فلسفة الذكاء الاصطناعي.. الوعي بين الفكرة والآلة
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
لا يأتي كتاب "الفلسفة في الذكاء الاصطناعي.. من التنظير إلى الممارسة الإبستيمولوجية" للدكتور إبراهيم كراش بوصفه إضافة إلى مكتبة فلسفة التكنولوجيا فحسب، بل بوصفه أيضا قراءة نقدية معمقة لمسار معرفي يربط بين الفكر والعقلانية والآلة.
فالذكاء الاصطناعي -كما يراه المؤلف- ليس مشروعا علميا منفصلا عن الفلسفة، إنما هو استئناف لسؤال الوعي في صورته الأكثر جرأة: هل يمكن إعادة إنتاج العقل؟ وهل يمكن للآلة أن تفكر بطريقة تتجاوز المحاكاة؟
وقد صدر الكتاب حديثا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 257 صفحة متضمنا ملخصا تنفيذيا ومقدمة و4 فصول وخاتمة تحليلية، لكن قيمة هذا العمل لا تكمن في ترتيبه البنيوي بقدر ما تكمن في المنهج الذي يتبناه.
وينطلق كراش من فرضية أن الذكاء الاصطناعي هو "لوغوس" جديد -أي خطابا عقلانيا مغايرا -يحاول من خلال التقنية أن يعيد تعريف المعرفة ذاتها، وأن يختبر حدود المفهوم الإنساني للعقل والإدراك.
يبدأ المؤلف رحلته بتتبّع الجذور الفكرية للذكاء الاصطناعي في تاريخ أقدم بكثير من الثورة الرقمية، فمنذ القرون الوسطى حاول الإنسان تحويل الفكر إلى آلة رمزية كما فعل ريموند لول بآلته الجدلية، أو بليز باسكال بآلته الحاسبة، وصولا إلى ديكارت الذي أنكر إمكانية أن تمتلك الآلة لغة ووعيا.
وبين هذين الموقفين تشكّل أول تمايز بين الأسطورة والعقل، فالإنسان الذي حلم بصناعة كائن شبيه به لم يتوقف يوما عن محاولة ترميز هذا الحلم في صيغ رياضية ومنطقية.
ويرى كراش أن تلك المحاولات المبكرة تمثل أصل الفلسفة الميكانيكية للفكر هي التي مهدت لاحقا لتأسيس علم الحوسبة في القرن الـ20.
ومع ظهور آلة تورينغ أصبحت مسألة "محاكاة الذكاء" مشروعا علميا قائما بذاته يسعى إلى نقل صفات التفكير البشري إلى بنى خوارزمية، لكن الكاتب يذكّر بأن هذه المسافة بين التفكير البشري والذكاء المصطنع لا تزال قائمة، لأن الفهم لا الأداء هو جوهر المسألة.
إعلانويخصص كراش مساحة واسعة لتحليل ما يسميه الإشكال الإبستيمولوجي للذكاء: ما الذي نعنيه حين نصف كائنا بأنه "ذكي"؟ وهل يمكن لذكاء بلا وعي أن يُعد فهما؟
تتعدد -كما يرى المؤلف- الإجابات بقدر تنوع الحقول التي تدرس الظاهرة، فالمبرمجون يربطونه بقدرة الخوارزميات على حل المشكلات، وعلماء الأعصاب يرونه عرفا بيولوجيا للدماغ، في حين ينظر إليه الفلاسفة إليه متسائلين عن طبيعة الفهم ذاته.
وهكذا، يتشكل الذكاء الاصطناعي على هيئة حقل متشظ معرفيا أكثر منه علما متجانسا، وهو تشظ يراه المؤلف مصدر غنى أكثر مما هو ضعف، لأنه يتيح للفلسفة أن تستعيد موقعها النقدي، فتسائل الأسس التي يقوم عليها "التمثيل" و"المعنى" و"القصد".
بين التمثيل والوظيفة.. صراع المفاهيميناقش الكتاب بإسهاب تقاليد فلسفية شكلت الخلفية النظرية للذكاء الاصطناعي، فمن جهة يقف التقليد التمثّلي الذي يرى أن الفكر بنية رمزية يمكن تمثيلها وتفكيكها وبالتالي إعادة بنائها برمجيا.
ومن جهة أخرى، تتقدم النزعة الوظيفية التي تفصل بين طبيعة العمليات العقلية ومادتها العضوية، فالعقل -وفق هذا المنظور- مجموعة من الوظائف التي يمكن للآلة أداؤها إذا أعيدت برمجتها بما يحاكي السلوك البشري ويناظره.
لكن كراش يتعامل مع هذين التيارين من موقع الناقد لا المفسر، فيشير إلى أن كليهما يتجاهلان البعد الوجداني للوعي، وأن تحويل الفكر إلى رموز أو إلى وظائف قابلة للترميز يعني فقدان جزء جوهري من التجربة الإنسانية التي تصنع المعنى.
ومن هنا تتبلور أطروحة المؤلف المركزية أن الفهم ليس عملية حسابية، بل علاقة حية بين الذات والعالم، وأن أي مشروع لتقليد الذكاء دون تجسد في سياق حسي يظل ناقصا مهما بلغت دقة النماذج الرياضية.
النقد الفلسفي وحدود الآلة
في القسم النقدي من الكتاب يعرض كراش حجج فيلسوفين تركا أثرا عميقا في النقاش الفلسفي بشأن الذكاء الاصطناعي وهما هوبرت دريفوس وجون سيرل.
هذان الفيلسوفان يريان أن الذكاء الإنساني يتأسس على "الوجود في العالم"، أي على خبرة جسدية وسياقية لا يمكن ترميزها، لذلك فالآلة مهما بدت قادرة على معالجة الرموز لا تفهم معانيها.
يتعامل كراش مع هذين الموقفين بوصفهما حدين معرفيين لا يمكن تجاهلهما، فهما لا ينفيان إمكانية التقدم التقني، بل يحددان الأفق الذي يمكن فيه فهم "الفكر الآلي" محاكاة للقدرة لا تماثلا في الجوهر.
وفي قراءته لهما يوازن المؤلف بين الإقرار بمحدودية الذكاء الاصطناعي وبين الإصرار على قيمته الإبستيمولوجية، إذ إن محاولة تقليد العقل نفسها تكشف ما لا نعرفه بعد عن طبيعة العقل.
من اللوغوس إلى إعادة بناء العقلانيةأحد أكثر جوانب الكتاب فرادة هو تناوله مسألة اللوغوس باعتبارها البنية الفكرية التي توجه مشروع الذكاء الاصطناعي، فاللوغوس عند كراش ليس مجرد منطق لغوي أو نظام رموز، بل هو روح عقلانية جديدة تعيد تعريف معنى المعرفة في زمن الحوسبة.
ويرى المؤلف أن الإنسان المعاصر في سعيه لتحويل العقل إلى كود يعيد إنتاج أسئلة الفلاسفة الأوائل عن حدود العقل والمعرفة.
وبهذا المعنى، فإن الذكاء الاصطناعي ليس انقطاعا عن التاريخ الفلسفي، بل امتداد لمسار طويل يبدأ بالأسطورة وينتهي بالبرمجة.
إعلانلقد تحول الحلم القديم في صناعة كائن عاقل إلى محاولة رياضية لتشييد خطاب بديل عن الأسطورة، لكن أثر الأسطورة لم يختف تماما، بل تسرب إلى الخطاب العلمي نفسه، فبقيت الرغبة في "صنع شبيه الإنسان" حافزا خلف التقدم التقني.
الفلسفة والآلة.. تماه لا تقاطعوختاما، فإن كراش يقدم أطروحة دقيقة وخطيرة في آن وهي أن العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي ليست علاقة خارجية، بل تماه في سؤال الوعي ذاته.
فالذكاء الاصطناعي لا يستعير من الفلسفة أدواتها ليفكر بها، بل هو نفسه ممارسة فلسفية بوسائل رقمية، إنه حقل يعيد إلينا صورة العقل من الخارج، ويجبرنا على مساءلة ما كنا نظنه بديهيا في إدراكنا لأنفسنا.
وبهذا المعنى لا ينظر المؤلف إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه تقنية للتفكير، بل "مرآة معرفية" تعكس حدود الفكر الإنساني، وتفتح الفلسفة على ممارسة جديدة تتقاطع فيها الرموز والمعاني والآلة والذات.
يمثل هذا العمل إضافة مهمة إلى المكتبة العربية في ميدان فلسفة الذكاء الاصطناعي، فهو لا يكتفي بنقل النقاش الغربي إلى القارئ العربي، بل يعيد صياغته ضمن رؤية إبستيمولوجية متجذرة في تقاليد التفكير النقدي.
ويظهر في أسلوب كراش التوازن بين الدقة المفهومية واللغة الشارحة المجردة، إذ يكتب بوعي فلسفي لا يتخلى عن صرامة التحليل، ويمنح قارئه أدوات لفهم الأسئلة الكبرى التي تطرحها الثورة التقنية.
إن الذكاء الاصطناعي -كما يراه المؤلف- ليس مجرد برنامج أو خوارزمية، بل هو مشروع أنطولوجي يعيدنا إلى سؤال الوجود الإنساني نفسه: من نحن حين نصنع عقلا غيرنا؟ وما الذي يتبقى من الإنسان حين تصبح أفكاره قابلة للبرمجة؟
وبهذا، فالكتاب دعوة إلى مواصلة التفكير في المجهول الذي نسميه "العقل"، وهو لا يقدم تصورا نهائيا ولا يفضي إلى إجابات كاملة بقدر ما يفتح أفقا فلسفيا يتجاوز الانبهار بالتقنية نحو وعي نقدي بها يجعل من الذكاء الاصطناعي مناسبة لتجديد الفلسفة ذاتها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي المشترك هو التعددية الجديدة
جاكوب تايلور ـ جوشوا تان
مؤخرًا، أنجز تحالف دولي من مختبرات الذكاء الاصطناعي ومزودي الخدمات السحابية شيئًا عمليًا إلى حد مثير للحماس: فقد جمع أعضاء التحالف مواردهم الحاسوبية لكي يقدموا لنا Apertus، وهو نموذج لغوي ضخم مفتوح المصدر (LLM) سويسري الصنع، متاح بالمجان للمستخدمين في مختلف أنحاء العالم. والاستفسارات التي يتلقاها Apertus من الممكن أن تُـعالَج في سويسرا، أو في النمسا، أو سنغافورة، أو النرويج، أو المركز الوطني السويسري للحوسبة الفائقة، أو البنية الأساسية الحاسوبية الوطنية في أستراليا. تُـرى هل يشير هذا المشروع إلى التقدم في مجال التعاون الدولي؟
في القرن العشرين، أصبح التعاون الدولي مرادفًا عمليًا للنظام المتعدد الأطراف القائم على القواعد، والذي تدعمه مؤسسات قائمة على معاهدات مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. لكن منافسات القوى العظمى وفجوات التفاوت البنيوية تسببت في تآكل أداء هذه المؤسسات، الأمر الذي أدى إلى ترسيخ حالة الشلل وتسهيل إكراه الضعفاء من جانب الأقوياء. كما يشهد تمويل التنمية والمساعدات الإنسانية انحدارًا متواصلًا، حيث أصبحت مبادئ أساسية مثل التسوية، والمعاملة بالمثل، والسعي إلى تحقيق نتائج ترسخ المنفعة المتبادلة موضع تساؤل وتشكك. لقد أفضى تراجع التعاون من جانب الحكومات الوطنية إلى زيادة الحيز المتاح لقوى فاعلة أخرى ـ بما في ذلك المدن، والشركات، والمؤسسات الخيرية، وهيئات تحديد المعاييرـ لتشكيل النتائج. في قطاع الذكاء الاصطناعي، تتسابق حفنة من الشركات الخاصة في شينزين ووادي السيليكون لتعزيز هيمنتها على البنية الأساسية وأنظمة التشغيل التي ستشكل أسس اقتصاد الغد. إذا سُمح لهذه الشركات بالنجاح دون ضابط أو رابط، فسوف يُترَك الجميع غيرها تقريبا للاختيار بين التبعية وانعدام الأهمية. لن تكون الحكومات وغيرها من الجهات التي تعمل من أجل المصلحة العامة معرضة بشدة للتسلط الجيوسياسي والاضطرار إلى الاعتماد الشديد على بائعين بعينهم فحسب، بل ستكون الخيارات المتاحة لها أيضا قليلة عندما يتعلق الأمر بالانتفاع من فوائد الذكاء الاصطناعي وإعادة توزيعها، أو إدارة العوامل الخارجية البيئية والاجتماعية السلبية المرتبطة بالتكنولوجيا. ولكن كما أظهر التحالف الذي يقف وراء النموذج اللغوي الضخم Apertus، فإن نوعًا جديدًا من التعاون الدولي أصبح في حكم الممكن، وهو لا يستند إلى مفاوضات مضنية ومعاهدات معقدة، بل إلى بنية أساسية مشتركة لحل المشكلات. وبصرف النظر عن سيناريو الذكاء الاصطناعي الذي قد يحدث في السنوات القادمة ــ الهضبة التكنولوجية، أو الانتشار البطيء، أو الذكاء الاصطناعي العام، أو الفقاعة المنهارة ــ فإن أفضل فرصة لتمكين القوى المتوسطة من مواكبة الولايات المتحدة والصين، وزيادة استقلاليتها ومرونتها، تكمن في التعاون. يشكل تحسين توزيع منتجات الذكاء الاصطناعي ضرورة أساسية. ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي للقوى المتوسطة ومختبرات وشركات الذكاء الاصطناعي التابعة لها أن تعمل على توسيع نطاق مبادرات مثل «أداة استدلال الذكاء الاصطناعي المشترك»، وهي منظمة غير ربحية مسؤولة عن توفير الوصول العالمي عبر الإنترنت إلى النموذج Apertus وغيره من النماذج المفتوحة المصدر. ولكن من الأهمية بمكان أن تعمل هذه الدول أيضا على سد الفجوة في القدرات مع النماذج الرائدة مثل GPT-5 أو DeepSeek-V3.1 ــ وهذا يتطلب تحركًا أكثر جرأة. لن يتسنى للقوى المتوسطة أن تشارك في تطوير حزمة من الذكاء الاصطناعي عالمية المستوى إلا من خلال التنسيق بين الطاقة، والحوسبة، وخطوط أنابيب البيانات، والمواهب.
هذا النمط من التعاون ليس بلا سابقة. ففي سبعينيات القرن الماضي، عملت الحكومات الأوروبية على تجميع رؤوس أموالها ومواهبها، وتنسيق سياساتها الصناعية، لإنشاء شركة تصنيع طائرات قادرة على منافسة شركة بوينج الأمريكية. قد تستلزم استراتيجية «الذكاء الاصطناعي على غرار مشروع إيرباص» إنشاء مختبر دولي مشترك بين القطاعين العام والخاص مكرس للتدريب المسبق لطائفة من النماذج الأساسية المفتوحة المصدر وإتاحتها مجانا كبنية أساسية على مستوى المرافق. لن تكون النتيجة عملاقًا آخر موحدًا من عمالقة الذكاء الاصطناعي، بل بنية أساسية مفتوحة من الممكن أن تشارك قوى فاعلة عديدة في البناء عليها.
هذا النهج من شأنه أن يدفع الابتكار من خلال السماح للمختبرات الوطنية، والجامعات، والشركات المشاركة القريبة من حدود الإبداع (مثل Mistral وCohere) بإعادة تخصيص ما يصل إلى 70% من تمويلها المخصص لمرحلة ما قبل التدريب على النماذج لاستغلاله في مرحلة ما بعد التدريب (النماذج المتخصصة أو الاستدلالية)، والتوزيع، وحالات الاستخدام المدفوعة بالطلب. علاوة على ذلك، سيساعد هذا في تمكين الحكومات والشركات من السيطرة على الأنظمة البيئية التي تحكم عمل الذكاء الاصطناعي والتي تعتمد عليها على نحو متزايد، بدلًا من أن تظل رهينة انعدام اليقين الجيوسياسي وقرارات الشركات، بما في ذلك تلك التي تؤدي إلى «تدهور الجودة والانحدار تدريجيا». لكن الفوائد المحتملة تمتد إلى أبعد من ذلك؛ فمن الممكن إعادة استخدام هذه البنية الأساسية المفتوحة ــ وخطوط أنابيب البيانات المبنية عليها ــ لمواجهة تحديات مشتركة أخرى، مثل خفض تكاليف معاملات التجارة العالمية في الطاقة الخضراء أو تطوير إطار عمل دولي للمفاوضة الجماعية لصالح العاملين في الوظائف المؤقتة. لإظهار كامل إمكانات هذا الإطار التعاوني الجديد، ينبغي للقوى المتوسطة أن تستهدف المشكلات التي وُجِـدَت أنظمة البيانات البيئية والتكنولوجيات الناضجة بالفعل من أجل حلها؛ وأن تحرص على تقديم مصلحة المشاركين الذاتية في الأهمية على تكاليف المعاملات المرتبطة بالتعاون؛ وأن تجعل قيمة العمل المشترك واضحة للمواطنين والقادة السياسيين. في غضون سنوات قليلة، عندما تبلغ دورة إبداع ورأسمال الذكاء الاصطناعي الحالية منتهاها، سيكون أمام القوى المتوسطة إما أن تتحسر على زوال النظام القائم على القواعد وتشاهد كيانات الذكاء الاصطناعي العملاقة وهي ترسخ خطوط الصدع الجيوسياسية أو تجني فوائد أطر الإبداع الجديدة في تعزيز أواصر التعاون.
جاكوب تايلور زميل في مركز التنمية المستدامة التابع لمؤسسة بروكينجز وزميل الذكاء الاصطناعي العام.
جوشوا تان المؤسس المشارك ومدير الأبحاث في ميتاجوف.
خدمة بروجيكت سنديكيت