تحولات العقل التربوي العربي في ظل الذكاء الاصطناعي العابر للثقافات
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
في زمن يتشكّل فيه المستقبل وفق معادلات غير مسبوقة من التفاعل بين الإنسان والتقنية، يقف التعليم العربي أمام اختبار حضاري يتجاوز حدود التحديث الأداتي، ليطال عمق الرؤية التي نمتلكها تجاه المعرفة، والهوية، وموقعنا من الثورة الرقمية. فلم يعد الذكاء الاصطناعي تطورًا تقني في سياق أدوات التعلم، بل بات جزءاً من معادلة أوسع تُعيد رسم العلاقة بين من يمتلك المعرفة ومن يتلقاها، وتؤثر في الطريقة التي نُقدّم بها لغتنا وثقافتنا، وتنعكس أيضًا على من يملك النفوذ في إنتاج المعرفة وتوجيهها.
في هذا الإطار، لا يمكن اختزال حضور الذكاء الاصطناعي في المدرسة العربية كقضية تكنولوجية محضة، بل ينبغي النظر إليه كعنصر فاعل ضمن بنية القوة المعرفية المعولمة. فالقدرة على إنتاج المحتوى وتوجيه مسارات التعلم أصبحت جزءًا من تنافسية عالمية تتداخل فيها السياسات اللغوية، والاحتكارات الرقمية، والبُنى العميقة للتمايز الثقافي. وبهذا المعنى، فإن أي مقاربة جادة لإدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم العربي ينبغي أن تبدأ من فهمه بوصفه فضاءً للصراع على المعنى، لا مجرد أداة لتسريع التعلم أو تخفيف الأعباء.
في السياق العربي، ثمة مفارقة واضحة؛ فبينما تنفتح الفرص أمام إدخال الذكاء الاصطناعي في الفصول الدراسية، يظل المحتوى الرقمي العربي ضعيفًا من حيث الكم والنوعية. هذا الضعف لا يُعد مجرد نقص في البيانات، بل انعكاس لتراجع الاستثمار في اقتصاد المعرفة، وتهميش اللغة العربية ضمن الأطر التقنية العالمية. إن غياب نماذج لغوية عميقة تستوعب البنية العربية المعقدة، وتُحاكي ثراءها الدلالي، يُشكّل ثغرة استراتيجية تُهدد السيادة المعرفية للمنطقة في عالم تُدار فيه المعرفة بالخوارزميات.
وهنا، يظهر دور الدولة بوصفها فاعلًا معرفيًا، لا مجرد منظم للتقنية. فمن دون سياسات وطنية تُعيد الاعتبار للغة، وتستثمر في البحث والتطوير لبناء بنى تحتية معرفية قادرة على استيعاب الذكاء الاصطناعي وتوجيهه، سيظل التعليم العربي مفعولًا به في معادلة معرفية لا تُنتجها مؤسساته، بل تُستورد من خارجه. والمقصود بالسياسات هنا ليس الدعم الرمزي أو إطلاق المبادرات المؤقتة، بل بناء منظومات معرفية تشتبك مع الذكاء الاصطناعي من موقع الفاعلية، وليس التلقي.
ولا بد أيضًا من مساءلة النماذج التربوية التقليدية التي ما زالت تهيمن على المدارس والجامعات العربية. فالمعلم الذي يُقوّم الطلاب وفق مناهج تلقينية جامدة، سيجد نفسه عاجزًا أمام أنظمة تعليمية تفاعلية تُعيد تشكيل معنى الفهم ذاته. وهذا يتطلب إعادة تأطير وظيفة التعليم؛ من عملية نقل للمعرفة إلى مشروع لإنتاج الوعي، ومن منظومة تقييم بيروقراطية إلى فضاء معرفي مفتوح، يسمح بإعادة تعريف النجاح، والمشاركة، والإبداع.
في هذا المسار، تظهر إمكانات الذكاء الاصطناعي ليس فقط في دعم عمليات التعليم، بل في إعادة هندسة العلاقة مع التراث الثقافي واللغوي. فتقنيات التحليل الآلي للنصوص القديمة، والتعرف البصري على المخطوطات، والنمذجة اللغوية العميقة، تفتح أفقًا جديدًا أمام إعادة قراءة الذاكرة العربية، وتفكيك مركزية النموذج المعرفي الغربي، من خلال أدوات تنطلق من داخل اللغة العربية لا من خارجها.
لكن هذه الرؤية تظل رهينة لعوامل أعمق، تتعلق بقدرتنا على بناء عقد اجتماعي معرفي جديد، يعيد تعريف العلاقة بين التعليم والمواطنة، وبين التقنية والهوية. فالذكاء الاصطناعي يحمل في طياته إمكانات غير محدودة، لكنه أيضًا يُعيد إنتاج التفاوتات إذا ما تُرك للمنصات الكبرى تتحكم فيه من دون ضوابط ثقافية وتشريعية محلية. ولهذا، فإن الإدماج الحقيقي للتقنية لا يتم بالاستيراد، بل بالتحكم في شروط إنتاجها، وتوجيه استخدامها بما يخدم مشروعًا حضاريًا متكاملًا.
ليس من المبالغة القول إن رهانات التعليم في العالم العربي باتت مرتبطة مباشرة بقدرتنا على حيازة المعرفة كأداة سيادية. فالأسواق اليوم لا تدار فقط برؤوس الأموال، بل بمن يمتلك القدرة على بناء خوارزميات تتحكم في السلوك البشري، وتوجه الأذواق، وتُنتج المعايير. والمدرسة التي تفشل في أن تُدرّب طلابها على التفكير النقدي، وفهم بنية الخوارزمية، والتفاعل مع التقنية كمسؤولية حضارية، تُكرّس التبعية المعرفية.
في ضوء ذلك، فإن التفكير في التعليم العربي في عصر الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون مشروعًا للنهضة، لا برنامجًا إصلاحيًا تقنيًا. ولا يكفي أن نُدرج الذكاء الاصطناعي في المناهج، بل يجب أن نُعيد عبره طرح السؤال الجوهري؛ أي معرفة نريد أن نُنتج؟ ولأي غاية نُعلّم؟ وكيف نحفظ للغة العربية مكانتها، دون أن نُحوّلها إلى مجرد وسيط لترجمة مفاهيم الغير؟
فإذا لم يتحول هذا السؤال إلى بوصلة للمؤسسات التعليمية، فسنجد أنفسنا في مشهد تُسيطر عليه أنظمة ذكية لا تنتمي إلينا، ومناهج تُدار من خارج ثقافتنا، وخريجون عاجزون عن فهم تعقيدات عالمهم. أما إذا نجحنا في تحويل الذكاء الاصطناعي إلى حقلٍ معرفي نُعيد من خلاله إنتاج موقعنا التاريخي، فإن المدرسة العربية قد تصبح من جديد فضاءً لتكوين العقل، لا فقط لتلقين المهارة.
إن ما نحتاجه ليس المزيد من الأدوات، بل خيالًا فكريًا يعيد بناء الجسور بين الإنسان والتفكير، بين اللغة وكرامتها، وبين التعليم ودوره في تشكيل الوعي المسؤول والمشارك في بناء مستقبل الدولة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی فی التعلیم العربی
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي يصحّح أخطاء الأبحاث الطبية
طوّر فريق بحثي من جامعة إلينوي في أوربانا شامبين الأميركية منظومة ذكاء اصطناعي متقدمة تعتمد على الحوسبة الفائقة لاكتشاف الأخطاء والثغرات في تقارير التجارب السريرية، بهدف تعزيز دقة وشفافية الأبحاث الطبية.
واستخدم الفريق نظام Bridges-2 التابع لمركز الحوسبة العلمية في بيتسبرغ (PSC) لتدريب أدوات الذكاء الاصطناعي على تحديد الخطوات المفقودة في تقارير التجارب السريرية العشوائية المضبوطة (Randomized Controlled Trials)، وهي الركيزة الأساسية لتقييم أمان وفعالية العلاجات الجديدة.
ويهدف المشروع إلى تطوير أداة مفتوحة المصدر تساعد الباحثين والمجلات العلمية على تحسين تخطيط وتنفيذ ونشر نتائج التجارب بدقة أكبر.
- اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي يكشف أسرار "شياطين الغبار" في المريخ
التجارب العشوائية
تُعدّ التجارب السريرية العشوائية أفضل مصدر للأدلة العلمية، إذ تُوزع فيها الحالات بين مجموعات العلاج والضبط لتجنب التحيّز وضمان عدالة النتائج.
وفي حال غياب العشوائية، قد تُخصَّص مجموعة من المرضى الأكثر خطورة دون قصد، ما يؤدي إلى نتائج غير عادلة أو مضللة.
كما ينبغي تحديد أهداف التجربة ومعايير النجاح مسبقاً لتجنّب انتقاء النتائج بعد التنفيذ، لكن كثيراً من الدراسات، رغم التزامها بالإجراءات الصحيحة، تفتقر إلى التوثيق الكافي، ما يعرقل تقييم موثوقيتها.
ونظراً للكمّ الكبير من الدراسات المنشورة سنوياً تتزايد صعوبة مراجعتها جميعاً بدقة لاكتشاف الفجوات.
وقال البروفيسور هليل كيليتش أوغلو من جامعة إلينوي: "كثير من تقارير التجارب السريرية تفتقر إلى الشفافية والتفاصيل، مما يجعل تقييم قوة الأدلة أمراً معقداً".
← أداة ذكاء اصطناعي تكشف 9 أنواع من الخرف بفحص واحد
تدريب الذكاء الاصطناعي
درّب فريق البحث، الذكاء الاصطناعي على فحص الأبحاث العلمية لرصد العناصر المفقودة في التجارب السريرية، بالاعتماد على دليلي CONSORT 2010 وSPIRIT 2013 اللذين يحددان 83 معياراً لتوثيق التجارب بدقة.
واستعان بتقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP) لتحليل نحو 200 دراسة بحثية نُشرت بين عامي 2011 و2022.
واستفاد النظام من قدرات Bridges-2 في معالجة البيانات الضخمة ووحدات GPU لتدريب الشبكات العصبية من نوع Transformer القادرة على التمييز بين التقارير الجيدة والناقصة.
وأثناء التدريب، تعلّم النموذج أنماط النصوص الصحيحة وعدّل أداءه تدريجياً قبل اختباره على مجموعة جديدة من المقالات للتحقق من دقته.
وأوضح كيليتش أوغلو: "وفّر لنا النظام موارد قوية وبرمجيات جاهزة سهلت على طلابي تطوير النماذج بكفاءة".
← الذكاء الاصطناعي يسلّح جهاز المناعة بـ"صواريخ" لمهاجمة الخلايا السرطانية
نتائج واعدة
حقق النموذج أداء بلغ 0.742 على مستوى الجمل و0.865 على مستوى المقالات، ونُشرت النتائج في مجلة Scientific Data.
ويعمل الباحثون على تحسين الدقة بزيادة حجم البيانات واستخدام تقنيات مثل الاستقطار (Distillation) لتعليم نماذج أصغر يمكن تشغيلها على الحواسيب الشخصية.
ويهدف المشروع إلى إتاحة الأداة مجاناً للباحثين والمجلات لمراجعة التقارير واكتشاف الأخطاء قبل النشر، بما يسهم في تحسين جودة الأبحاث الطبية وتعزيز موثوقيتها عالمياً.
أمجد الأمين (أبوظبي)