصطناعي
بالنظر إلى الحكم الشرعي لاستعمال هذه التقنيات، فإنَّ الأصل في استخدام الذكاء الاصطناعي هو الإباحة، ما لم يندرج في صورةٍ مُحرَّمةٍ شرعًا، وذلك عملًا بالقاعدة الفقهية المقررة أن "الأصل في الأشياء الإباحة".
قال العلامة شيخي زاده في "مجمع الأنهر" (3/ 568، ط. دار إحياء التراث العربي): [واعلم أنَّ الأصل في الأشياءِ كلِّها سوى الفروج الإباحة] اهـ.
وقال الإمام الزُّرقَاني في "شرح مختصر خليل وحاشية البناني" (1/ 320، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل في الأشياء الإباحة حتى يثبت النهي] اهـ. وينظر: "الأشباه والنظائر" للإمام الحافظ السُّيُوطي (ص: 60، ط. دار الكتب العلمية)، و"مطالب أولي النهى" للعلامة الرُّحَيبَاني (6/ 218، ط. المكتب الإسلامي).
ضوابط استخدام الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل
استخدام الذكاء الاصطناعي وإن كان مباحًا من حيث الأصل لما تقرر، إلا أنه تابعٌ في الحكم لمقصوده، فمتى كان وسيلة لأمر مشروع أخذ حكم المشروعية، ومتى كان وسيلة لأمرٍ منهيٍّ عنه أخذ حكمه؛ لما تقرَّر في الشرع الشريف من أنَّ "للوسائل أحكام المقاصد"، كما في "قواعد الأحكام" للإمام عز الدين بن عبد السلام (1/ 53، ط. مكتبة الكليات الأزهرية).
ومن ثَمَّ فإنَّ استخدامَ تقنيات الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل يَختلف حكمه باختلاف الغرض والكيفية منه، فإذا كان الاستخدام داخل بيئة العمل لمتابعة إنجاز المهام، وضبط أوقات الدوام، وحماية بيانات الشركة، وصيانة مصالح العمل والعملاء، ونحو ذلك، فهو جائزٌ من حيث الأصل لما تقدَّم، على أن يلتزم بجملة ضوابط؛ أهمها:
- إعلام الموظفين مسبقًا بهذه الرقابة؛ تحقيقًا لمبدأ الشفافية.
- ألَّا يتجاوز النظامُ حدودَ العمل إلى الحياة الخاصة واتباع العورات.
- أن يقتصر على القدر الضروري لتحقيق المصلحة للعمل ومقتضياته.
حكم استخدام الذكاء الاصطناعي لتتبع الخصوصيات والحياة الشخصية للموظفين
أمَّا إذا كان الاستخدام لتتبع خصوصيات الموظفين خارج نطاق العمل، أو الاطلاع على حياتهم الشخصية وما لا صلة له بأداء وظائفهم، فهو أمرٌ محرَّمٌ شرعًا؛ لاشتماله حينئذ على عدة محظورات، من أبرزها: انتهاك الخصوصيات والتعدي عليها، والتجسس على الناس، وتتبع عوراتهم.
ومن المقرَّر في الشريعة الإسلامية صونُ حرمة الحياة الخاصة للأفراد، واعتبارها من الحقوق الشرعية التي لا يجوز انتهاكها أو التعدي عليها بغير مسوِّغ شرعي.
ومن أبرز مظاهر ذلك: ما قرره الشرع الشريف من وجوب الاستئذان في دخول البيوت؛ حفظًا لخصوصية الإنسان في هيئته وشؤونه؛ ذلك لأن المرء في بيته غالبًا ما يكون في صورة غير التي يقابل بها الناس، فحفظ الإسلام له ذلك الحق، وأمر المسلمين ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم إلا بعد أن يستأذنوا، بل ويشعروا بالاستئناس بهم أيضًا، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ [النور: 27].
قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (19/ 149، ط. مؤسسة الرسالة): [إن الاستئناسَ الاستفعالُ من الأُنس، وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم، مخبرًا بذلك مَن فيه، وهل فيه أحد؟ وليؤذنهم أنه داخل عليهم، فليأنس إلى إذنهم له في ذلك، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم] اهـ.
كما قررت السُّنة النبوية قاعدة عامة في صيانة خصوصيات الناس وترك التدخل فيما لا يعنيه، فعن أَبِي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مِن حُسنِ إِسلَامِ المَرءِ تَركُهُ مَا لَا يَعنِيهِ» أخرجه الإمامان: الترمذي، وابن ماجه.
كما نهى الشرع الحنيف عن التجسُّس وتتبع عورات الناس، وتحسُّس أفعالهم وأقوالهم، وحذَّر أيَّما تحذيرٍ من الإقدام على أيٍّ من هذه الأفعال، حتى وإن كان الهدفُ إنكارَ المنكر؛ لما في ذلك من تعدٍّ على حُرمة الآخرين، وإفسادٍ للعلاقات الطيِّبة بينهم، وجلبٍ للكراهية والبغضاء، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، والمعنى: لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك، كما في "الجامع لأحكام القرآن" للإمام القُرطُبي (10/ 257، ط. دار الكتب المصرية).
وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَجَسَّسُواْ﴾ [الحجرات: 12]، أي: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، كما في "جامع البيان" للإمام الطبري (22/ 304، ط. مؤسسة الرسالة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِيَّاكُم وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا» أخرجه الإمامان: البخاري واللفظ له، ومسلم. ولهذا عدَّ الإمامُ الحافظُ الذهبي في كتابه "الكبائر" (ص: 159، ط. دار الندوة الجديدة) "الكبيرة الثانية والأربعون: التسمع على الناس وما يسرون" من جملة الكبائر التي توعد الله تعالى مرتكبها بالعقاب.
بل قد شدَّد الشرع الشريف في التحذير من التجسس، والخوض في أعراض الناس والتنقيب عن عوراتهم، مبينًا أن من اعتاد ذلك عرَّض نفسه للفضيحة، إذ يفضحه الله تعالى ولو كان في جوف بيته، فعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تُؤذُوا عِبَادَ اللهِ، وَلَا تُعَيِّرُوهُم، وَلاَ تَطلُبُوا عَورَاتِهِم؛ فَإِنَّهُ مَن طَلَبَ عَورَةَ أَخِيهِ المُسلِمِ طَلَبَ اللهُ عَورَتَهُ حَتَّى يَفضَحَهُ فِي بَيتِهِ» أخرجه الإمامان: أحمد واللفظ له، والطبراني في "المعجم الأوسط".
كما حذَّر الشرع من التطلع إلى ما كل ما يخص المسلم من مكتوبٍ أو نحو ذلك دون إذن صاحبه، فجاء الوعيد الشديد لمن تعمد ذلك، سواء أكان بالنظر أو بالاستماع، حتى عُدَّ ذلك في كلام بعض أهل العلم نوعًا من السرقة.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تَستُرُوا الجُدُرَ، مَن نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيرِ إِذنِهِ فَإِنَّمَا يَنظُرُ فِي النَّارِ» أخرجه الأئمة: أبو داود، والطبراني، والحاكم وصححه.
قال الإمام ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (4/ 147-148، ط. المكتبة العلمية): [هذا تمثيلٌ: أي كما يَحذَر النارَ فليَحذَر هذا الصنيع. وقيل: معناه: كأنما ينظر إلى ما يُوجِبُ عليه النارَ. ويحتمل أنه أراد عقوبة البصر؛ لأن الجناية منه، كما يعاقب السمع إذا استمع إلى حديث قومٍ وهُم له كارهون، وهذا الحديث محمولٌ على الكتاب الذي فيه سرٌّ وأمانةٌ يَكرَهُ صاحبُهُ أن يُطَّلَعَ عليه. وقيل: هو عامٌّ في كل كتاب] اهـ.
وعنه أيضًا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ استَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَومٍ وَهُم لَهُ كَارِهُونَ، أَو يَفِرُّونَ مِنهُ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَومَ القِيَامَةِ» أخرجه الإمام البخاري.
قال الإمام ابن هبيرة الشيباني في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (3/ 196، ط. دار الوطن): [المستمع إلى حديثِ مَن لا يُحِبُّ استماعَهُ سارقٌ، إلا أنه لم يسرق بتناول دراهم فكانت تُقطَعُ، ولكنه تناول ذلك عن باب السمع فَصُبَّ فيه الآنُك، والآنُك: نوعٌ من الرصاص فيه صلابة] اهـ.
وقال العلامة الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 679، ط. دار الحديث): [والحديث دليل على تحريم استماع حديث من يكره سماع حديثه، ويُعرف بالقرائن أو بالتصريح] اهـ.