ترجمة ـ بدر بن خميس الظفري -

من بين أكثر المشاهد شهرة في تاريخ السينما، ذلك المشهد في فيلم «أوديسا الفضاء 2001»، الذي يجسّد تمامًا ما يُعرف «بـالرهبة التكنولوجية». نرى قردًا غاضبًا يضرب أحد أبناء فصيلته حتى الموت بعظمة التقطها من الأرض، وقد اكتشف للتو أن العظام يمكن أن تُستخدم كسلاح. يرميها في الهواء متهلّلًا بانتصاره.

تتبع الكاميرا العظمة وهي تدور صعودًا نحو السماء الزرقاء الصافية. فجأة، ينتقل المشهد إلى الفضاء الخارجي بعد ملايين السنين، لتتحوّل تلك العظمة إلى قمر صناعي أنيق يدور حول الأرض. وبعد لحظات، بينما تلتحم سفينة فضائية بمحطةٍ مدارية، ندرك كم بلغت البشرية من تطوّر مذهل.

إذا كنت قد شاهدت أي عملٍ من الخيال العلمي، فلا بد أنك اختبرت شعور «الرهبة التكنولوجية»، ذلك المزيج من الدهشة والخوف الذي يعتريك أمام ما تحمله التكنولوجيا من احتمالاتٍ مبهرة ومخيفة في آنٍ واحد. ربما اتسعت عيناك دهشةً أمام مشاهد المدن الإلكترونية المترامية الأطراف في فيلم «بليد رَنَر»، أو أمام السفن الفضائية الشاهقة التي تشبه أوراق النباتات التي ظهرت في فيلم «الوصول». وربما تأملت الشيفرات الخضراء المتساقطة في فيلم «ذا ماتريكس»، وتساءلت عن سرّ الوحي الكامن وراءها، أو انجذبت إلى «آفا»، الروبوت الأنثوي الفاتن في فيلم «إكس ماكينا»، متخيلًا معنى أن تكون شيئًا «أكثر من إنسان». في كل هذه المشاهد، تبدو التكنولوجيا ضخمة، وغريبة، ولا تعرف الكلل، لكنها أيضًا ساحرة، توسّع مداركنا وتغمرنا كموجةٍ جبارة لا سبيل إلى مقاومتها.

تلك المشاهد ليست سوى خيالات عن مستقبل لم يتحقق بعد. لكن «الرهبة التكنولوجية» حاضرة في عالمنا الواقعي أيضًا.

قبل عقود، عندما كنتُ في المدرسة الابتدائية، شاهدنا عبر التلفاز المدرسي الصغير انطلاق مكوك الفضاء من مركز كيب كانافيرال لإطلاق المركبات الفضائية في فلوريدا، مبهورين بقوة محركاته حتى من خلف الشاشة. واليوم، يحتشد الناس لمشاهدة صواريخ «سبيس إكس» العملاقة وهي تهبط مجددًا إلى الأرض لتُلتقط بأذرعٍ آلية ضخمة. تبدو الصواريخ الحديثة كأنها قادمة من المستقبل، لكنها في الواقع ثمرة تقنية عمرها قرن من الزمان، ولذلك حين نهتزّ إعجابًا أمامها، فإننا لا ننبهر بخيال، بل بواقعٍ متجسّد في حياتنا اليومية.

حين أسير إلى مكاتب مجلة ذا نيويوركر في برج التجارة العالمي، أرفع رأسي متأملًا واجهاته الزجاجية المتلألئة وهي تمتد نحو قمّته الشاهقة. هذا النوع من العمارة يذكّرنا بمدينةٍ من المستقبل، لكنه قائم أمامنا هنا والآن. الابتكارات التي جعلته ممكنًا، من الهياكل الفولاذية والجدران الستارية إلى أنظمة التكييف والمصاعد، تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر.

لقد عشنا، وما زلنا نعيش منذ زمن طويل، في عصرٍ بالغ التقنية. أمّا «السُّموّ» أو (تلك التجربة المهيبة التي يسمّيها الفلاسفة «السُّموّ الجمالي»)، فهو مفهوم قديم، يشير في جوهره إلى تجربةٍ جماليةٍ استثنائية، تنقل الإنسان إلى حالةٍ من الوجد والدهشة، وربما تُعد أرقى أشكال التذوّق الفني. كاتب النص الإغريقي القديم «عن السمو» الذي يعود إلى نحو ألفي عام، ربط هذا المفهوم بالعظمة الأدبية الخالدة، تلك التي يجسّدها مثلًا قولٌ مهيب كعبارة: «ليكن نورا»، (وهي عبارة عن نص توراتي معروف).

وفي القرن الثامن عشر، شهد المفهوم تحوّلًا مهمًا حين بدأ الفلاسفة يربطونه بالعالم الطبيعي. ففي كتابه البارز «بحث فلسفي في أصل أفكارنا عن السموّ والجمال»، ميّز الفيلسوف الإنجليزي إدموند بيرك بين نوعين من التجربة الجمالية، أحدهما جَميل سارٌّ لا يُثير الرهبة، كجمال زهرةٍ أو قصيدةٍ قصيرة، والآخر أكثر عمقًا ورهبةً، حين نقف مثلًا أمام شلّالٍ هادرٍ أو صحراءٍ لا نهاية لها. فالماء المنهمر والصحراء المترامية يسحقان شعورنا بالذات، ويبدوان غير مبالِيَين بوجودنا، وربما قادرين على فنائنا. ومع ذلك، نجد فيهما سموًّا مهيبًا، ما دمنا نستشعر قوتهما من مسافةٍ آمنة. كتب بيرك أن الإحساس بالسموّ «ليس متعةً خالصة، بل هو نوعٌ من الرعب البهيج، سكينةٌ تمتزج بشيءٍ من الخوف»، فهو يُوقظ فينا «الدهشة والتبجيل والاحترام.»

غير أن «السموّ التكنولوجي» بدا دومًا أقلّ شأنًا من نظيره الطبيعي. فالمؤرخ الأمريكي بيري ميلر، الذي كان أول من صاغ هذا المصطلح بوضوح في ستينيات القرن العشرين، رأى أنه ظاهرة أمريكية بامتياز؛ إذ إن الشغف القومي بالصناعة والرأسمالية، مقترنًا بالحماسة الأخلاقية، أنتج ما يشبه «ديانة مدنية» تقوم على الإعجاب بالأعمال الهندسية والتقنية المبهرة. غير أن مشكلة «تقديس التكنولوجيا» تكمن في أنها، بخلاف الرموز المقدسة القديمة، سرعان ما تشيخ وتفقد هيبتها. أشار ميلر إلى أن السفينة البخارية كانت في زمنها تثير في الناس مشاعر السموّ التكنولوجي؛ فقد كانت، كما كتب، «موضوعًا للنشوة بعظمتها وقوتها الخالصة، لا سيما حين تشقّ عتمة الليل مضيئةً أنوارها بين غابات الطبيعة ومستَنقعاتها». أما اليوم، فقد غدت مجرّد لعبةٍ في مدينة «عالم ديزني».

وفي كتابه «الآلة في الحديقة» الصادر عام 1964، أوضح الناقد ليو ماركس كيف أن «خطاب السموّ التكنولوجي» أسهم مع اتساع رقعة العمران الأمريكي في التغطية على الاعتراضات الموجهة إلى التصنيع المفرط. فقد منح أنصار التكنولوجيا المفرطون في التفاؤل بُعدًا روحانيًا زائفًا للآلة، باعتبار أن دخولها العميق إلى قلب الريف الأمريكي القديم كان يحمل نوعًا من «الارتقاء الروحي» للمجتمع الحديث.

وبعد ثلاثة عقود، تناول الباحث ديفيد إي. ناي الفكرة نفسها في كتابه «السموّ التكنولوجي الأمريكي»، حيث استعرض الطرق اليومية التي نمارس بها نوعًا من العبادة للتكنولوجيا، بداية من الجولات السياحية في المصانع، إلى الحفلات الموسيقية المبهرة بأضوائها، إلى المنصّات الزجاجية في قمم ناطحات السحاب. ورأى ناي أن ما يميّز هذا الشكل من «السموّ» هو طابعه الديمقراطي، إذ أصبح في متناول الجميع، فكلّنا، وإنْ كنّا بعيدين عن الإله، نستطيع أن نستقلّ طائرة نفاثة، أو نحمل هاتفًا ذكيًا، أو نتلقى لقاحًا يعتمد على تقنية «الحمض النووي الريبوزي المرسال»، (وهي تقنية حديثة تُستخدم لإنتاج اللقاحات عبر تعديل الحمض النووي الريبوزي لتحفيز مناعة الجسم)، أو نتحاور مع الذكاء الاصطناعي عبر «تشاب جي. بي. تي». هكذا، باتت أكثر التقنيات إدهاشًا متاحة لكل إنسان.

ومع ذلك، يبقى السؤال: هل كلمة «السموّ» هي الوصف الصحيح للتكنولوجيا؟ حين تُثير التقنيات الجديدة مشاعر الدهشة والخوف، هل تكون تلك الأحاسيس حقيقية فعلًا، أم أنها مجرد نتاجٍ لحماسةٍ مفرطة لدى محبّي الخيال العلمي أو للدعاية التجارية التي يصنعها رجال التقنية الكبار مثل مارك زوكربيرغ وإيلون ماسك وغيرهما ممن يريدون إقناعنا بأن الهواتف الذكية، أو الروبوتات المنزلية، أو واجهات الدماغ الإلكترونية، هي أشبه «بالعودة الثانية للمخلّص»؟

كل هذا ممكن، ومع ذلك يظلّ «السموّ التكنولوجي» ردّ فعلٍ أصيلًا تجاه العالم الذي نعيش فيه، عالمٍ تتخلّله التقنية في كل مستوى، وتعيد تشكيله بطرائق نعجز عن تخيّلها أو السيطرة عليها.

قد يبدو مغريًا القول إن التكنولوجيا ليست من الطبيعة، لأنها من صنع الإنسان، وإن هذا هو الفارق الجوهري بين السموّ الطبيعي والسموّ التكنولوجي. لكن هناك وجهة نظر أخرى ترى أن التكنولوجيا ليست بشرية بالكامل. ففي فيلم «أوبنهايمر»، يشعر الجميع بالرهبة والخوف أمام فكرة القنبلة الذرية. مصدر الخوف واضح، أما الرهبة فتكمن في سحر الفيزياء ذاته؛ إذ إن القنبلة وُلدت من إدراك الإنسان العميق لطبيعة الواقع، ومن الفهم الجديد لكيفية تكوّن المادة ذاتها. وهنا تتداخل الطبيعة بالإنسان، ويولّد هذا التداخل إحساسًا عظيمًا بالدهشة.

ويمكن المضي أبعد في هذا التفكير، بالقول إن للتكنولوجيا نوعًا من الاستقلال الذاتي، وكأنها تسهم في خلق ذاتها. ففي مقال مؤثّر بعنوان «ما الذي تريده التكنولوجيا؟»، يصف الكاتب كيفن كيلي مجموع النظم التقنية التي صنعها الإنسان بمصطلح «التِكنيوم»، ويرى أنها بنية تشبه الكائن الحي، لها «ميول» خاصة بها. ويقول كيلي: «نحن البشر نريد أشياء معينة من التكنيوم، لكنه في المقابل يمتلك انحيازًا فطريًا مستقلًا عن رغباتنا». فالتكنولوجيا، كما يوضح، تسير في اتجاهات محددة لأن الفيزياء والرياضيات وواقع الابتكار يضبط الإمكانات الممكنة. كما أن التكنولوجيا نفسها تميل إلى التطوّر بطرائق تُعزّز الكفاءة والقدرة على التطوّر الذاتي وسائر الصفات النافعة.

ولهذا السبب، يناقش كيلي بأنه لو سافرنا إلى حضارةٍ فضائية، فسنجد لديهم تقنيات مشابهة لما لدينا إلى حدٍّ ما. «فـأي حضارة تكتشف الطاقة النووية»، كما يقول، «ستصل حتمًا إلى مجموعة محدودة من الحلول الممكنة». وبهذا المعنى، فالتكنولوجيا ليست شيئًا نخترعه فحسب، بل هي أشبه بإقليمٍ نكتشفه ونغوص في أسراره. إنه عالمٌ يعجّ بالظواهر، مثل القنبلة الذرية، التي كان لا مفرّ من أن يُعاد اكتشافها في مرحلةٍ ما من تطوّر الوعي البشري.

أما السموّ الطبيعي فيحمل شيئًا من المفارقة: فنحن نريد أن نواجه الواقع، لكن بأمان. حين نقف خلف السياج الحديدي ونشاهد شلالات نياجارا، يمكننا أن نستمتع بجلالها كجمالٍ بصريٍّ محض، لكن لو كنا في مجرى الماء نفسه نتّجه نحو السقوط، فلن نشعر إلا بالرعب. وبالطريقة ذاتها، يحتاج السموّ التكنولوجي إلى أسوارٍ تحمي الإنسان من الانجراف الكامل وراء القوة التي تثيره. هذه الأسوار قد تكون مادية، مثل الحواجز التي تفصلنا عن سباقات السيارات، وقد تكون فكرية، حين نفهم التقنية ونتقن السيطرة عليها لجعلها أكثر أمانًا.

ومع ذلك، فإن التقنية التي نُخضِعها تمامًا تفقد شيئًا من رهبتها. القيادة، مثلًا، كانت في يومٍ من الأيام تجربة تكنولوجية مهيبة؛ فقد أحبّ الأمريكيون سيارات الاحتراق الداخلي إلى حدٍّ جعل فرقة ذا بيتش بويز تغنّي عنها، وكان الميكانيكي يُنظر إليه كشخصٍ فريدٍ يعرف أسرار هذه الآلة المتطورة التي لا تكفّ عن التغيّر. بل كان الموت في حادث سيارة يبدو في خمسينيات وستينيات القرن الماضي أمرًا «دراميًا» مجيدًا كما صوّرته أغنيات المراهقين المأساوية مثل «ليدر أوف ذا باك» (قائدة العصابة)، و «ديد مانز كيرف» (منعطف الرجل الميت)، و «تِل لورا آي لُوف هَار» (أخبري لورا أني أحبها)، وهي أغانٍ أمريكية شهيرة من خمسينيات وستينيات القرن العشرين تتناول حوادث موتٍ مأساوية لشباب في حوادث سيارات. أما اليوم، فقد أصبحت القيادة مملّة، وصار السموّ الجديد في السيارات ذاتية القيادة، حيث تمتزج الدهشة بالخوف حين يرفع السائق يديه عن المقود.

إن التقدّم التكنولوجي الحتمي يجعل من السموّ التكنولوجي إحساسًا يصعب الإمساك به. فالتقنيات تميل إلى أن تصغّر نفسها، وتتخفّى في أشكالٍ بسيطة مألوفة، كما يقول كيفن كيلي: «التقنيات تميل نحو الانتشار والرخص.»

أحيانًا، ألعب مع ابني «بـكرة طائرة» صغيرة، كرة تحتوي على مروحة داخلية تتوهج في الظلام ويمكن جعلها تطير بين الأيدي أو تدور. إنها لعبة مسلّية وليست مهيبة، ومع ذلك يختبئ السموّ التكنولوجي داخلها؛ فأنظمة الطيران التي تجعلها تحلّق هي نفسها المستخدمة في الطائرات المسيّرة (الدرونز) التي صنعت «المناطق الرمادية» القاتلة في الحرب الأوكرانية، تلك المناطق التي لا يستطيع إنسان دخولها دون المخاطرة بالموت.

وعندما تقف على الشاطئ ليلًا، تحدّق في البحر المظلم الغامض، يسهل أن تشعر بأنك أمام شيءٍ أكبر وأقدم منك. فـالسموّ الطبيعي واضحٌ وجليل، بينما يأتي السموّ التكنولوجي متخفّيًا؛ قد يداهمك فجأة عندما تلمح كاميرا مراقبة في زاوية غرفة فتتذكّر أننا مراقبون دائمًا، أو حين ترى قمرًا صناعيًا يمرّ ببطء في السماء فتدرك مدى اتساع نفوذ الإنسان، أو حين تتناول حبتك اليومية من دواء الستاتين (دواء يستخدم لتخفيض الكوليسترول) فتتأمل كم أصبحت أجسادنا خاضعة للتصميم العلمي والهندسة الحيوية.

بهذه الطريقة، يمكن أن يكون السموّ التكنولوجي شعورًا منتشرًا، متقطّعًا، يظهر في لحظاتٍ خاطفة. وإذا كنت من عشّاق التقنية، فربما تسعى وراءه عمدًا، بمطاردة كل ما هو جديد في حدود الابتكار.

يُفترض أن يكون التقنيّون عقلانيين، على الأقل في الظاهر، لكنهم في النهاية بشر، يعيشون في ثقافة ويملكون عواطف. وأنماط تلك العواطف لم تتغيّر كثيرًا منذ زمن الفيلسوف إدموند بيرك. فإذا أصغيت إلى عمالقة التكنولوجيا وهم يتحدثون عن إنجازاتهم، ستلاحظ بسهولة أنهم يعيدون إنتاج المشاعر نفسها التي وصفها بيرك في حديثه عن السموّ، مزيج من الدهشة والرعب أمام قوةٍ تتجاوز الإنسان وتُغريه في الوقت نفسه.

يتحدث باحثو الذكاء الاصطناعي فيما يُعرف «بـالمختبرات الحدّية» بنبرةٍ جادّةٍ ومتشائمة عن الأخطار التي قد تجلبها هذه التقنية، إذ يرون فيها اكتشافًا قدريًا، أشبه بإمكانية كامنة في الكون نفسه، وهم ليسوا سوى شهودٍ على تجلّيها. ويبدو أن شعورهم بعدم السيطرة الكاملة على هذه الأنظمة يزيد من إحساسهم بأنهم أمام شيءٍ مهيبٍ يفوق قدرتهم على الإحاطة به.

فالسموّ، بطبيعته، ينطوي على قدرٍ من اللافاعلية، أو التلقّي الصامت. أذكر أنني خرجت ذات يومٍ للتنزه وحدي في وادي الصخور الحمراء بولاية نيفادا، وكانت درجة الحرارة تتجاوز المائة فهرنهايت، والشمس ساطعة بشكلٍ يكاد يعمي البصر. وقفت على طريقٍ موحشٍ يطلّ على وادٍ سحيق، بلا أحدٍ حولي، وزجاجة مائي فارغة، فأدركت مدى تهوري. كان عليّ أن أعود فورًا، لكنني بقيت في مكاني أتأمل الوادي العتيق بلونه الأحمر الصدئ، أشعر بأنني ضعيف أمام هذا المشهد العظيم، ومع ذلك كنت ممتلئًا بالحياة. كان العالم كبيرًا، لا يهتمّ بي، ومع ذلك كنت هناك، أعي هذه الحقيقة بوضوح. شعرت بمزيجٍ غريبٍ من الدهشة والخوف، واستمتعت به.

لكن هل ينبغي أن يكون هذا أيضًا شعورنا تجاه التكنولوجيا؟

لقد انشغل الفيلسوف آرثر شوبنهاور بلحظة التحوّل التي يصبح فيها الخوف تجربة سامية؛ إذ رأى أننا حين نواجه تجربةً مرعبة، نكون بين خيارين، إمّا القلق على ذواتنا، أو تجاوزها نحو مستوى أسمى من الإدراك. فإذا اخترنا المسار الثاني، نتحوّل إلى «ذاتٍ خالصةٍ بلا إرادة»، إلى «كائنٍ سرمديٍّ للمعرفة»، إلى إنسانٍ يشعر بـالسموّ، لأنه تجاوز ذاته ووقف أمام الوجود كوعيٍ محض. قد يبدو هذا توصيفًا فلسفيًا مجرّدًا، لكنه في الحقيقة يعبر بدقة عن ذلك الإحساس بالرهبة الممزوجة بالعظمة حين نقف أمام قوةٍ أضخم منّا.

الأشخاص الذين يسعون وراء السموّ في الطبيعة، كمتسلقي الجبال والغواصين، هم في الواقع يطاردون هذا الشعور ذاته. إنهم يبحثون عن لحظةٍ يلتقي فيها الخوف بالدهشة، ويتحوّل فيها الضعف إلى وعيٍ عميقٍ بالوجود.

ومع ذلك، فإن السموّ ليس وهماً. ثمة أسباب وجيهة تجعلنا نحسّه في الطبيعة، وأسبابٌ أخرى تدفعنا إلى اختباره أيضًا في العالم التكنولوجي. غير أن علينا، في الحالتين، أن نكسر هذا السحر في النهاية. فهناك لحظةٌ لا بدّ أن نهرب فيها من الموجة القادمة، أن نعود إلى ذواتنا، فنستعيد وعينا بأننا كائناتٌ محددة، لنا إرادة ومسؤوليات وقيم.

في الطبيعة، العودة إلى الذات بسيطة، يمكن أن تتحقق بخطواتٍ قليلةٍ إلى الوراء. أما في عالم التكنولوجيا، فالأمر أعقد بكثير، لأننا نحن من يحدّد سرعة الاكتشاف والاختراع. إن المهندسين والمبتكرين قادرون إلى حدٍّ ما على استحضار السموّ التكنولوجي، كما يمكن للمستهلكين أن يُدمنوا هذا الإحساس المبهِر. غير أن طريق المسؤولية لا يمرّ عبر التمادي في الإعجاب، بل عبر التحرر من السحر، أي أن نكفّ عن رؤية التكنولوجيا كقوةٍ شبه مقدسة، ونبدأ في النظر إليها بعينٍ واعيةٍ ناقدةٍ تعرف حدودها وحدودنا معها.

جوشوا روثمان كاتب في مجلة ذا نيويوركر

الترجمة عن مجلة ذا نيويوركار.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ومع ذلک فی فیلم غیر أن

إقرأ أيضاً:

الأعلى للتعليم التكنولوجي: خريجو الجامعات التكنولوجية ركيزة أساسية في دعم الاقتصاد الوطني

 

استقبلت جامعة برج العرب التكنولوجية اليوم الخميس برئاسة الدكتور محمد مرسي الجوهري رئيس الجامعة، الدكتور أحمد الجيوشي أمين المجلس الأعلى للتعليم التكنولوجي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وذلك في زيارة تعكس الاهتمام المتواصل بتطوير منظومة التعليم التكنولوجي في مصر ودعم التواصل بين المجلس والجامعات التكنولوجية. لمستقبل أكثر تطورًا في مجال التعليم التكنولوجي،

بدأت فعاليات الزيارة بعزف السلام الوطني، أعرب  للدكتور محمد مرسي الجوهري، عن سعادته البالغة بزيارة الدكتور أحمد الجيوشي، مؤكدًا أن هذه الزيارة تمثل خطوة مهمة نحو توضيح الرؤى المستقبلية أمام طلاب الجامعة والجامعات التكنولوجية كافة، وتعزيز جسور التعاون بين مؤسسات التعليم التكنولوجي والوزارة.

ثمن الدكتور أحمد الجيوشي الجهود الكبيرة التي تبذلها جامعة برج العرب التكنولوجية في دعم وتطوير التعليم التكنولوجي في مصر، مشيدًا بمكانتها المتميزة بين الجامعات التكنولوجية، خاصة بعد الزيارة التاريخية التي حظيت بها من فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية، والتي منحتها مكانة رفيعة بين مؤسسات التعليم العالي.

وجّه الدكتور الجيوشي رسالة إلى طلاب الجامعة دعاهم فيها إلى حب جامعتهم والتفاني في دراستهم، واستثمار مهاراتهم وقدراتهم العلمية والعملية لمواكبة احتياجات سوق العمل، مؤكدًا أن خريجي الجامعات التكنولوجية سيكونون أحد أهم أعمدة دعم الاقتصاد الوطني.

عقب ذلك، عقد الدكتور أحمد الجيوشي جلسة حوارية مفتوحة مع طلاب كليتي تكنولوجيا الصناعة والطاقة والعلوم الصحية التطبيقية، أجاب خلالها على تساؤلاتهم حول عدد من القضايا المهمة، من بينها مسمى الخريج، ونقابة التكنولوجيا، وفرص العمل، والاعتمادات المحلية والدولية للجامعة، وربط الخريجين بسوق العمل، والتكليفات الحكومية الجديدة، وسط تفاعل كبير من الطلاب الذين أعربوا عن تقديرهم لحرصه على التواصل المباشر معهم. وفي ختام الزيارة، قدّم الدكتور محمد مرسي الجوهري درع الشكر والتقدير

 

 

مقالات مشابهة

  • مُسن السويس والصفعة التي أشعلت غضب المصريين
  • العزة التي أضاعها المطبعون
  • ما ينبغي أن يقال في ذكرى تحرير ليبيا
  • خطة مرور ميدانى لسيارة المركز التكنولوجي المتنقلة في قنا.. واستخدام الدفع الالكتروني
  • آداب شرعية ينبغي التحلي بها أثناء خطبة الجمعة.. الإفتاء توضح
  • الأعلى للتعليم التكنولوجي: خريجو الجامعات التكنولوجية ركيزة أساسية في دعم الاقتصاد الوطني
  • «فخر الدلتا».. أحمد رمزي يستعد للمشاركة في موسم دراما رمضان 2026
  • الري: تدريب المهندسين والفنيين على التقنيات الحديثة في إدارة المياه
  • مجموعة المركزية تزوّد جامعة الزيتونة الأردنية بحافلات كينغ لونغ الحديثة