من الإخوان إلى داعش.. الإسلام السياسي في خدمة الغرب
تاريخ النشر: 20th, October 2025 GMT
منذ أن خطّ الاستعمار حدوده على خريطة العالم العربي، لم يتوقف عن صناعة الأدوات التي يضرب بها خصومه من الداخل.
لم تكن المدافع والبوارج وحدها كافية لإخضاع الشعوب، فابتكر فكرةً أشد فتكًا: تيارًا يتحدث باسم الدين، لكنه يخدم مصالح الغرب ويمهّد لتفكيك الأوطان بأيدي أبنائها. هكذا وُلد الإسلام السياسي — لا من رحم الأمة، بل من رحم المخابرات الاستعمارية.
في عام 1928، أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية، تحت سمع وبصر سلطات الاحتلال البريطاني، وفي ظل النفوذ الواسع لشركة قناة السويس العالمية، التي كانت تُعدّ دولة داخل الدولة المصرية آنذاك.
وفي ذلك العام منحت إدارة الشركة تبرعًا ماليًا قدره خمسمائة جنيه لبناء مقرٍّ ومسجدٍ للجماعة الوليدة — وهو مبلغ كبير جدًا بمقاييس ذلك الزمان — بعد أن بادر مكتب المخابرات بالشركة إلى تبنّي حسن البنا وجماعته ودعم نشاطهم.
وقد شكّل هذا الدعم المادي المبكر مؤشرًا واضحًا على طبيعة النشأة التي لم تكن بعيدة عن رعاية القوى الاستعمارية ومصالحها في مواجهة التيار الوطني المصري المتمثل آنذاك في حزب الوفد بزعامة مصطفى النحاس ومكرم عبيد.
تهاوى حزب الوفد في الأربعينيات، إثر حادث 4 فبراير عام 1942، حين فُرضت عليه إرادة الاحتلال البريطاني وأُجبر الملك فاروق على إعادة مصطفى النحاس إلى الحكم، فوقع الحزب بعدها تحت هيمنة الإقطاع السياسي ممثلًا في عائلات البدراوي والوكيل وسراج الدين.
ومع مرور الأيام كانت تلك السيطرة سببًا في تفريغ الحزب من مضمونه الوطني الذي وُلد من أجله، حتى أفلس الحزب ومات سياسيًا قبل ثورة 23 يوليو 1952 التي أطلقت عليه رصاصة الرحمة.
وبلغ التدهور السياسي بحزب الوفد في ثمانينيات القرن الماضي أن قبل بالتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين طمعًا في بضعة مقاعد داخل مجلس الشعب المصري عام 1984، في مشهدٍ يلخص المسافة الفاصلة بين وفد سعد زغلول الذي قاد ثورة الأمة، ووفد سراج الدين الذي باع تاريخه في صفقات انتخابية عابرة.
وفي الخمسينيات والستينيات، خاضت أمريكا وبريطانيا حروبًا طاحنة ضد نظام جمال عبد الناصر وضد مشروعه التحديثي ورؤيته شبه العلمانية لتطوير مصر والعالم العربي.
فقد دعمت تلك القوى الإخوان المسلمين ضده، كما دعمت الملكيات الرجعية المتاجرة بالدين حتى نجحت في القضاء على عبد الناصر.
ولم تكن فرنسا بعيدة عن دعم أعداء الأمة، فهي التي منحت إسرائيل سر القنبلة الذرية، كما أن الطيران الإسرائيلي الذي ضرب مصر في حرب 1967 كان فرنسي الصنع، وبعد الهزيمة بدأ تدفق طائرات الفانتوم وسكاي هوك الأمريكية إلى إسرائيل.
وفي سبعينيات القرن الماضي، دعم الغرب نظام حكم أنور السادات وتحالفاته مع السعودية والإخوان المسلمين، بغرض تفكيك تركة عبد الناصر السياسية والاقتصادية.
كما شجعت الولايات المتحدة الأمريكية السادات على إرسال آلاف الشباب المصريين للقتال ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وهناك، في جبال وصحارى أفغانستان، تمت ولادة تنظيم القاعدة، وكان أسامة بن لادن نجمًا في صحافة الغرب يُقدَّم كبطلٍ لا يُشق له غبار ما دام يؤدي الدور المرسوم له أمريكيًا في محاربة السوفييت.
هؤلاء الشباب أنفسهم عادوا إلى مصر ليُشعلوا موجة الإرهاب الممتدة من اغتيال السادات حتى حادث الأقصر عام 1997، وهم أنفسهم الذين طفوا على السطح بعد انتفاضة 25 يناير 2011 وخلال العام الأسود لحكم الإخوان.
وفي عام 1979، عاد الخميني من فرنسا عبر طائرة فرنسية ليعتلي موجة الثورة الشعبية الإيرانية، ويمنحها للتيار الديني في إيران، مؤسسًا نظام حكم الملالي الثيوقراطي، ومؤججًا لنيران الصراع المذهبي السني- الشيعي.
وفي عام 2001، ارتد السحر على الساحر، فالبطل المصنوع غربيًا لقهر السوفييت انقلب على صانعيه بضرب برجي التجارة في أمريكا، لتبدأ بعدها حرب عبثية ضد أفغانستان، ثم حرب دموية لاحتلال العراق جعلت منه ساحة حرب بالوكالة بين إيران والسعودية.
أما ثورات ما يسمى بالربيع العربي، فقد جاءت لتنفيذ مخطط الغرب لإسقاط النظم الحاكمة في العالم العربي بعد أن استنفدت أغراضها في خدمة مصالحه، ولتمهيد الطريق أمام صعود التيار الإسلامي إلى الحكم، حتى ينشغل الإسلاميون بإدارة بلدانهم بدلًا من الدخول في صدام مع الغرب — ولو إلى حين.
في ليبيا، شنّ الغرب حربًا مدمرة بقيادة أمريكا وفرنسا وبريطانيا ضد نظام القذافي، انتهت بعودة ليبيا إلى عصر القبائل، وتحولها إلى مرتعٍ لكل تيارات الإسلام السياسي التكفيرية.
وفي سوريا، تم إشعال ثورة ضد نظام بشار الأسد انتهت بولادة جبهة النصرة وجبهة تحرير الشام وكتائب إرهابية من كل لونٍ وجنس، خرجت جميعها من بالوعة الإسلام السياسي، وتصب كلها في نفس المصرف الإرهابي الدموي، وذلك بدعمٍ مباشر من الغرب، خاصة أمريكا وبريطانيا وتركيا.
وفي هذا المناخ نفسه، الذي صنعته الحروب الممولة والمفتوحة على الحدود، خرج إلى الوجود تنظيم «داعش» كأحدث إصدارات الإسلام السياسي في نسخته الأكثر توحشًا. وُلد التنظيم من رحم الفوضى التي خلّفها الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، حين جرى حلّ الجيش العراقي وتفكيك مؤسسات الدولة وتسليم البلاد للطائفية والمليشيات.
وجدت المخابرات الأمريكية والبريطانية في هذا المناخ المريض بيئةً مثاليةً لولادة تنظيمٍ يجمع بين خطاب التكفير واحتراف القتل، فتم توجيه الفصائل الجهادية السابقة في العراق لتتحول إلى كيانٍ واحد تحت اسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام». وقد أُتيح لهذا التنظيم أن يتمدد بسرعةٍ مريبة داخل العراق وسوريا، تحت سمع وبصر الطائرات الأمريكية التي كانت تراقب كل شبرٍ من الأرض، دون أن تتدخل إلا حين أرادت تغيير الخريطة.
وباسم «الخلافة»، ارتكب تنظيم «داعش» أبشع الجرائم بحق العرب والمسلمين، من ذبحٍ وحرقٍ واغتصابٍ وبيعٍ للنساء في أسواق النخاسة، ليُقدَّم للعالم بوصفه الوجه الحقيقي للإسلام.
وهكذا أدّى التنظيم الدور المطلوب منه بدقة: تشويه صورة الإسلام، وإعادة تبرير الوجود العسكري الغربي في المنطقة، وإغراق العالم العربي في دوامة الدم والدمار باسم الدين.
في يونيو 2007 نفّذت حركة حماس انقلابًا عسكريًا في قطاع غزة ضد السلطة الفلسطينية، أنهت به عمليًا الشراكة التي قامت عقب انتخابات 2006، وأسفرت المواجهات عن سيطرة الحركة الكاملة على القطاع وطرد الأجهزة الأمنية التابعة للرئيس محمود عباس. مثّل هذا الانقلاب تحولًا خطيرًا في مسار القضية الفلسطينية، إذ انقسمت الجغرافيا والشرعية بين غزة تحت حكم حماس، والضفة الغربية تحت إدارة السلطة، مما أضعف الموقف الفلسطيني أمام الاحتلال. وقد كشف هذا الحدث عن الطبيعة الحقيقية لجماعة الإخوان المسلمين حين تقترب من الحكم، إذ تغلّب مصلحتها التنظيمية على المصلحة الوطنية، وتتعامل مع السلطة باعتبارها غنيمة لا مسؤولية، فتنقلب على شركائها وتحتكر القرار، ولو كان الثمن تمزيق الوطن وتعميق الانقسام.
وفي عام 2023، جاء هجوم السابع من أكتوبر ليكشف الوجه الآخر لفصائل الإسلام السياسي في فلسطين. فحركة حماس الإخوانية، التي رفعت شعار المقاومة، لم تحسب الأمر سياسيًا أو استراتيجيًا، وخاضت مغامرة كارثية سلّمت فيها نحو مليونَيْن وثلاثمائة ألف فلسطيني في قطاع غزة إلى آلة القتل الصهيونية.
كان الهجوم دون تقدير لتوازن القوى أو توقع لرد الفعل الإسرائيلي، فدفع المدنيون الثمن الباهظ من دمائهم وبيوتهم وأحلامهم.
تحوّل القطاع إلى جحيم من النار والدمار، وقُتل عشرات الآلاف وجُرح مئات الآلاف، ودُمّر مستقبل أجيال كاملة، بينما يعلن قادة حماس عن تحقيقهم النصر على أنقاض غزة المنكوبة.
لقد جسّد ذلك الهجوم، مرة أخرى، المأساة المزمنة التي تصنعها حركات الإسلام السياسي: استخدام الدين والمقاومة غطاءً لسياسات خاطئة لا تخدم إلا مخططات أعداء الأمة.
ومن حسن البنا إلى أبي بكر البغدادي، يبقى مسار الإسلام السياسي واحدًا: صناعة استعمارية متقنة الصنع، تتغير وجوهها وأسماؤها، لكن جوهرها واحد، تفكيك الأمة من داخلها، وتشويه دينها، وتحويله من رسالة تحررٍ إلى أداة استعبادٍ واستبداد.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: مقالات سوريا العراق داعش أمريكا حزب الوفد الإسلام السياسي حسن البنا جمال عبد الناصر المخابرات البريطانية الإخوان المسلمين أنور السادات سعد زغلول السوفييت الإخوان المسلمین الإسلام السیاسی فی عام
إقرأ أيضاً:
الخلطة الدينية في الحالة السياسية المصرية
الحشود الكبيرة، المقدرة بما يزيد على المليوني شخص، في الليلة الأخيرة، أو كما يسمونها الليلة الكبيرة، أمس الخميس، في ختام احتفالات ليالي السيد البدوي، أحد أولياء الله الصالحين، بمدينة طنطا، عاصمة محافظة الغربية وسط الدلتا بمصر، فتحت الباب واسعا، في الأوساط الثقافية المصرية، بشكل خاص، أمام نقاشات قد تكون سوفسطائية بلا جدوى حول الحالة الدينية، ما بين الاتجاه الرسمي للدولة، وتحديدا النظام الحاكم حاليا، والمزاج الشعبي في أنحاء البلاد، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، وما إذا كانت الدولة تتجاوب مع هذا المزاج، أم أن الشعب يسير خلف توجهات الدولة الدينية حتى لو كانت الخلفية سياسية.
مولد السيد البدوي يأتي ضمن عدد آخر من الموالد على امتداد العام، في محافظات أخرى من البلاد، في المدن والقرى، إلا أن تعيين وزير جديد للأوقاف العام الماضي (أسامة الأزهري) بخلفيته الصوفية المنظمة للموالد، يمنحها هذا العام زخما خاصا، ذلك أن الرجل يعتاد الظهور كثيرا في مثل هذه المناسبات، وسط حاشية كبيرة من أنصاره الذين يطلَق عليهم "الدراويش" بطقوسهم الغريبة إلى حد كبير، والتي تواجَه باستنكار يصل إلى حد التكفير من فصائل دينية أخرى، ممن يطلق عليهم السلفيين المنتشرين في مختلف الأنحاء أيضا.
ما بين المتصوفة والسلفيين، يقف الأزهر بوسطيته المعتادة، رافضا لقضية التكفير من حيث المبدأ، حتى أن شيخ الجامع الأزهر الشيخ أحمد الطيب رفض من قبل تكفير تنظيم الدولة "داعش" أو غيره من التنظيمات أو الجماعات الأخرى، انطلاقا من أن النطق بالشهادتين في حد ذاته يعصمان المسلم من مثل تلك الأحكام، التي أصبحت تطال أيضا جماعة الإخوان المسلمين بمجرد الإطاحة بهم من سدة الحكم عام 2013. والغريب أن هذه الأحكام جاءت من متصوفة وسلفيين وغيرهم، ممن كانوا على وفاق مع الإخوان في السابق، وربما كانوا في تحالفات سياسية أيضا.
جماعة أهل السنة عموما يشكلون 100 في المئة من المسلمين في مصر، باستثناء حالات لا تتجاوز العشرات أو المئات، ما بين شيعة، وبهائية، ويهود، وملحدين، إذا استثنينا الطائفة القبطية بالطبع، والتي تشكل نحو 5 في المئة من الشعب المصري، حسب التقديرات الرسمية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء -على الرغم من أنهم يزعمون بأكثر من ذلك- وهو ما يجعل من الطوائف العديدة داخل الإسلام السني في حد ذاته حالة غريبة شكلا وموضوعا؛ قد تكون صحية في بعض الأحيان، إلا أنها تصل إلى حد العداء في أحيان كثيرة، غير أنه لا تتوافر الظروف التي تدعو إلى الصدام فيما بينها.
على الرغم من ذلك، سوف نجد أن الأنظمة السياسية المتعاقبة تعمل على العبث أو اللعب داخل هذه الطوائف أو التيارات، باستمالة هذه واستبعاد تلك، أو العكس، في ضوء مدى الاهتمامات السياسية لأي منها، وهو ما جعل من جماعة الإخوان المسلمين على الدوام جماعة عدائية في نظر الأنظمة، نظرا لاشتغالها بالسياسة، بل والسعي إلى السلطة وكرسي الحكم، على خلاف الجماعات الصوفية التي دأبت دائما وأبدا على التعاون مع الجهات الأمنية، والبعد عن العمل السياسي، في الوقت الذي تتعامل فيه الجماعات السلفية مع الموقف حسب متطلباته، بمعنى العمل في السياسة أو الابتعاد عنها، من خلال توجيهات الجهات الأمنية في الحالتين.
من هنا كان من الطبيعي أن نجد جماعة الإخوان خارج المشهد الآن، في الوقت الذي يسمح فيه النظام حاليا، من خلال التعيين الرئاسي، بتمثيل برلماني على استحياء لكل من المتصوفة والسلفيين، على الرغم من المعارضة العلمانية العلنية، والقبطية في الغرف المغلقة، إلا أن حصول العلمانيين والأقباط على حصة أو قطعة من الكعكة تجعلهم يكتمون غيظهم ويخضعون للأمر الواقع، بما يشير إلى أن النظام، أو الأجهزة الأمنية، تستطيع إخضاع الجميع بلقيمات صغيرة في نهاية الأمر.
يمكن اعتبار الحالة الدينية في مصر مجرد خلطة ترضي جميع الأطراف، لا تتداخل فيما بينها، ولا ترتبط أيضا بالدين بالقدر الكافي
وإذا وضعنا في الاعتبار الحفل الموسيقي الراقص الصاخب الذي أقيم بمنطقة الأهرامات، قبل مولد السيد البدوي بعدة أيام، وبلغت تذكرة دخوله عشرة آلاف من الجنيهات، بمشاركة 15 ألف شخص، يمكن اعتبار الحالة الدينية في مصر مجرد خلطة ترضي جميع الأطراف، لا تتداخل فيما بينها، ولا ترتبط أيضا بالدين بالقدر الكافي، حتى أننا لم نسمع اعتراضا من أي منها على مجريات حفل الأهرامات، أو غيره من الاحتفالات المشابهة، التي تجد امتعاضا شعبيا كبيرا على "السوشيال ميديا" بين كل الفئات والأعمار بشكل عام، إلا أنها لا تجد اهتماما من المشتغلين بأمور الدين، الذين ينتقدون بعضهم بعضا على مدار الساعة، ما دام النظام يريد ذلك.
فيما يتعلق برجال الدين، لم يعد هناك في مصر، الشيخ محمد الغزالي، أو الشيخ محمد متولي الشعراوي، أو الدكتور يوسف القرضاوي، أو الشيخ أحمد المحلاوي، أو الشيخ عبد الحميد كشك، رحمهم الله؛ يمكن كانوا إذا تحدثوا أسمعوا، بالتالي كان ما كان من هذه الحالة، التي هرب من خلالها الشباب إلى الإلحاد تارة، والمخدرات تارة أخرى، والجريمة ثالثة. وربما كانت الموالد هي الأخرى جهة هروب، يجد فيها الشباب ضالتهم مجانا، ما دامت وجهة الأهرامات تتطلب آلاف الجنيهات، بما لا يتيسر معه سوى هروب فئة واحدة فقط ممكن يمتلكون المال، وفي كل الأحوال كلها توجهات محمودة، ما دامت بمنأى عن السياسة!