الزي العسكري في طابور الانتخاب.. تصويت تحت الرقابة
تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT
28 أكتوبر، 2025
بغداد/المسلة: تهتزّ ساحة الاقتراع العراقي على وقع كتلة صامتة تتجاوز المليون وثلاثمئة ألف عسكري وأمني يستعدون للتصويت الخاص، بينما تتصاعد الشكوك من أن يتحول هذا الصندوق العسكري إلى ساحة نفوذ موازية، تنقل السلطة من ميدان السلاح إلى ميدان صناديق الاقتراع.
وتتسرب من أروقة المؤسسات الأمنية روايات متباينة عن ضغوط غير معلنة تمارس على بعض المنتسبين لحثهم على التصويت وفق رغبة قياداتهم، في ظل صمت رسمي يضاعف الشكوك حول حياد الأجهزة العسكرية.
وتتشابك في الخلفية أسئلة معقدة عن معنى الحياد في مؤسسة تخضع بطبيعتها للأوامر والانضباط، إذ يرى مراقبون أن حرية العسكري في التصويت تظل شكلية ما دامت إرادته محكومة بتسلسل قيادي يملك سلطة التوجيه والمحاسبة، الأمر الذي يجعل عملية الاقتراع أقرب إلى اختبار ولاء منها إلى ممارسة ديمقراطية.
ويتحول التصويت الخاص، بحسب متابعين، إلى مختبر سياسي يعكس موازين القوى داخل الدولة، حيث تشير المعطيات إلى أن أصوات العسكريين تميل غالباً نحو القوى التي تمسك بزمام السلطة أو تلك التي ترتبط بها تنظيمياً وإدارياً، ما يمنحها أفضلية في الدوائر المتقاربة ويجعل الصندوق العسكري عاملاً مرجحاً لا يُستهان به.
ويخشى خبراء انتخابيون أن استمرار التصويت بصيغته الحالية سيُكرّس تبعية المؤسسة العسكرية لقوى محددة، في وقت تُحذر فيه أصوات إصلاحية من أن خلط السياسة بالبندقية سيقود إلى تشويه العملية الديمقراطية وتحويلها إلى أداة لتثبيت النفوذ، داعية إلى إعادة النظر في ملف التصويت الخاص أو وضع ضوابط تحصّنه من التسييس.
وتتحدث مفوضية الانتخابات بثقة عن استعداداتها الفنية ليوم التصويت، مؤكدة تسجيل أكثر من مليون وثلاثمئة ألف ناخب عسكري موزعين على آلاف المحطات في عموم البلاد، غير أن الأسئلة تبقى أكبر من الإجابات، والرهان على نزاهة الاقتراع يظل معلقاً على مدى قدرة المؤسسة الأمنية على مقاومة الضغط السياسي.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post AuthorSee author's posts
المصدر: المسلة
إقرأ أيضاً:
عبور وأثر
محمود الرحبي
«الذي لا يتكلم،عادة لديه ما يقوله» - بريخت-
يقترب لْحسن، راعي الغنم، برفقة حفيده. كانا عائدين من سوق المرجة بدون قطيع. توقّفا قليلا في مقهانا للسلام علينا، أخي رشيد وأنا. يدأب هذا الراعي على ذلك في الربيع ليوثق العلاقة ويُمهّد لفترة ما بعد الحصاد، حين سينشر قطيعه في حقلنا.
عندما جاء أول مرة، ذات خريف، كان يقود قطيعا وافرا من الخرفان، بعضها رضيع. ترك قطيعه يرعى في ربوع حقلنا واثقا ودون استئذان. ثم اقترب معرّفا بنفسه:
- أخذت الإذن من والدكما قبل سفره، في آخر مرة، حين اشترى مني سبعة رؤوس للعيد الكبير (رفع سبعة أصابع ثم أشار إلى رقبته بعلامة الذبح).سأله أخي:
-هل هذا القطيع كله لك؟
تشكّلت في سحنته ملامح جادة وهو يرفع سبابته إلى الأعلى:
-كلها لله.
كان هذا الجواب الغامض محرجا لرشيد، فأطلق ضحكة متكلفة بدّد بها صرامة الموقف. ثم أخرج درهما أعطاه للحفيد، الذي نظر إلى جده قبل أن يمد يده. وحين هز له رأسه بالموافقة التقط القطعة ودسّها في جيبه. كانت تشدّني -طوال وقت وقوفه- عصاه الأثرية القصيرة، التي بدت، لصلابتها الواضحة وتغضّنات الزمن البادية عليها، مثل صخرة طويلة. لا شك أنه ورثها من رعاة غابرين مرّوا، قبله، على الحياة والمراعي وهم يهشون بصمت على أغنامهم.
لمحتُ، خلال حديث الراعي مع أخي، أربعة يدخلون المقهى: الصبي سائق الدراجة الهوائية، الذي يلصق وراءها لوحا خشبيا عريضا، يخرُج جانباه مثل جناحين صلبين ينتصبان في الهواء، ليتمكن من نقل أكبر كمية من الأشياء بثبات. وكالعادة، ذهب مباشرة إلى غايته دون أن يمر علينا. تتبّعته بعينيّ. وقف أمام الكونتوار وأعدّت له خالتي الياقوت، في صمت، فنجان قهوة سوداء نصف مليء. ثبّته، بثقة، كعادته أيضا، في ذلك اللوح الخشبي في مؤخرة دراجته. كانت رخية القهوة ترتجف وهو ينسحب. لم يركب الدرّاجة، كما فعل حين جاء، بل جرّها بيديه، محاذرا. قصَد الجزار، القريب من مقهانا. يمتلك الجزار، أيضا، مقهى اسمه «لورامو» يبعد عن مقهانا خمسمائة متر، ولكنه يفضّل قهوة خالتي الياقوت. في الحقيقة، ليس هذا السبب، وإنما ما تَرسّخ في ذهن معارفنا أنّ البن الذي نقدّم لزبائن المقهى يأتي من هولندا. يحدث ذلك بالفعل، حين يأتي أبي في زياراته المتقطعة، بأكياس من قهوة هولندية ويبرزها على الواجهة. لكنْ ليس طوال العام. يا لَلخدعة الماكرة. تنفد قهوة هولندا بعد ثلاثة أشهر أو أقل، فنبدّلها. ترسّخت في أذهان معظم الرواد فكرة أن قهوتنا هولندية، ولو بدّلناها، بقهوة «سمر»، محلية الصنع. ورغم أن الجزار كان أحد رواد مقهانا لم أره، يوما، يجلس في المقهى.
دخلتْ، أيضا، فلاحة، في يديها قفة فيها رؤوس من نبتتَي النعناع والشّيبة. مزروعات تأتينا بالمجان من حقلنا، المقابل. حين يقترب النعناع والشيبة من الانتهاء، تطلب مني خالتي الياقوت الذهاب إلى الحقل، قبالة المقهى، وإبلاغ الفلاحات المكبّات على العمل. يكنّ أحيانا منشغلات، فيطلبن مني الرجوع إلى المقهى. ستجلب إحداهنّ الحزَم بنفسها بعد حين. في الصيف الماضي وجدت، وأنا عائد من الحقل، حمامة تائهة. كانت وحيدة ومقصوصة الجناحين. حملتها معي وظلت في مقهانا، واحدا من كائناته الحية المألوفة. كنت خلال إقفال المقهى أغلق عليها في المخزن، مع حبوب وماء. وفي الصباح أطلقها في الباحة الخارجية، في كرتون أضع فيه كذلك حبوبا وماء. تظلّ هناك طيلة النهار، تدور وتهدل دون أن تفكر في الطيران؛ وكأنها أخرجت هذه العادة من حساباتها .
ودخل شاب لا نعرفه. جاء مستأذنا في أخذ بعض ثمار شجرة «المزاح»، الرابضة قبالة الباب. وافق أخي على ألا يزيد عن خمس حبّات. ثم رفع كفه ناحيتي وأفرد أصابعه الخمس فشرعت أراقبه. كان الشاب يقطف وهو ينظر إليّ. لم أميز عدد ما أخذ، لكنه لم ينسحب إلا بعد أن ملأ جيب بنطاله.
كما جاء شابّ يعرفه رشيد. رافقته والدته وأخته، وفي يده واق صدري للعبة التكواندو. قطع جزءا من كلام أخي مع الراعي. كان كلامهما في لحظاته الأخيرة؛ أنهاه الراعي مسرعا، لينسحب هو وحفيده، مفسحا المجال للقادمين الجدد. كان أخي على موعد مسبق معه ليبيعه له. تجادلا في السعر. وقال له رشيد إن الواقي قديم وإن الكوريين صاروا الآن يستعملون واقيات رقمية تُصدر صوتا بمجرد ما تلمسها الأصابع. استقرّ السعر، أخيرا، على ستين درهما. وبإشارة من أصابع يديه، طلب مني رشيد أن أُخرجها من صندوق الأموال.
***
أنا عبد الحق. أعتمد على عينيّ ولا تساعدني الأصوات في شيء، مثل غيري، لذلك يكون اعتمادي كله عليهما. عيناي صارتا لي أذنين. لا يمكنني، مثلا، معرفة إغلاق باب من صوته. العالم من حولي صامت. كأنّ الصمت ملَكة من ملكات الحواس، لها أصواتها أيضا. عالمي، الذي بلا أصوات، تُترجمه أصواتُ قلبي. أصواتٌ غير مسموعة تنتمي إلى عالم الصّمت ولا علاقة لها بعالم الأذن. أصوات الموجودات تأتي من داخلي وليس من الخارج، كما يحدث مع جميع من حولي. حين يصدمني شيء خارجي فإن صوته يُسمَع في قلبي وجيبا. خرير الماء المتدفق من الصنبور بجانبي، هديلُ حمامتي وهي تدور منتفخة في الباحة، موسيقى الطيور في الأعالي.. وكأنّ لقلبي ألْفَ وتر. لكلّ صوت وتر مختلف، يرنّ ويرتعش وفقا لمشاعري تجاه الطبيعة والأشياء.
نعيش في حيّ المرجة في فاس. أرى كل شيء ولا أسمع سوى أصوات قلبي. حيّ المرجة الأخضر، في أطراف عاصمة العلم. لكنّ العمران يزحف ببطء وإصرار، مثل وحش أسطوريّ جائع. ينام طويلا بعد كل وجبة، ثم ما يلبث أن يستيقظ. ترتفع عدة بنايات على أرض كنت أراها خضراء. ما يفتأ الإسمنت المبطّن بالحديد يخترقها. لم يقترب الوحش بعدُ من حدود رؤيتي. ما زال أمامي حقل شاسع يزداد إشراقا واخضرارا بعد أيام المطر وطيلة فصل الربيع. لكنْ كنتُ أرى هيئة الوحش البشعة قادمة نحو الأخضر المحيط بي لاكتساحه.
وحين يهدأ المكان وتخفّ وطأة العمليات الحسابية، التي عليّ أن أجريها بسرعة إن وقف قبالتي أربعة أو خمسة زبائن دفعة واحدة، أجدني أرقب زبونا من صفرو. لم أكن أراه إلا شاردا. لا يعود من سماواته إلا إن التحق به واحد من مرافقيه. بدا لي الحاج الصّفريوي، كما يناديه صاحباه، مثل طائر انتُزع من بيئته. يطلب النص نصّ خْفيفة ويتابع مطاردة ذكرياته، كما تخيّلت. أقرأ في صفحة وجهه قصصا لا تُقال. أسافر معه، عبر تقاسيمه الحزينة، في رحلاته إلى حيث الخلان. مدينة حْبّ الملوك، على السّفوح الجبلية للأطلس المتوسط، في الناحية الجنوبية الشرقية لفاس.
***
وصلت إلى البيت في المساء، وأخبرت فاطمة بأن أبي اشترى سبعة خراف للعيد ولم نر منها سوى واحد. فانطلقت تركض لتخبر أمي، ثم جاءتني تسبقها ضحكتها وهي تنقل لي بالإشارات من بعيد معاني ما سمعته: الستة الأخرى ليست لنا، اثنان لأختيّ وعائلتهما، والأربعة تبرع بها أبي لبعض الفقراء كي يعيدوا، على أن يذهبوا ليأخذوها بأنفسهم من الراعي.
محمود الرحبي قاص وروائي عُماني