محمود الرحبي
«الذي لا يتكلم،عادة لديه ما يقوله» - بريخت-
يقترب لْحسن، راعي الغنم، برفقة حفيده. كانا عائدين من سوق المرجة بدون قطيع. توقّفا قليلا في مقهانا للسلام علينا، أخي رشيد وأنا. يدأب هذا الراعي على ذلك في الربيع ليوثق العلاقة ويُمهّد لفترة ما بعد الحصاد، حين سينشر قطيعه في حقلنا.
عندما جاء أول مرة، ذات خريف، كان يقود قطيعا وافرا من الخرفان، بعضها رضيع.
- أخذت الإذن من والدكما قبل سفره، في آخر مرة، حين اشترى مني سبعة رؤوس للعيد الكبير (رفع سبعة أصابع ثم أشار إلى رقبته بعلامة الذبح).سأله أخي:
-هل هذا القطيع كله لك؟
تشكّلت في سحنته ملامح جادة وهو يرفع سبابته إلى الأعلى:
-كلها لله.
كان هذا الجواب الغامض محرجا لرشيد، فأطلق ضحكة متكلفة بدّد بها صرامة الموقف. ثم أخرج درهما أعطاه للحفيد، الذي نظر إلى جده قبل أن يمد يده. وحين هز له رأسه بالموافقة التقط القطعة ودسّها في جيبه. كانت تشدّني -طوال وقت وقوفه- عصاه الأثرية القصيرة، التي بدت، لصلابتها الواضحة وتغضّنات الزمن البادية عليها، مثل صخرة طويلة. لا شك أنه ورثها من رعاة غابرين مرّوا، قبله، على الحياة والمراعي وهم يهشون بصمت على أغنامهم.
لمحتُ، خلال حديث الراعي مع أخي، أربعة يدخلون المقهى: الصبي سائق الدراجة الهوائية، الذي يلصق وراءها لوحا خشبيا عريضا، يخرُج جانباه مثل جناحين صلبين ينتصبان في الهواء، ليتمكن من نقل أكبر كمية من الأشياء بثبات. وكالعادة، ذهب مباشرة إلى غايته دون أن يمر علينا. تتبّعته بعينيّ. وقف أمام الكونتوار وأعدّت له خالتي الياقوت، في صمت، فنجان قهوة سوداء نصف مليء. ثبّته، بثقة، كعادته أيضا، في ذلك اللوح الخشبي في مؤخرة دراجته. كانت رخية القهوة ترتجف وهو ينسحب. لم يركب الدرّاجة، كما فعل حين جاء، بل جرّها بيديه، محاذرا. قصَد الجزار، القريب من مقهانا. يمتلك الجزار، أيضا، مقهى اسمه «لورامو» يبعد عن مقهانا خمسمائة متر، ولكنه يفضّل قهوة خالتي الياقوت. في الحقيقة، ليس هذا السبب، وإنما ما تَرسّخ في ذهن معارفنا أنّ البن الذي نقدّم لزبائن المقهى يأتي من هولندا. يحدث ذلك بالفعل، حين يأتي أبي في زياراته المتقطعة، بأكياس من قهوة هولندية ويبرزها على الواجهة. لكنْ ليس طوال العام. يا لَلخدعة الماكرة. تنفد قهوة هولندا بعد ثلاثة أشهر أو أقل، فنبدّلها. ترسّخت في أذهان معظم الرواد فكرة أن قهوتنا هولندية، ولو بدّلناها، بقهوة «سمر»، محلية الصنع. ورغم أن الجزار كان أحد رواد مقهانا لم أره، يوما، يجلس في المقهى.
دخلتْ، أيضا، فلاحة، في يديها قفة فيها رؤوس من نبتتَي النعناع والشّيبة. مزروعات تأتينا بالمجان من حقلنا، المقابل. حين يقترب النعناع والشيبة من الانتهاء، تطلب مني خالتي الياقوت الذهاب إلى الحقل، قبالة المقهى، وإبلاغ الفلاحات المكبّات على العمل. يكنّ أحيانا منشغلات، فيطلبن مني الرجوع إلى المقهى. ستجلب إحداهنّ الحزَم بنفسها بعد حين. في الصيف الماضي وجدت، وأنا عائد من الحقل، حمامة تائهة. كانت وحيدة ومقصوصة الجناحين. حملتها معي وظلت في مقهانا، واحدا من كائناته الحية المألوفة. كنت خلال إقفال المقهى أغلق عليها في المخزن، مع حبوب وماء. وفي الصباح أطلقها في الباحة الخارجية، في كرتون أضع فيه كذلك حبوبا وماء. تظلّ هناك طيلة النهار، تدور وتهدل دون أن تفكر في الطيران؛ وكأنها أخرجت هذه العادة من حساباتها .
ودخل شاب لا نعرفه. جاء مستأذنا في أخذ بعض ثمار شجرة «المزاح»، الرابضة قبالة الباب. وافق أخي على ألا يزيد عن خمس حبّات. ثم رفع كفه ناحيتي وأفرد أصابعه الخمس فشرعت أراقبه. كان الشاب يقطف وهو ينظر إليّ. لم أميز عدد ما أخذ، لكنه لم ينسحب إلا بعد أن ملأ جيب بنطاله.
كما جاء شابّ يعرفه رشيد. رافقته والدته وأخته، وفي يده واق صدري للعبة التكواندو. قطع جزءا من كلام أخي مع الراعي. كان كلامهما في لحظاته الأخيرة؛ أنهاه الراعي مسرعا، لينسحب هو وحفيده، مفسحا المجال للقادمين الجدد. كان أخي على موعد مسبق معه ليبيعه له. تجادلا في السعر. وقال له رشيد إن الواقي قديم وإن الكوريين صاروا الآن يستعملون واقيات رقمية تُصدر صوتا بمجرد ما تلمسها الأصابع. استقرّ السعر، أخيرا، على ستين درهما. وبإشارة من أصابع يديه، طلب مني رشيد أن أُخرجها من صندوق الأموال.
***
أنا عبد الحق. أعتمد على عينيّ ولا تساعدني الأصوات في شيء، مثل غيري، لذلك يكون اعتمادي كله عليهما. عيناي صارتا لي أذنين. لا يمكنني، مثلا، معرفة إغلاق باب من صوته. العالم من حولي صامت. كأنّ الصمت ملَكة من ملكات الحواس، لها أصواتها أيضا. عالمي، الذي بلا أصوات، تُترجمه أصواتُ قلبي. أصواتٌ غير مسموعة تنتمي إلى عالم الصّمت ولا علاقة لها بعالم الأذن. أصوات الموجودات تأتي من داخلي وليس من الخارج، كما يحدث مع جميع من حولي. حين يصدمني شيء خارجي فإن صوته يُسمَع في قلبي وجيبا. خرير الماء المتدفق من الصنبور بجانبي، هديلُ حمامتي وهي تدور منتفخة في الباحة، موسيقى الطيور في الأعالي.. وكأنّ لقلبي ألْفَ وتر. لكلّ صوت وتر مختلف، يرنّ ويرتعش وفقا لمشاعري تجاه الطبيعة والأشياء.
نعيش في حيّ المرجة في فاس. أرى كل شيء ولا أسمع سوى أصوات قلبي. حيّ المرجة الأخضر، في أطراف عاصمة العلم. لكنّ العمران يزحف ببطء وإصرار، مثل وحش أسطوريّ جائع. ينام طويلا بعد كل وجبة، ثم ما يلبث أن يستيقظ. ترتفع عدة بنايات على أرض كنت أراها خضراء. ما يفتأ الإسمنت المبطّن بالحديد يخترقها. لم يقترب الوحش بعدُ من حدود رؤيتي. ما زال أمامي حقل شاسع يزداد إشراقا واخضرارا بعد أيام المطر وطيلة فصل الربيع. لكنْ كنتُ أرى هيئة الوحش البشعة قادمة نحو الأخضر المحيط بي لاكتساحه.
وحين يهدأ المكان وتخفّ وطأة العمليات الحسابية، التي عليّ أن أجريها بسرعة إن وقف قبالتي أربعة أو خمسة زبائن دفعة واحدة، أجدني أرقب زبونا من صفرو. لم أكن أراه إلا شاردا. لا يعود من سماواته إلا إن التحق به واحد من مرافقيه. بدا لي الحاج الصّفريوي، كما يناديه صاحباه، مثل طائر انتُزع من بيئته. يطلب النص نصّ خْفيفة ويتابع مطاردة ذكرياته، كما تخيّلت. أقرأ في صفحة وجهه قصصا لا تُقال. أسافر معه، عبر تقاسيمه الحزينة، في رحلاته إلى حيث الخلان. مدينة حْبّ الملوك، على السّفوح الجبلية للأطلس المتوسط، في الناحية الجنوبية الشرقية لفاس.
***
وصلت إلى البيت في المساء، وأخبرت فاطمة بأن أبي اشترى سبعة خراف للعيد ولم نر منها سوى واحد. فانطلقت تركض لتخبر أمي، ثم جاءتني تسبقها ضحكتها وهي تنقل لي بالإشارات من بعيد معاني ما سمعته: الستة الأخرى ليست لنا، اثنان لأختيّ وعائلتهما، والأربعة تبرع بها أبي لبعض الفقراء كي يعيدوا، على أن يذهبوا ليأخذوها بأنفسهم من الراعي.
محمود الرحبي قاص وروائي عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
رئيس جوقة الشرف الفرنسية زار البطريرك الراعي وقائد الجيش
واصل رئيس جمعية أعضاء جوقة الشرف الفرنسية Légion d’honneur الأميرال الان كولديفي لقاءاته اليوم في اطار الزيارة الرسمية التي يقوم بها إلى لبنان مع الوفد المرافق الذي يضم في عداده المسؤولة عن فروع الجمعية في العالم السفيرة كورين بروزيه. وزار كولديفي بعد ظهر اليوم البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في الصرح البطريركي في بكركي، يرافقه رئيس الجمعية في لبنان السفير خليل كرم وعدد من أعضاء الهيئة الإدارية للجمعية، وكانت مناسبة تم خلالها التطرق إلى العلاقات اللبنانية - الفرنسية، وعمل جمعية اعضاء جوقة الشرف في سبيل تعزيز هذه العلاقات.وكان الأميرال كولديفي زار قبل الظهر قائد الجيش العماد رودولف هيكل يرافقه السفير كرم وعدد من اعضاء الهيئة الادارية . وكانت الزيارة مناسبة للإشادة بالدور الذي يقوم به الجيش في حفظ الامن والاستقرار في لبنان حيث حيا الأميرال شهداء الجيش مقدراً تضحياتهم في سبيل وطنهم.
وكان الأميرال كولديفي وضع إكليلاً من الزهر على النصب التذكاري لشهداء القوات الفرنسية في حرم قصر الصنوبر تكريما لذكراهم واكباراً لتضحياتهم، وأديت في المناسبة المراسم التكريمية. مواضيع ذات صلة هيكل التقى الجميل ونمّور ووفد جمعية جوقة الشرف الفرنسية Lebanon 24 هيكل التقى الجميل ونمّور ووفد جمعية جوقة الشرف الفرنسية 29/10/2025 18:30:40 29/10/2025 18:30:40 Lebanon 24 Lebanon 24 رئيس جمعية أعضاء جوقة الشرف وصل إلى بيروت في زيارة رسميّة تستمر 3 أيّام Lebanon 24 رئيس جمعية أعضاء جوقة الشرف وصل إلى بيروت في زيارة رسميّة تستمر 3 أيّام 29/10/2025 18:30:40 29/10/2025 18:30:40 Lebanon 24 Lebanon 24 البطريرك الراعي يستقبل وفدًا من زوق مصبح ويشيد بروح الوحدة والتعاون Lebanon 24 البطريرك الراعي يستقبل وفدًا من زوق مصبح ويشيد بروح الوحدة والتعاون 29/10/2025 18:30:40 29/10/2025 18:30:40 Lebanon 24 Lebanon 24 البطريرك الراعي: لبنان اليوم بأمسّ الحاجة إلى صلاة الوردية Lebanon 24 البطريرك الراعي: لبنان اليوم بأمسّ الحاجة إلى صلاة الوردية 29/10/2025 18:30:40 29/10/2025 18:30:40 Lebanon 24 Lebanon 24 مار بشارة بطرس الراعي بشارة بطرس الراعي مار بشارة بطرس بطرس الراعي قائد الجيش بشارة بطرس اللبنانية الفرنسية قد يعجبك أيضاً تعليقاً من بدر حول ما يجري في بلدية بيروت.. ماذا قال؟ Lebanon 24 تعليقاً من بدر حول ما يجري في بلدية بيروت.. ماذا قال؟ 18:14 | 2025-10-29 29/10/2025 06:14:12 Lebanon 24 Lebanon 24 المشهد اللبناني في اتجاهين: معركة عسكرية ام مواجهة انتخابية؟ Lebanon 24 المشهد اللبناني في اتجاهين: معركة عسكرية ام مواجهة انتخابية؟ 18:01 | 2025-10-29 29/10/2025 06:01:00 Lebanon 24 Lebanon 24 ماذا قررت إسرائيل بشأن لبنان؟ معلومات تنقلها مصادر Lebanon 24 ماذا قررت إسرائيل بشأن لبنان؟ معلومات تنقلها مصادر 18:00 | 2025-10-29 29/10/2025 06:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 التفتيش المركزي ووزارة الطاقة.. إطلاق مشروع إصلاح الإدارة العامة Lebanon 24 التفتيش المركزي ووزارة الطاقة.. إطلاق مشروع إصلاح الإدارة العامة 17:58 | 2025-10-29 29/10/2025 05:58:18 Lebanon 24 Lebanon 24 إطلاق نار في البداوي.. والقبض على الفاعل Lebanon 24 إطلاق نار في البداوي.. والقبض على الفاعل 17:54 | 2025-10-29 29/10/2025 05:54:22 Lebanon 24 Lebanon 24 الأكثر قراءة حزنٌ كبيرٌ... وفاة فنان لبنانيّ شاب بشكلٍ مفاجىء (صورة) Lebanon 24 حزنٌ كبيرٌ... وفاة فنان لبنانيّ شاب بشكلٍ مفاجىء (صورة) 17:00 | 2025-10-29 29/10/2025 05:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 "ثغرة" داخل "حزب الله".. ماذا كشفت آخر الاغتيالات؟ Lebanon 24 "ثغرة" داخل "حزب الله".. ماذا كشفت آخر الاغتيالات؟ 18:30 | 2025-10-28 28/10/2025 06:30:00 Lebanon 24 Lebanon 24 إطلاق نار على طريق عام صوفر وسقوط قتلى! Lebanon 24 إطلاق نار على طريق عام صوفر وسقوط قتلى! 21:48 | 2025-10-28 28/10/2025 09:48:26 Lebanon 24 Lebanon 24 فيديو متداول لحادثة في مدرسة بطرابلس… هذه حقيقته Lebanon 24 فيديو متداول لحادثة في مدرسة بطرابلس… هذه حقيقته 20:32 | 2025-10-28 28/10/2025 08:32:05 Lebanon 24 Lebanon 24 على طريقة الأفلام.. هكذا حاولت أميركا اختطاف رئيس فنزويلا من الجو! Lebanon 24 على طريقة الأفلام.. هكذا حاولت أميركا اختطاف رئيس فنزويلا من الجو! 21:00 | 2025-10-28 28/10/2025 09:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 أخبارنا عبر بريدك الالكتروني بريد إلكتروني غير صالح إشترك أيضاً في لبنان 18:14 | 2025-10-29 تعليقاً من بدر حول ما يجري في بلدية بيروت.. ماذا قال؟ 18:01 | 2025-10-29 المشهد اللبناني في اتجاهين: معركة عسكرية ام مواجهة انتخابية؟ 18:00 | 2025-10-29 ماذا قررت إسرائيل بشأن لبنان؟ معلومات تنقلها مصادر 17:58 | 2025-10-29 التفتيش المركزي ووزارة الطاقة.. إطلاق مشروع إصلاح الإدارة العامة 17:54 | 2025-10-29 إطلاق نار في البداوي.. والقبض على الفاعل 17:50 | 2025-10-29 الوطني الحر: تحذير من تفلت السلاح فيديو هتف "عاش لبنان" تحت المطر.. لحظات تاريخية لـ"البابا" بولس السادس في لبنان Lebanon 24 هتف "عاش لبنان" تحت المطر.. لحظات تاريخية لـ"البابا" بولس السادس في لبنان 18:00 | 2025-10-28 29/10/2025 18:30:40 Lebanon 24 Lebanon 24 بالفيديو: إنجاز لبناني غير مسبوق.. طبيب ينقذ طفلا من الموت Lebanon 24 بالفيديو: إنجاز لبناني غير مسبوق.. طبيب ينقذ طفلا من الموت 01:08 | 2025-10-27 29/10/2025 18:30:40 Lebanon 24 Lebanon 24 ميقاتي: لبنان أمام فرصة تاريخية ولمفاوضات فوريّة تنطلق من مضامين اتفاق الهدنة Lebanon 24 ميقاتي: لبنان أمام فرصة تاريخية ولمفاوضات فوريّة تنطلق من مضامين اتفاق الهدنة 12:08 | 2025-10-25 29/10/2025 18:30:40 Lebanon 24 Lebanon 24 Download our application مباشر الأبرز لبنان فيديو خاص إقتصاد عربي-دولي متفرقات أخبار عاجلة Download our application Follow Us Download our application بريد إلكتروني غير صالح Softimpact Privacy policy من نحن لإعلاناتكم للاتصال بالموقع Privacy policy جميع الحقوق محفوظة © Lebanon24