لجريدة عمان:
2025-11-04@23:58:17 GMT

نحن الفنزويليين قادمون من المستقبل

تاريخ النشر: 4th, November 2025 GMT

سيكون قد مضى ثلاثون عاما بحلول عام 2029؛ لن يبقى سوى نصف عقد، ومع ذلك ما تزال تفتقر، حتى الآن، إلى إجابة جدّية، موضوعية، هادئة، منزّهة عن أحكام المسبقات وبعيدة عن فيض أحقاد الخنادق التي اشتعلت عند نهاية الجمهورية المدنية الحزبية، إجابة تفسر تفسيرا مقنعا كيف أمكن لإحدى أكثر ديمقراطيات نصف الكرة الغربي رسوخا، أعني الفنزويلية، أن تنتهي لا إلى دكتاتورية أو «دكتابلاندا»، بل إلى تدمير كامل للجمهورية وتذرية أمّتها التي كانت في طور التشكّل.

مصنَّفان قيد النشر، «ذكريات فنزويلا» (الجزآن الأوّل والثاني)، سيجمعان بعضا قليلا من مئات المقالات والدراسات التي كتبها منذ عام 1999 ألان ر. بروير كارِياس وكاتب هذه السطور، وقد نُشر جزءٌ كبير منها في كتب مختلفة لنا، بقصد تقديم عناصر أولى لتحليل متأن لهذه المسألة المحورية.

والتاريخ لا تنفعه المنشورات الدعائية؛ فهي لا تُرضي إلا أهواء اللحظة، وبالأخصّ أهواء أولئك الذين اختاروا ديمقراطيا سلوك طريق الصحراء الذي سلكه الجميع، مترقّبين أرضا موعودة لم تَحِن بعد، مع الحفاظ، نعم، على الإيمان والإرادة لأجلها، لكننا مع ذلك نرضخ لإغواء سهل هو البحث عن مذنبين، من الأمس واليوم، عند كلّ انحراف عن الطريق. وهذا، بالضبط، ما يؤخّر نضجنا كأمّة ما تزال في طور صياغة ذاتها التي لا تكتمل، حتى إنه بعدما بلغنا خيرَ الحداثة المادية والتعليمية في النصف الثاني من القرن العشرين، أمكن لرجل آخر على صهوة جواد أن يفتنها؛ فأعادها هو وورثته إلى أحلك لحظات القرن التاسع عشر.

وقد قالها خورخي أولافارّيا، الذي رافق هوغو تشافيز فريّاس في أيامه الأولى، بجرأة وقف بها أمام الجمعية الوطنية الوليدة لجمهورية تحوّلت إلى «بوليفارية» بإنشائه لها، اقرأ: رئاسية النزعة حتى العظم، تنزع إلى الديمومة، عسكرية الهوى، ترى نفسها حامية لشعب غير مهيّأ للحرية كما كان يبشّر بذلك المحرِّر، فندّد، بحضوره، بالانحراف عن الطريق الذي كان يليق بنا نحن الفنزويليين ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين.

أعيد وأؤكّد: التبسيطات لا طائل منها. فهي لا تصلح حتى للتنفيس العابث أو الخبيث في جلسات الدردشة الصمّاء على الشبكات؛ كتلك التي حمّل فيها الأحزابُ الرئيسَ كارلوس أندريس بيريث تبعة زواجه، بلا مواربة، من «توافق واشنطن» بغية استعجال ولادة اقتصادية واجتماعية بـ«ملقط» قَسري؛ أو كتلك التي كانت إفصاحه الحقيقي كما ترد في «مذكّراته المحظورة»: «عندما بدأت التحقيقات مع المتورّطين في انقلاب 4 فبراير 1992، كان لكلّ واحد من قادة الأسلحة المختلفة معيار مختلف بشأن العقوبات»، على حدّ قوله. وهو ما يُظهر أحجية مؤسسة، هي الجيش، حسبت نفسها مالكة الجمهورية بعد حرب الاستقلال وتجاوز حرب الفيدراليين حتى عام 1959، ولم تُحسن تركيب قطعها.

ولذلك، وبحسب «كابي» CAP (كارلوس أندريس بيريث) ـ «بدل فتح محاكمات للضباط المتورّطين في المحاولة الانقلابية» ـ وكانوا يقاربون 650 بين ضابط وضابط صف ـ «اخترنا الغربلة والتنقية والذهاب إلى المسؤولين الفعليين، من غير أن يعني ذلك ترك الأمور بلا إيضاح». عدم فتح المحاكمات، أُفصح اليوم عن ذلك كما أسرّ لي الرئيس بيريث شخصيا، لم يكن ليكشف الأسباب العميقة، وإنْ لم يمنعه ذلك، وهو المتضرّر مباشرة، من أن يُبدي سخطه: «أُسلار بيثري يثير لديّ رغبة في إحالته إلى محكمة عسكرية!» لكنه لم يفعل، إذ إنّ مثل تلك الخطوة، برغم ما قاله لاحقا لإشعال الجدل السياسي، لا تقدّم، كرجل دولة، جوابا عن الجوهر.

والسؤال الذي ينبغي لنا نحن الفنزويليين أن نجيب عنه، معا: كيف ولماذا يمكن لأمّة وجمهورية حديثتين، متباهيتين بحداثتهما وديمقراطيتهما، أن تتلاشيا؟ كأننا شربناهما في لحظة هذيان، كمن يلتهم زجاجة خمر لا سبيل إلى تعويضها.

يُجلّي ما هو ظرفي تاريخيا ما أعلنه الرئيس رافاييل كالديرا في رسالته الأولى إلى الكونغرس عام 1995، انسجاما مع سياسة العفو التي قررها «كابي» (كارلوس أندريس بيريث) ورافقها «البلد السياسي» كله، الأحزاب والمرشحون الرئاسيون، وهي سياسة جرى تناسيها بسوء نية: «وبالدعم الكامل من القيادة العسكرية العليا التي عينتُها، عزمت على معالجة الصدمات التي تسببت بها محاولتا التمرد في 4 فبراير و27 نوفمبر 1992»، يؤكد كالديرا. ثم يميّز في حديثه بين المعالجات المختلفة التي انتهجها، وكانت تخدم احتواء أزمة احتضارية أو نهائية في صميم الجمهورية وتقييمها، تفاديا لانقلاب آخر محتمل كما نبّه رامون خ. فيلاسكيز: «الكثيرون عادوا إلى النشاط - العسكري- عبر مرحلة انتقالية كانت ضرورية لإعادة نسج روابط الرفقة التي تكسّرت بسبب ما وقع». أما الآخرون، أي القادة، «فلم يُرَ من المناسب أن يفعلوا ذلك، فأُحيلوا إلى التقاعد، لأنهم انخرطوا في نشاطٍ سياسي معلَن لا ينسجم مع لاسياسية القوات المسلحة»، يضيف الحاكم.

إن كان قد حدث تفرّق ثم توحّد عسكري خلال تلك الفسحة الزمنية فذلك مما يستحق التحليل، لكنه لا يقدّم الجواب الجوهري المطلوب، ذلك الجواب الذي سيكون محكّ نضجنا كأمّة. إن الضغينة القابيلية التي تُبرّئ بيريث أو تدينه، أو تدين كالديرا هكذا دون مزيد، ليست سوى ضغينة، وقد غذّاها، حقا، أولئك الذين قدّموا الدعم الإعلامي والمالي للمرشح تشافيز عام 1998، يرافقهم السفارة الأمريكية.

كانت ظروف خوسيه ماريا فارجاس مختلفة؛ فقد كان مهموما بمسألة الإفلات من العقاب في جمهورية قيد التشكل ومن دون أمّة، بينما اختار الجنرال خوسيه أنتونيو بايث، الذي أنقذه بعد «ثورة الإصلاحات» التي أسقطته ثم أعادته إلى ممارسة السلطة، أن يعفو عن المتمرّدين. كانوا يسمّون أنفسهم «بوليفاريين»، وهم من أجزاء «الجيش المحرِّر». وقد وُضعوا خارج تنظيم «الجمهورية الفنزويلية الأولى». كانت تلك المرحلة الأولى من مسارنا الجمهوري الذي استند إلى توازنات حرجة صاغها بايث نفسه، لكنها آلت في النهاية إلى «الحرب الفيدرالية» التي هلك فيها 30% من سكاننا.

لا جمهوريةَ ولا ديمقراطيةَ من دون أمّة

وما ينبغي التشديد عليه، هنا حقا، هو أن الدولة الفنزويلية ظهرت أولا عام 1830، من غير أن تسبقها الأمة كمحتوى لها. لقد هاجم سيمون بوليفار الفكرة وأنكرها منذ قرطاجنة عام 1812. غير أنه، في حروبه من أجل الاستقلال، لا من أجل الحرية، اختفى 30% آخر من السكان. وكان رهان تلك الدولة وحكوماتنا المتعاقبة من أجل البقاء هو الهجرة، وكانت في بداياتها هجرة الكناريين. والمعلومة ذات الدلالة أن «كيان» الفنزويلي، وقد غلب عليه «اللا-كيان» بعدُ أو عبادة الحاضر، تمكّن من أن يتماسك شيئا فشيئا بوصفه أمّة، في جهد تمازجيّ مع المهاجرين الأوروبيين خلال النصف الأول من القرن العشرين. لكنه وُجد، نعم، في أصله، انطلاقا من الثكنات. وهذه هي السمة التي طبعتنا بإرث إشكالي حين نفصل في قضايا السلم واستقرار الجمهورية حتى يومنا هذا.

خلال النصف الثاني من ذلك القرن بدأت الأمة تكتسب قواما متعدّد الطبقات، من دون أن تكتمل، متطوّرة نحو حداثتها الكاملة، لكن مُصفّاة هذه المرة عبر أوعية الأحزاب في ما عُرف بـ«الجمهورية المدنية» التي انتهت عام 1998. كانت تُبدي علامات الإرهاق، أكرّر، وهنا يلوح أول عنصر للحكم ينبغي أن نضعه في المتناول: منذ عام 1989، في تزامن عَرَضي مع نهاية الشيوعية وأفول الغرب. إن أنظمة الأحزاب تختفي وتذبل وتغدو سائلة في بلدان كثيرة، لا في فنزويلا فحسب. تشافيز ليس صانع ذلك.

ولا يسعنا إغفال شأننا نحن، حتى ونحن نحافظ على التعايش المتبادل مع ذلك النظام البيئي العالمي الناشئ بعد نهاية الحرب الباردة. وأشير- بوصفه المحطة الأولى- إلى التصويت بالأغلبية الذي منحه الفنزويليون عام 1998 من غير أن ينتبهوا فعليا إلى الطبيعة العسكرية لِمَن اختاروه. يومها، حتى ونحن «مُحدَّثون»، بقينا جالسين على مقاعد مسرح الجمهورية والديمقراطية، نرتقب ـ as في القرن التاسع عشر ـ أن يصعد إلى الخشبة ممثلون يوفّقون أو يخطئون، فيما نكتفي نحن إمّا بقذفهم بالطماطم وإمّا بالتصفيق لهم من دون تبصّر. هكذا اختار خوان فيسنتي غوميث ـ نيابة عنّا ـ الممثلَ المناسب للحظة، إليسار لوبيث كونتريراس، تحت ديكتاتوريته. وفي الديمقراطية، واصلنا الاعتقاد بأنّ «الزعيم» هو المذنب لأنه أساء اختيار «الممثل الجديد» أو وضعه تحت أنظارنا.

أهذه هي الأمة التي لا نزال لم نغدُها بعد ونطمح إليها، لأنّ «اللا-كينونة» تبدو لنا أيسر وأريح؟ أيمكن للديمقراطية أن تبقى هكذا خبرة عيش أو حال روح في كلّ مواطن لا يعرف إلا الارتزاق، معلقا على «الأب الطيّب القوي»، وعلى تاجر الأوهام، والرجل على صهوة جواد يوقظ حواسّنا ويستلب عقلنا ويطعمنا الأساطير؟

كانت الجمهورية، منذ 1989، أحجية مُفككة، الجمهورية المدنية الديمقراطية، وبعد 1999، إثر «الخطيئة الأصلية» لدستور أملاه تشافيز نفسه، أنهت مسيرتها إلى المقبرة. وأولئك الذين يؤدّون اليوم، في الحاضر، دورَ «خدّام امتيازات» تلك الجمهورية، لا يعدون أن يكونوا أشباحا أسيرة الماضي وتقليدات رديئة للنرجسية.

وماذا عن الأمة؟ ينبغي أن نعيد سؤالنا. لعلّها، والحمد لله، قد استفاقت بعد الانتخابات التمهيدية لعام 2023 والرئاسية لعام 2024. لعلّها أدركت ما لا يدركه الناجون من «الجمهورية الافتراضية» التي هي فنزويلا: لن تكون الديمقراطية بعد اليوم «هندسةَ سلطة» ووسيلة لاقتناصها، بل إرادة فاعلة للناس يقرّرون بها لأول مرة مصيرهم ويتحمّلون المسؤولية المباشرة ـ فعلا أو امتناعا ـ على أن يصحبهم مَن يفهم على وجه تامّ ذلك التفويض، مثل ماريا كورينا ماتشادو وإدموندو غونثالث أورّوتيا. هذان ليسا «تجسيد الأمة»، بل مترجما إرادتها الشرعيان، محامينا. وهما من اخترناهما، تحت مسؤوليتنا.

أما الشتات، الذي يعود فينتزع من خاصرة الأمة عند الساعة التاسعة من نضجها المزعوم، حين تترك البيوت وتهبط إلى الشارع، فيناهز خسارة أخرى بحدود 30% في تلاشيها نحو الكوكب، وهو يُظهر تميّزه حيث يُستقبل، ويبقى مشدودا إلى القريب أو الشقيق الذي يمكث، ضحية مثله، داخل «البيت المشترك». سيكون هذا الشتات هجرتنا المقبلة.

على أنّ ظهور وصمة أو انحراف أو زائدة طارئة، هو بالذات ما ينبغي أن نحلّله، دون تبسيطات. وعلى الأسباب التي تمنحنا «سببًا» لذلك «لماذا»، لتلك القطيعة التي وقعت، لا نكفّ، من زاويتنا، عن التنبيه إلى أنّه وإن كانت «الجيل الديمقراطي» (1958- 1998) قد عرف موهبة الحرية والحداثة، إلا أننا، ثقافيا، كما في مطاردة الظلال، على حدّ تعبير أنوَر مُتنورينا الرمزي خوسيه رودريغيث إيتوربي، بقينا نحن الفنزويليين أسرى عللنا التاريخية بلا انقطاع: أسطورة «إلدورادو»، واستدعاء «الأب الطيّب القوي» ذي السلالة البوليفارية عند كل أزمة، و«القيصر» أو «الدرَكيّ الضروري»، و«العقدة الآدميّة» أو أسطورة سيزيف: «كما يَجيء سنرى». نعم، تمتّعنا بالديمقراطية، لكنني أعود لأؤكّد: لقد شربناها جرعة واحدة.

وسيهمّ، هنا حقا، أن نعيد تصوير الزمن التأسيسي لما دُعي «الثورة البوليفارية»، التي ظلّ القليلون فقط يتنبّهون لها، إذ كان يُوصم بالمفزع من لا يمنحها «حسن الظن»، حتى من الخارج، وذلك قبل كل شيء لنهدي من تقع عليهم المسؤولية الثقيلة في جمع الأمة بالمصالحة، وفي التأثير على السياسات العامة الملائمة للتحدّي. قراءة تلك النَّشأة وفهمها خارج الخنادق والاختزالات قد يُسهمان في درء الالتباسات التي لا مفرّ منها في كل مشروع بشري أو تقليلها، وفي جبر الضرر، ذاكرة وحقيقة وعدالة، وكذلك لكي نكون، بعد إعادة بناء أنفسنا، نافعين لأمم أخرى قد تتعرّض لماسة السرطان السياسي في القرن الحادي والعشرين الذي ابتُلينا به. الفنزويليون، في الواقع، قادمون من المستقبل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من دون التی ت غیر أن

إقرأ أيضاً:

بزشكيان : القدرة الدفاعية لإيران اليوم لا تُقارن بما كانت عليه قبل حرب الـ 12 يوما

الثورة نت/وكالات أكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن إيران لا تسعى للحرب أو الصراع بأي شكل من الأشكال، مشيرا الى أن قدرات إيران الدفاعية الحالية لا تُقارن بما كانت عليه قبل حرب الـ 12 يومًا المفروضة، وأنه “إذا أخطأ العدو الصهيوني، فسيواجه ردًا سريعًا وساحقًا ومؤلمًا”. وأفادت وكالة “مهر” الإيرانية للأنباء اليوم الثلاثاء، بأن تصريحات بزشكيان ، جاءت خلال لقائه مع محافظ وأعضاء مجلس نواب محافظة كرمان. وأكد بزشكيان أن العدو الصهيوني يسعى إلى تقسيم وإضعاف إيران والدول الإسلامية الأخرى، لافتا الى أن على الدول الإسلامية أن تقف صفًا واحدًا في وجه أعدائها. وأضاف بزشكيان قائلا :”لا تسعى جمهورية إيران الإسلامية إلى الحرب أو الصراع بأي شكل من الأشكال، لكن قدراتنا الدفاعية الحالية لا تُقارن بقدراتها قبل حرب الاثني عشر يومًا المفروضة، وإذا أخطأ العدو، فسيواجه ردًا سريعًا وساحقًا ومؤلمًا”.

مقالات مشابهة

  • عمرو درويش: قانون الإدارة المحلية أولوية.. والتنسيقية كانت دائما حاضرة
  • زعيم الحوثيين: قادمون على جولة مواجهة مع إسرائيل ومستعدون لها
  • قائد الثورة: قادمون حتمًا على جولة مواجهة مع العدو الإسرائيلي
  • السيد القائد: قادمون حتما على جولة مواجهة شاملة مع العدو الصهيوني
  • بزشكيان : القدرة الدفاعية لإيران اليوم لا تُقارن بما كانت عليه قبل حرب الـ 12 يوما
  • عادل حقي: موسيقى "المنبر" كانت تحديًا كبيرًا
  • سعد الدين الهلالي: الدولة المصرية القديمة كانت دولة موحدة
  • هل كانت حضارة مصر وثنية؟ عالم أزهري يرد على المُتشددين بالأدلة القرآنية
  • المومني: المرأة العربية كانت وما زالت حاضرة في قلب المشهد الإعلامي