رحيل مفتي أثيوبيا رمز الاعتدال ووسيط حل النزاعات (بورتريه)

يوصف بأنه أب ومعلم ورمز للسلام والعلم، كرس حياته لنشر الاعتدال بين الأديان في إثيوبيا، وكان صوت الحكمة والوحدة في أوقات الانقسام.

كان وسيطا في حل النزاعات ذات الطابع المجتمعي والديني، وساهم في ترسيخ ثقافة التعايش بين مكونات المجتمع الإثيوبي.

مراسم تشييعه استمرت نحو 7 ساعات في يوم بدت فيه العاصمة أديس أبابا متوقفة عن حركتها المعتادة، إذ خرجت جموع غفيرة لتوديع المفتي الراحل في مراسم تأبين رسمية وشعبية، بمشاركة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وكبار مسؤولي الدولة، إلى جانب عشرات الآلاف من المواطنين وزعماء الطوائف الإسلامية والمسيحية، في مشهد نادر يعكس عمق الاحترام الذي ناله الشيخ عبر مسيرة امتدت لعقود من خدمة العلم والدين والتآلف بين مكونات المجتمع الأثيوبي.

نشأ الحاج عمر إدريس المولود في عام 1937 في منطقة ولو بإقليم أمهرا شمالي البلاد، في بيئة علمية ودينية محافظة وحفظ القرآن الكريم منذ صغره، وتلقى علوم الفقه والحديث والعقيدة على يد كبار العلماء في بلده. كما برز بين أقرانه في العلوم الشرعية واللغة العربية، حتى أصبح من العلماء الذين يجمعون بين الفقه الواعي المتين والرؤية الإصلاحية المتزنة.

بدأ دراسته في مساجد قريته قبل أن ينتقل إلى مدينة دَسّي ثم إلى أديس أبابا طلبا للعلم، حيث تتلمذ على يد كبار العلماء. وعين لاحقا مدرسا في مسجد الأنوار ومسجد النور في العاصمة، حيث كرس حياته لتدريس علوم الشريعة الإسلامية.

 كان من المؤسسين للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في إثيوبيا، وتولى رئاسته بين عامي 2018 و2022، كما شغل رئاسة مجلس المؤسسات الدينية في البلاد، وهو المنصب الذي يشمل أيضا المفتي العام لأثيوبيا، وسعى طيلة حياته لترسيخ القيم الإسلامية السمحة وتعزيز التعايش السلمي بين طوائف ومذاهب والأديان.

كان بعيدا تماما عن الجدال السياسي رغم أنه خاض جدالا مع شيخ الأزهر، أحمد الطيب، على خلفية بيان الطيب حول سد النهضة الإثيوبي. واعتبر إدريس أن خطاب الطيب "تصريح يفتقر للواقعية" ورأى بأن "هذا النوع من الدعوات يتعارض مع القيم الإسلامية، وهي مرفوضة تماما من حيث المبادئ الدينية"، حسب وكالة الأنباء الإثيوبية.

وأضاف إدريس أن "مياه النيل تنبع من إثيوبيا التي لها الحق في الاستفادة من مواردها الطبيعية دون إلحاق ضرر كبير بدول حوض النيل بشكل عام". وقال إدريس إن إثيوبيا "طلبت الاستخدام العادل والمنصف من الموارد الطبيعية التي تربط جميع دول حوض النيل، وهذا طلب عادل ولا ترفضه الشريعة والقانون أيضا".

وكان شيخ الأزهر قد دعا المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته ومساندة مصر والسودان في الحفاظ على حقوقهما المائية في نهر النيل، رافضا "ادعاء البعض ملكية النهر والاستبداد بالتصرف فيه بما يضر بحياة شعوب البلدين".

وقال إن "الأنهار هي ملكية عامة، ولا يصح بحال من الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف، أن تترك هذه الموارد ملكا لفرد، أو أفراد، أو دولة تتفرد بالتصرف فيها دون سائر الدول المشاركة لها في هذا المورد".

لقد أثرى الشيخ إدريس المكتبة الأثيوبية والإسلامية بأكثر من 50 كتابا في الفقه والتفسير والحديث النبوي باللغة الأمهرية. كما ترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة الأمهرية، وفسره أكثر من 300 مرة على مدى نصف قرن في العاصمة أديس أبابا، وفي عام 2019، منحته جامعة أديس أبابا درجة الدكتوراه الفخرية تقديرا لإسهاماته في التعليم والإصلاح الاجتماعي.

وتوفي الشيخ عمر إدريس الأحد الماضي عن عمر ناهز 88 عاما، واكتظ مسجد بنين الكبير، أحد أشهر المساجد في البلاد بالمصلين، وامتلأت الساحات المحيطة بالمصلين الذين توافدوا منذ ساعات الصباح الأولى، حتى غدت الشوارع المحيطة بالمسجد أشبه بأمواج من البشر، في مشهد يجسد مكانة الرجل في قلوب الناس.

وبعد الصلاة، نقل جثمان الراحل في موكب مهيب في حين اصطف المواطنون على جانبي الطريق، حتى وصل الموكب إلى قاعة الألفية، حيث أُقيمت مراسم التأبين الرسمية التي نقلها التلفزيون الإثيوبي على الهواء مباشرة لنحو 5 ساعات متواصلة.

كان الشيخ عمر إدريس من أوائل من ساهموا في تنظيم العمل الإسلامي في إثيوبيا، واشتهر بدوره البارز في توحيد صفوف المسلمين ودعوتهم إلى الاعتدال ونبذ الفرقة والعنف، وكان رمزا فريدا يتناغم فيه العلم بالخلق، والقيادة بالتواضع، والموقف بالرأفة. 

تمثل وفاته نهاية حقبة اجتمعت فيها السلطة الدينية والمسؤولية المدنية في شخصه، كان بالنسبة للمسلمين في البلاد معلما ومرشدا، أما بالنسبة للأمة الأثيوبية فقد كان رمزا للاعتدال والوحدة والتسامح.

المصدر: عربي21