43 عاماً من حكم بول بيا.. استقرارٌ يشيخ ودولة تبحث عن نفسها
تاريخ النشر: 20th, October 2025 GMT
في ذاكرة منطقة وسط أفريقيا؛ تمتد ثلاثةٌ وأربعون عاما من حكم بول بيا كفصل طويل لا ينتهي، يمر الزمن ببطء يشبه دوران النهر في موسم الجفاف.
هناك، عند تخوم الغابات الممتدة بين ياوندي وبانغي، ظل وجه واحد يطل على الناس صباح مساء؛ وجه شاخت ملامحه بقدر ما شاخت الدولة التي يحمل اسمها.
في عهده، ولدت أجيال متعاقبة، وتفتحت عيونها على المدارس والإذاعات والصحف، كان الرئيس بول بيا حاضرا في كل مشهد، في العملة، وفي اللافتات، وفي خطابات نهاية العام والمناسبات التي يكرر فيها وعود الاستقرار.
في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1982، تسلم بول بيا السلطة من سلفه أحمدو أهيدجو، ووعد بدولة عصرية يسودها القانون والأمن. لكن العقود التالية صنعت شيئا آخر، أنتجت نظاما يطول عمره كلما قصر أفقه. ومع تعديل الدستور عام 2008، لم يعد الزمن الكاميروني زمن شعب يسير إلى الأمام؛ ولكن زمن زعيم يلتف حول الدائرة نفسها.
واليوم، بعد مضي ثلاثة وأربعين عاما من حكم بول بيا، يدخل حلبة الانتخابات من جديد (أكتوبر/تشرين الأول 2025) وهو في الثانية والتسعين من عمره، ويخوض معركته الثامنة وكأن البلاد تدور في مدار رجل واحد. تلك ليست حكاية زعيم متمسك بالسلطة فحسب؛ بل حكاية دولة أسيرة استقرار يشيخ ببطء.
فمن خلف واجهة الهدوء الممتد، تتناسل أزمات موروثة، سلطة تتمدد ولا تتجدد أو تتغير، وجرح مفتوح في الجنوب الغربي والأنجلوفوني، وشمال أرهقه الفقر والعنف. أما الخارج، فيغض طرفه باسم الواقعية السياسية، والداخل يلوذ بالصمت خشية أن يكون التغيير أقسى من البقاء.
ولهذه الأهمية، ولأن السؤال عن الكاميرون اليوم هو في جوهره سؤال عن الزمن الأفريقي نفسه، يأتي هذا المقال محاولة لقراءة المشهد في عمقه لا في سطحه؛ ليتتبع كيف تحول خطاب الاستقرار إلى ذريعة للبقاء، وكيف أعاد النظام تشكيل مؤسساته لتخدم دوامه، وكيف انكشفت هشاشة الوحدة الوطنية مع تقدم العمر السياسي للدولة.
ثلاثة وأربعون عاما من حكم بول بيا.. من الاستقرار إلى التآكلتولى بول بيا الحكم في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1982، في لحظة وصفت آنذاك بأنها انتقال هادئ نحو "الاستقرار" بعد سنوات من التوتر السياسي. غير أن ذلك الوعد لم يتحول إلى بناء مؤسسي راسخ؛ بل إلى نمط حكم يقوم على دوام الريع واستدامة الولاءات الشخصية؛ حيث صار "الاستقرار" مرادفا لبقاء النظام أكثر من كونه ضمانا لحياة كريمة للمجتمع.
إعلانثم جاء تعديل الدستور عام 2008؛ ليكرس هذا التحول بوضوح، حين ألغيت القيود على عدد الولايات الرئاسية، فتحول الشعار من دعوة إلى الاستقرار إلى حصانة دستورية تقي الزعيم من الزمن ذاته. ومع انتخابات 12 أكتوبر/تشرين الأول 2025، بدا المشهد مؤشرا على أن النظام لم يعد يخشى صناديق الاقتراع بقدر ما يخشى تآكل القواعد التي أسندت بقاءه طوال العقود الماضية.
من الناحية الاقتصادية، لا يمكن إغفال تراجع زخم الأداء الوطني. ففي عام 2023، سجلت الكاميرون نموا بنحو 3.25% بعد أن بلغت 3.74% في عام 2022. ويقدر البنك الأفريقي للتنمية معدل النمو لعام 2023 بـ 3.8% مدفوعا بانتعاش قطاعَي الغابات والخدمات، بينما أعلن البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي ارتفع في عام 2024 إلى 3.5%؛ نتيجة تحسن الزراعة والطاقة. غير أن هذا النمو ظل رقميا أكثر منه معيشيا، إذ لم ينعكس على مستويات الدخل الحقيقية، أو ثقة المواطنين في الاقتصاد الوطني.
أما من الناحية السياسية، فنجد أن الفجوة بين الشباب (18-35 عاما)، وفئات السن الأكبر في المشاركة الانتخابية كبيرة، إذ يصبغ المشهد بغياب الحماس للفعل السياسي من الجيل الجديد. فالفجوة في معدل التصويت بين الشباب وكبار السن تبلغ 28%. هذا يدل على أن شرعية الزمن الطويل تتآكل ليس فقط في المؤسسات؛ بل في عزوف المجتمع نفسه عن المشاركة في العملية الانتخابية.
وهنا تتجلى المفارقة الكبرى التي تتمثل في خطاب الاستقرار، الذي صمم في بداياته كضمان للنظام، فبات يستخدم اليوم لتبرير الجمود. ففي غياب بدائل حقيقية، يتحول النظام إلى حالة زمنية؛ دولة لا تتغير إلا ببطء شديد، والمجتمع يطالب بالتغيير صمتا أكثر منه فعلا.
سلطة تجدد نفسها ولا تتغيرفي الكاميرون، لم يعد الزمن وحده أداة البقاء؛ بل غدت المؤسسة ذاتها آلة لتجديد النظام لا لتغييره. فمنذ اعتماد دستور 1996، ثم تعديله عام 2008، أعيدت صياغة القواعد الدستورية لتؤسس لنظام مغلق ذاتي الحماية.
فالرئيس يعين أعضاء المجلس الدستوري والمحكمة العليا ورؤساء الإدارات، ويسيطر على أكثر من أربعة أخماس المناصب العليا في الدولة، ما جعل الجهاز التنفيذي مركزا مطلقا للقرار، ومصدرا دائما لإعادة إنتاج الولاءات.
فتحول الحزب الحاكم، التجمع الديمقراطي الشعبي الكاميروني (RDPC)، من أداة تمثيل إلى آلية تسيير إداري وسياسي. ففي انتخابات 2020، حصد الحزب 152 مقعدا من أصل 180 في الجمعية الوطنية، واحتكر أغلب البلديات عبر شبكة من المحافظين ورؤساء الإدارات الذين يجمعون بين الولاء الحزبي والسلطة التنفيذية.
فبهذا التداخل، لم تعد الحدود بين الدولة والحزب واضحة، فصارت السلطة امتدادا إداريا أحاديا، تتحرك وفق إيقاع المركز، لا وفق موازين الناخبين.
أما المعارضة، فقد جرى تقييدها قانونيا بدل سحقها ميدانيا. فالقانون الانتخابي لعام 2012، فرض متطلبات مالية وإدارية تُعجز الأحزاب الصغيرة، بينما وُضعت هيئة الانتخابات (ELECAM) تحت نفوذ شخصيات قريبة من القصر الرئاسي.
وفي انتخابات 2025، استبعد المعارض البارز موريس كامتو بقرار من المجلس الدستوري بحجة "عدم استيفاء الشروط الإجرائية"، وهو ما اعتبرته منظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش إقصاء سياسيا مقنعا.
إعلانففي جوهر هذه المنظومة، تندمج السلطة والأمن والبيروقراطية في دائرة مغلقة؛ يتغير شكلها مع كل أزمة؛ لكنها تظل تدور حول محور واحد، ألا وهو: الزعيم. حيث تتبدل الخطابات والوجوه والوزارات، بينما يظل النظام في حقيقته كما هو، دولة تحافظ على نفسها لا على مواطنيها.
ومن هنا، يبرز الوجه الأكثر هشاشة لهذا الثبات المديد، وهو: الأزمة الأنجلوفونية، التي كشفت حدود القوة حين تواجه الدولة تحدي التنوع والشرعية معا.
أمبازونيا.. الجرح الأنجلوفوني وشيخوخة الشرعيةفي جنوب غرب الكاميرون وشمالها الغربي، تمتد الرقعة الأنجلوفونية التي تعرف بـ «أمبازونيا»؛ أقلية لغوية-قانونية تعود جذورها إلى الإرث الاستعماري، حين انضم الجنوب البريطاني عام 1961 إلى الكاميرون بصيغة اتحادية سرعان ما ألغيت عام 1972 لصالح دولة موحدة.
منذ ذلك الحين، تراكم شعور بالتهميش في مجالات التعليم والقضاء والتمثيل، وانفجر عام 2016 مع احتجاجات المحامين والمعلمين ضد طمس الهوية اللغوية والقانونية. وكان للرد الأمني القاسي، من اعتقالات وقطع للإنترنت وانتشار للوحدات الخاصة، دور في تحويل المطالب الإصلاحية إلى نزعة انفصالية انتهت بإعلان أحادي لاستقلال "أمبازونيا" في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017، ودخول البلاد في صراع منخفض الحِدة أوقع آلاف القتلى ومئات الآلاف من النازحين، وترك التعليم والخدمات في شلل شبه دائم. هكذا تهاوى نموذج "الاستقرار بالقوة"؛ حيث استعيدت الأرض؛ لكن فُقدت الثقة في الدولة.
ولا يختلف المشهد كثيرا في شمال البلاد؛ مناطق فرنكوفونية فقيرة تثقلها هشاشة البنى التحتية، وضعف الخدمات، وتعتمد على زراعة ممطرة ورعي مهدد بتغير المناخ، وحدود مفتوحة على أزمات نيجيريا وتشاد. هنا، تتكرر هجمات "بوكو حرام" منذ منتصف العقد الماضي، ويتزايد النزوح الداخلي، وتعطل المدارس بفعل الخوف وانعدام الأمان.
فالسخط في الشمال تنموي-أمني أكثر منه هوياتيا، يتمثل فيه إحساس بأن نصيب الشمال من التنمية لا يعادل كلفة معاناته، وأن يد الدولة الأمنية حاضرة حيث تغيب يدها التنموية.
فالجرحان (أمبازونيا كأزمة هوية، والشمال كأزمة تنمية)، يتقاطعان عند أصل واحد، ألا وهو: شيخوخة العقد الوطني تحت حكم طال أكثر مما ينبغي.
فبعد ثلاثة وأربعين عاما من حكم بول بيا، فقدت "شرعية الوقت" بريقها؛ جيل شاب يمثل أكثر من 60% من السكان يرى في استمرار النظام علامة ركود لا استقرار، وفي الخطاب الرسمي إدارة للخوف أكثر منها إدارة للتنمية والاعتراف.
وهنا يتجاوز السؤال حدود البقاء ليغدو أعمق: كيف يمكن استعادة الشرعية من دون القوة، ومن دون الزمن؟ سؤال يفتح الباب للنقاش حول تغاضي الخارج وصمت الداخل، وما يتيحه أو يعطله، من مسارات الخروج الممكنة.
الخلاصةفي نهاية المطاف، تختصر الكاميرون معضلتها في ثلاثة وأربعين عاما من حكم بول بيا؛ استقرار طال حتى أصبح عبئا، وزمن امتد حتى فقد معناه. فمنذ 1982، حول النظام "الأمن" إلى عقيدة تحميه لا دولة تحكمه، وجعل من الزمن جدارا يصد التغيير أكثر مما يصنعه.
فالانتخابات التي أجريت في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2025 لم تعلن نتائجها بعد؛ لكن مشهدها بدا استنساخا لقديم مألوف، ألا وهو: رئيس في الثانية والتسعين ينافس معارضا في السبعينيات من عمره، وكلاهما ابن للنظام ذاته. وبين هاتين الشيخوختين، يقف الناخب الكاميروني حائرا بين خوف من الفوضى، وأمل لا يجد طريقه، فيصوت للاستقرار لا اقتناعا به؛ لكن هروبا من المجهول.
وفي دول الجوار، يتردد الصدى ذاته. فجمهورية أفريقيا الوسطى تخشى أن تصاب شرايينها التجارية عبر ميناء دوالا بالشلل، وتخاف تشاد انسداد منفذها البحري الوحيد، بينما تراقب الغابون، الخارجة حديثا من إرث مشابه للكاميرون، مصير جارتها بقلق مكتوم. إذ إن اهتزاز ياوندي لن يكون أزمة وطنية فحسب؛ بل ارتجاجا في قلب الإقليم كله.
إعلانأعتقد أن الخطر الحقيقي لا يكمن في بقاء بول بيا؛ بل في بقاء فلسفة الحكم التي جعلت الزمن بديلا عن الإصلاح، والاستقرار غاية لا وسيلة. فحين تدار الدولة بالعمر لا بالمؤسسات، تصبح الشيخوخة قدرا عاما لا فرديا.
ففي الكاميرون، كما في كثير من أركان أفريقيا، لا يشيخ الزعيم وحده، بل تشيخ معه الفكرة التي جعلت البقاء انتصارا على التغيير لا استمرارا للحياة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات أکتوبر تشرین الأول أکثر من لم یعد
إقرأ أيضاً:
ليلى عز العرب لـ صدى البلد: مصر منارة الفن.. وأعمالي القادمة مفاجأة للجمهور
أعربت الفنانة ليلى عز العرب عن سعادتها البالغة بحضور فعاليات مهرجان الموسيقى العربية في دورته الحالية، مشيدةً بأهمية المهرجان في الحفاظ على الهوية الموسيقية العربية، ودوره في تقديم وجوه فنية واعدة إلى جانب تكريم رموز الزمن الجميل.
وفي تصريحات خاصة لـ «صدى البلد»، أكدت عز العرب أن مصر كانت وستظل منارة الفن في الوطن العربي، مشيرةً إلى أن مهرجان الموسيقى العربية يحمل رسالة فنية وثقافية هامة تتجاوز حدود الغناء، وتُعيد للأذهان أصالة الطرب وجمال الكلمة واللحن.
وقالت الفنانة إنها تربّت على أغاني كوكب الشرق أم كلثوم والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، مؤكدةً حبها الشديد لكافة نجوم الزمن الجميل، دون أن تُغفل متابعتها المستمرة للفن المعاصر وأصوات الجيل الجديد.
واختتمت حديثها بالكشف عن تحضيراتها لعدد من الأعمال الجديدة التي وصفتها بالمفاجأة، موضحةً أنها ستُعلن عن التفاصيل خلال الفترة المقبلة، وتوقعت أن تحظى بردود فعل قوية من جمهورها.