لجريدة عمان:
2025-10-24@20:29:38 GMT

الذكاء الاصطناعي المشترك هو التعددية الجديدة

تاريخ النشر: 24th, October 2025 GMT

جاكوب تايلور ـ جوشوا تان

مؤخرًا، أنجز تحالف دولي من مختبرات الذكاء الاصطناعي ومزودي الخدمات السحابية شيئًا عمليًا إلى حد مثير للحماس: فقد جمع أعضاء التحالف مواردهم الحاسوبية لكي يقدموا لنا Apertus، وهو نموذج لغوي ضخم مفتوح المصدر (LLM) سويسري الصنع، متاح بالمجان للمستخدمين في مختلف أنحاء العالم. والاستفسارات التي يتلقاها Apertus من الممكن أن تُـعالَج في سويسرا، أو في النمسا، أو سنغافورة، أو النرويج، أو المركز الوطني السويسري للحوسبة الفائقة، أو البنية الأساسية الحاسوبية الوطنية في أستراليا.

تُـرى هل يشير هذا المشروع إلى التقدم في مجال التعاون الدولي؟

في القرن العشرين، أصبح التعاون الدولي مرادفًا عمليًا للنظام المتعدد الأطراف القائم على القواعد، والذي تدعمه مؤسسات قائمة على معاهدات مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. لكن منافسات القوى العظمى وفجوات التفاوت البنيوية تسببت في تآكل أداء هذه المؤسسات، الأمر الذي أدى إلى ترسيخ حالة الشلل وتسهيل إكراه الضعفاء من جانب الأقوياء. كما يشهد تمويل التنمية والمساعدات الإنسانية انحدارًا متواصلًا، حيث أصبحت مبادئ أساسية مثل التسوية، والمعاملة بالمثل، والسعي إلى تحقيق نتائج ترسخ المنفعة المتبادلة موضع تساؤل وتشكك. لقد أفضى تراجع التعاون من جانب الحكومات الوطنية إلى زيادة الحيز المتاح لقوى فاعلة أخرى ـ بما في ذلك المدن، والشركات، والمؤسسات الخيرية، وهيئات تحديد المعاييرـ لتشكيل النتائج. في قطاع الذكاء الاصطناعي، تتسابق حفنة من الشركات الخاصة في شينزين ووادي السيليكون لتعزيز هيمنتها على البنية الأساسية وأنظمة التشغيل التي ستشكل أسس اقتصاد الغد. إذا سُمح لهذه الشركات بالنجاح دون ضابط أو رابط، فسوف يُترَك الجميع غيرها تقريبا للاختيار بين التبعية وانعدام الأهمية. لن تكون الحكومات وغيرها من الجهات التي تعمل من أجل المصلحة العامة معرضة بشدة للتسلط الجيوسياسي والاضطرار إلى الاعتماد الشديد على بائعين بعينهم فحسب، بل ستكون الخيارات المتاحة لها أيضا قليلة عندما يتعلق الأمر بالانتفاع من فوائد الذكاء الاصطناعي وإعادة توزيعها، أو إدارة العوامل الخارجية البيئية والاجتماعية السلبية المرتبطة بالتكنولوجيا. ولكن كما أظهر التحالف الذي يقف وراء النموذج اللغوي الضخم Apertus، فإن نوعًا جديدًا من التعاون الدولي أصبح في حكم الممكن، وهو لا يستند إلى مفاوضات مضنية ومعاهدات معقدة، بل إلى بنية أساسية مشتركة لحل المشكلات. وبصرف النظر عن سيناريو الذكاء الاصطناعي الذي قد يحدث في السنوات القادمة ــ الهضبة التكنولوجية، أو الانتشار البطيء، أو الذكاء الاصطناعي العام، أو الفقاعة المنهارة ــ فإن أفضل فرصة لتمكين القوى المتوسطة من مواكبة الولايات المتحدة والصين، وزيادة استقلاليتها ومرونتها، تكمن في التعاون. يشكل تحسين توزيع منتجات الذكاء الاصطناعي ضرورة أساسية. ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي للقوى المتوسطة ومختبرات وشركات الذكاء الاصطناعي التابعة لها أن تعمل على توسيع نطاق مبادرات مثل «أداة استدلال الذكاء الاصطناعي المشترك»، وهي منظمة غير ربحية مسؤولة عن توفير الوصول العالمي عبر الإنترنت إلى النموذج Apertus وغيره من النماذج المفتوحة المصدر. ولكن من الأهمية بمكان أن تعمل هذه الدول أيضا على سد الفجوة في القدرات مع النماذج الرائدة مثل GPT-5 أو DeepSeek-V3.1 ــ وهذا يتطلب تحركًا أكثر جرأة. لن يتسنى للقوى المتوسطة أن تشارك في تطوير حزمة من الذكاء الاصطناعي عالمية المستوى إلا من خلال التنسيق بين الطاقة، والحوسبة، وخطوط أنابيب البيانات، والمواهب.

هذا النمط من التعاون ليس بلا سابقة. ففي سبعينيات القرن الماضي، عملت الحكومات الأوروبية على تجميع رؤوس أموالها ومواهبها، وتنسيق سياساتها الصناعية، لإنشاء شركة تصنيع طائرات قادرة على منافسة شركة بوينج الأمريكية. قد تستلزم استراتيجية «الذكاء الاصطناعي على غرار مشروع إيرباص» إنشاء مختبر دولي مشترك بين القطاعين العام والخاص مكرس للتدريب المسبق لطائفة من النماذج الأساسية المفتوحة المصدر وإتاحتها مجانا كبنية أساسية على مستوى المرافق. لن تكون النتيجة عملاقًا آخر موحدًا من عمالقة الذكاء الاصطناعي، بل بنية أساسية مفتوحة من الممكن أن تشارك قوى فاعلة عديدة في البناء عليها.

هذا النهج من شأنه أن يدفع الابتكار من خلال السماح للمختبرات الوطنية، والجامعات، والشركات المشاركة القريبة من حدود الإبداع (مثل Mistral وCohere) بإعادة تخصيص ما يصل إلى 70% من تمويلها المخصص لمرحلة ما قبل التدريب على النماذج لاستغلاله في مرحلة ما بعد التدريب (النماذج المتخصصة أو الاستدلالية)، والتوزيع، وحالات الاستخدام المدفوعة بالطلب. علاوة على ذلك، سيساعد هذا في تمكين الحكومات والشركات من السيطرة على الأنظمة البيئية التي تحكم عمل الذكاء الاصطناعي والتي تعتمد عليها على نحو متزايد، بدلًا من أن تظل رهينة انعدام اليقين الجيوسياسي وقرارات الشركات، بما في ذلك تلك التي تؤدي إلى «تدهور الجودة والانحدار تدريجيا». لكن الفوائد المحتملة تمتد إلى أبعد من ذلك؛ فمن الممكن إعادة استخدام هذه البنية الأساسية المفتوحة ــ وخطوط أنابيب البيانات المبنية عليها ــ لمواجهة تحديات مشتركة أخرى، مثل خفض تكاليف معاملات التجارة العالمية في الطاقة الخضراء أو تطوير إطار عمل دولي للمفاوضة الجماعية لصالح العاملين في الوظائف المؤقتة. لإظهار كامل إمكانات هذا الإطار التعاوني الجديد، ينبغي للقوى المتوسطة أن تستهدف المشكلات التي وُجِـدَت أنظمة البيانات البيئية والتكنولوجيات الناضجة بالفعل من أجل حلها؛ وأن تحرص على تقديم مصلحة المشاركين الذاتية في الأهمية على تكاليف المعاملات المرتبطة بالتعاون؛ وأن تجعل قيمة العمل المشترك واضحة للمواطنين والقادة السياسيين. في غضون سنوات قليلة، عندما تبلغ دورة إبداع ورأسمال الذكاء الاصطناعي الحالية منتهاها، سيكون أمام القوى المتوسطة إما أن تتحسر على زوال النظام القائم على القواعد وتشاهد كيانات الذكاء الاصطناعي العملاقة وهي ترسخ خطوط الصدع الجيوسياسية أو تجني فوائد أطر الإبداع الجديدة في تعزيز أواصر التعاون.

جاكوب تايلور زميل في مركز التنمية المستدامة التابع لمؤسسة بروكينجز وزميل الذكاء الاصطناعي العام.

جوشوا تان المؤسس المشارك ومدير الأبحاث في ميتاجوف.

خدمة بروجيكت سنديكيت

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

حكم استخدام الذكاء الاصطناعي في مراقبة الموظفين

أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر مقوعها الرسمي مضمونة:"ما هو حكم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة الموظفين في بيئة العمل؟ وهل يجوز أن يمتد ذلك إلى تتبع خصوصياتهم خارج نطاق الوظيفة؟".

لترد دار الإفتاء موضحة: أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل إن كان لمتابعة إنجاز المهام، وضبط أوقات الدوام، وحماية البيانات، ونحو ذلك من الأغراض المشروعة، فلا حرج في ذلك شرعًا إذا روعي فيه أن يكون مقصورًا على نطاق العمل، وفي حدود الضوابط التي تنظمها القوانين واللوائح المعمول بها.

وأمَّا استخدامها في غير ذلك من نحو تتبع الحياة الخاصة للموظفين وتتبع عوراتهم، أو مراقبة ما لا يتعلق بالعمل، أو جمع بياناتهم واستغلالها خارج ما تسمح به اللوائح والقوانين -فإن ذلك يكون مُحرَّمًا شرعًا، ومُجرَّمًا قانونًا.

الذكاء الاصطناعي بين النعمة والتسخير الإلهي

الذكاء الاصطناعي من أبرز ما وصل إليه الإنسان في ميدان الابتكار والتطوير التكنولوجي، وهو ثمرةٌ من ثمار العقل الذي أودعه الله فيه، وتسخيرٌ من تسخيرات الله تعالى لعباده، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29]، وقال جل شأنه: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 13].

وتُعدُّ تقنيات الذكاء الاصطناعي أداةً نافعةً في خدمة الإنسان وتيسير شؤونه، متى استُعملت في الخير، وضُبطت بضوابط الشرع الحنيف.

دعاء للأم بالصحة والعافية.. ردّده يحفظها الله من كل مكروه وسوءدعاء بعد صلاة الليل مفاتيح الجنان .. أدركه بـ 6 كلمات مُستجابة

الحكم الشرعي لاستخدام الذكاء الاصطناعي
بالنظر إلى الحكم الشرعي لاستعمال هذه التقنيات، فإنَّ الأصل في استخدام الذكاء الاصطناعي هو الإباحة، ما لم يندرج في صورةٍ مُحرَّمةٍ شرعًا، وذلك عملًا بالقاعدة الفقهية المقررة أن "الأصل في الأشياء الإباحة".

قال العلامة شيخي زاده في "مجمع الأنهر" (3/ 568، ط. دار إحياء التراث العربي): [واعلم أنَّ الأصل في الأشياءِ كلِّها سوى الفروج الإباحة] اهـ.

وقال الإمام الزُّرقَاني في "شرح مختصر خليل وحاشية البناني" (1/ 320، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل في الأشياء الإباحة حتى يثبت النهي] اهـ. وينظر: "الأشباه والنظائر" للإمام الحافظ السُّيُوطي (ص: 60، ط. دار الكتب العلمية)، و"مطالب أولي النهى" للعلامة الرُّحَيبَاني (6/ 218، ط. المكتب الإسلامي).

ضوابط استخدام الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل
استخدام الذكاء الاصطناعي وإن كان مباحًا من حيث الأصل لما تقرر، إلا أنه تابعٌ في الحكم لمقصوده، فمتى كان وسيلة لأمر مشروع أخذ حكم المشروعية، ومتى كان وسيلة لأمرٍ منهيٍّ عنه أخذ حكمه؛ لما تقرَّر في الشرع الشريف من أنَّ "للوسائل أحكام المقاصد"، كما في "قواعد الأحكام" للإمام عز الدين بن عبد السلام (1/ 53، ط. مكتبة الكليات الأزهرية).

ومن ثَمَّ فإنَّ استخدامَ تقنيات الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل يَختلف حكمه باختلاف الغرض والكيفية منه، فإذا كان الاستخدام داخل بيئة العمل لمتابعة إنجاز المهام، وضبط أوقات الدوام، وحماية بيانات الشركة، وصيانة مصالح العمل والعملاء، ونحو ذلك، فهو جائزٌ من حيث الأصل لما تقدَّم، على أن يلتزم بجملة ضوابط؛ أهمها:

- إعلام الموظفين مسبقًا بهذه الرقابة؛ تحقيقًا لمبدأ الشفافية.

- ألَّا يتجاوز النظامُ حدودَ العمل إلى الحياة الخاصة واتباع العورات.

- أن يقتصر على القدر الضروري لتحقيق المصلحة للعمل ومقتضياته.

موقف القانون المصري من حماية البيانات الشخصية
قد أيَّد المشرع المصري هذه الضوابط من الناحية القانونية في قانون حماية البيانات الشخصية رقم 151 لسنة 2020م؛ حيث نصَّ في المواد (2، 3، 8، 12) على أنَّ جمع أو معالجة البيانات الشخصية لا يكون إلا بموافقة صريحة من صاحبها، وللغرض المعلَن فقط، وفي الحدود الضرورية، مع الالتزام بحفظها وصونها من أي إفشاء أو استعمال غير مشروع، فضلًا عن إلزام المؤسسات بتعيين مسؤول لحماية البيانات، بما يكفل احترام خصوصية الموظفين وصون حقوقهم القانونية.

كما أكد المجلس الوطني المصري للذكاء الاصطناعي في رؤيته التنظيمية، من خلال "الميثاق المصري للذكاء الاصطناعي المسؤول" (الإصدار الأول- 2023م)، على وجوب خضوع ضوابط وآليات استخدام الذكاء الاصطناعي للقوانين والتشريعات المعمول في الدولة ذات الصلة، فنص في المبادئ التوجيهية العامة (الفقرة رقم 7) على أن: [تخضع جميع مراحل دورة حياة نظام الذكاء الاصطناعي -بما في ذلك جمع واستضافة وهندسة البيانات والتطوير والاختبار والنشر والتشغيل المستمر والمراقبة والصيانة- إلى قوانين جمهورية مصر العربية ذات الصلة، ومن ذلك: قوانين حماية المستهلك، وحماية البيانات الشخصية، ومكافحة جرائم تقنية المعلومات] اهـ.

حكم استخدام الذكاء الاصطناعي لتتبع الخصوصيات والحياة الشخصية للموظفين
أمَّا إذا كان الاستخدام لتتبع خصوصيات الموظفين خارج نطاق العمل، أو الاطلاع على حياتهم الشخصية وما لا صلة له بأداء وظائفهم، فهو أمرٌ محرَّمٌ شرعًا؛ لاشتماله حينئذ على عدة محظورات، من أبرزها: انتهاك الخصوصيات والتعدي عليها، والتجسس على الناس، وتتبع عوراتهم.

ومن المقرَّر في الشريعة الإسلامية صونُ حرمة الحياة الخاصة للأفراد، واعتبارها من الحقوق الشرعية التي لا يجوز انتهاكها أو التعدي عليها بغير مسوِّغ شرعي.

ومن أبرز مظاهر ذلك: ما قرره الشرع الشريف من وجوب الاستئذان في دخول البيوت؛ حفظًا لخصوصية الإنسان في هيئته وشؤونه؛ ذلك لأن المرء في بيته غالبًا ما يكون في صورة غير التي يقابل بها الناس، فحفظ الإسلام له ذلك الحق، وأمر المسلمين ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم إلا بعد أن يستأذنوا، بل ويشعروا بالاستئناس بهم أيضًا، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ [النور: 27].

قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (19/ 149، ط. مؤسسة الرسالة): [إن الاستئناسَ الاستفعالُ من الأُنس، وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم، مخبرًا بذلك مَن فيه، وهل فيه أحد؟ وليؤذنهم أنه داخل عليهم، فليأنس إلى إذنهم له في ذلك، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم] اهـ.

كما قررت السُّنة النبوية قاعدة عامة في صيانة خصوصيات الناس وترك التدخل فيما لا يعنيه، فعن أَبِي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مِن حُسنِ إِسلَامِ المَرءِ تَركُهُ مَا لَا يَعنِيهِ» أخرجه الإمامان: الترمذي، وابن ماجه.

كما نهى الشرع الحنيف عن التجسُّس وتتبع عورات الناس، وتحسُّس أفعالهم وأقوالهم، وحذَّر أيَّما تحذيرٍ من الإقدام على أيٍّ من هذه الأفعال، حتى وإن كان الهدفُ إنكارَ المنكر؛ لما في ذلك من تعدٍّ على حُرمة الآخرين، وإفسادٍ للعلاقات الطيِّبة بينهم، وجلبٍ للكراهية والبغضاء، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، والمعنى: لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك، كما في "الجامع لأحكام القرآن" للإمام القُرطُبي (10/ 257، ط. دار الكتب المصرية).

وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَجَسَّسُواْ﴾ [الحجرات: 12]، أي: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، كما في "جامع البيان" للإمام الطبري (22/ 304، ط. مؤسسة الرسالة).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِيَّاكُم وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا» أخرجه الإمامان: البخاري واللفظ له، ومسلم. ولهذا عدَّ الإمامُ الحافظُ الذهبي في كتابه "الكبائر" (ص: 159، ط. دار الندوة الجديدة) "الكبيرة الثانية والأربعون: التسمع على الناس وما يسرون" من جملة الكبائر التي توعد الله تعالى مرتكبها بالعقاب.

بل قد شدَّد الشرع الشريف في التحذير من التجسس، والخوض في أعراض الناس والتنقيب عن عوراتهم، مبينًا أن من اعتاد ذلك عرَّض نفسه للفضيحة، إذ يفضحه الله تعالى ولو كان في جوف بيته، فعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تُؤذُوا عِبَادَ اللهِ، وَلَا تُعَيِّرُوهُم، وَلاَ تَطلُبُوا عَورَاتِهِم؛ فَإِنَّهُ مَن طَلَبَ عَورَةَ أَخِيهِ المُسلِمِ طَلَبَ اللهُ عَورَتَهُ حَتَّى يَفضَحَهُ فِي بَيتِهِ» أخرجه الإمامان: أحمد واللفظ له، والطبراني في "المعجم الأوسط".

كما حذَّر الشرع من التطلع إلى ما كل ما يخص المسلم من مكتوبٍ أو نحو ذلك دون إذن صاحبه، فجاء الوعيد الشديد لمن تعمد ذلك، سواء أكان بالنظر أو بالاستماع، حتى عُدَّ ذلك في كلام بعض أهل العلم نوعًا من السرقة.

فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تَستُرُوا الجُدُرَ، مَن نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيرِ إِذنِهِ فَإِنَّمَا يَنظُرُ فِي النَّارِ» أخرجه الأئمة: أبو داود، والطبراني، والحاكم وصححه.

قال الإمام ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (4/ 147-148، ط. المكتبة العلمية): [هذا تمثيلٌ: أي كما يَحذَر النارَ فليَحذَر هذا الصنيع. وقيل: معناه: كأنما ينظر إلى ما يُوجِبُ عليه النارَ. ويحتمل أنه أراد عقوبة البصر؛ لأن الجناية منه، كما يعاقب السمع إذا استمع إلى حديث قومٍ وهُم له كارهون، وهذا الحديث محمولٌ على الكتاب الذي فيه سرٌّ وأمانةٌ يَكرَهُ صاحبُهُ أن يُطَّلَعَ عليه. وقيل: هو عامٌّ في كل كتاب] اهـ.

وعنه أيضًا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ استَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَومٍ وَهُم لَهُ كَارِهُونَ، أَو يَفِرُّونَ مِنهُ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَومَ القِيَامَةِ» أخرجه الإمام البخاري.

قال الإمام ابن هبيرة الشيباني في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (3/ 196، ط. دار الوطن): [المستمع إلى حديثِ مَن لا يُحِبُّ استماعَهُ سارقٌ، إلا أنه لم يسرق بتناول دراهم فكانت تُقطَعُ، ولكنه تناول ذلك عن باب السمع فَصُبَّ فيه الآنُك، والآنُك: نوعٌ من الرصاص فيه صلابة] اهـ.

وقال العلامة الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 679، ط. دار الحديث): [والحديث دليل على تحريم استماع حديث من يكره سماع حديثه، ويُعرف بالقرائن أو بالتصريح] اهـ.

موقف التشريعات المصرية من انتهاك خصوصيات الآخرين والتجسس عليهم
إذا كانت الشريعةُ الإسلاميةُ قد شددت على صيانة خصوصيات الناس، وحرمة التجسس والتسمع عليهم، وانتهاك حياتهم الخاصة، والتلصص على أحوالهم المستورة، وتحسُّس أفعالهم، وعدَّت ذلك من كبائر الذنوب التي توعَّد الله تعالى مرتكبها بالعقاب، فإن المشرع المصري بدوره قد قرر هذه المعاني، وجعلها من المبادئ الدستورية والقانونية المستقرة.

فقد جاء في المادة رقم (57) من دستور جمهورية مصر العربية الصادر سنة 2014م، وفقًا لآخر تعديلاته سنة 2019م، ما نصُّه: [للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس، وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مُسبَّب، ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يبينها القانون] اهـ.

كما قرَّر في قانون العقوبات معاقبة كل من يعتدي على حرمة الحياة الخاصة للآخرين، سواء كان ذلك بالتنصت عليهم، أو التسجيل لمحادثاتهم، أو تصويرهم أو نقل صورهم الخاصة بأي وسيلة من الوسائل، كما في المادة (309 مكررًا)، والمادة (309 مكررًا/ أ) من قانون العقوبات المصري، الصادر برقم (58) لسنة 1937م، وفقًا لآخر تعديلاته الصادرة في 20 نوفمبر سنة 2021م.

الخلاصة
بناءً على ذلك: فاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل إن كان لمتابعة إنجاز المهام، وضبط أوقات الدوام، وحماية البيانات، ونحو ذلك من الأغراض المشروعة، فلا حرج في ذلك شرعًا إذا روعي فيه أن يكون مقصورًا على نطاق العمل، وفي حدود الضوابط التي تنظمها القوانين واللوائح المعمول بها.

وأمَّا استخدامها في غير ذلك من نحو تتبع الحياة الخاصة للموظفين وتتبع عوراتهم، أو مراقبة ما لا يتعلق بالعمل، أو جمع بياناتهم واستغلالها خارج ما تسمح به اللوائح والقوانين -فإن ذلك يكون مُحرَّمًا شرعًا، ومُجرَّمًا قانونًا.

طباعة شارك الذكاء الاصطناعي بين النعمة والتسخير الإلهي الذكاء الاصطناعي الحكم الشرعي لاستخدام الذكاء الاصطناعي

مقالات مشابهة

  • «إنفرا إكس» و«هيكفيجن» تتعاونان لتطوير حلول قائمة على الذكاء الاصطناعي
  • رئيس الأكاديمية العربية يستقبل رئيس جهاز مدينة العلمين الجديدة لبحث التعاون المشترك
  • شركة ميتا تلغي مئات الوظائف في قسم الذكاء الاصطناعي
  • رئيس «الغذاء والدواء»: المملكة توظّف الذكاء الاصطناعي لصناعة مستقبل رقابي أكثر كفاءة وجودة للأدوية
  • رئيس “الغذاء والدواء”: المملكة توظّف الذكاء الاصطناعي لصناعة مستقبل رقابي أكثر كفاءة وجودة
  • لبحث التعاون المشترك.. رئيس جهاز العلمين الجديدة يزور الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا
  • حكم استخدام الذكاء الاصطناعي في مراقبة الموظفين
  • مذيعة «من مواليد» الذكاء الاصطناعي
  • السعودية والولايات المتحدة تبحثان التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي