مسقط كما شاهدها كارستن نيبور

يُعد أدب الرحلات من أهم المصادر والمراجع التاريخية والجغرافية التي أسهمت في تطور المعرفة البشرية وتقدم الآداب والفنون والعلوم، فمن خلال كتابة الرحالة يطّلع القارئ على مظاهر الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية السائدة أثناء مرور المغامرين ومرتادي الآفاق بالمصائر والبلدان التي حطت فيها رحالهم. من الرحالة الذين نزلوا بالبلاد العُمانية وكتبوا عنها، المستكشف الدنماركي الألماني الأصل كارستن نيبور (1733- 1815) الذي شارك في البعثة الدنماركية التي أمر بها فريدرك الخامس (1723-1766) ملك الدنمارك لاكتشاف الشرق والبلاد الإسلامية على وجه التحديد.

تألفت البعثة من ستة مكتشفين من الدنمارك والسويد وألمانيا ومن اختصاصات علمية مختلفة، توفوا جميعا باستثناء نيبور الذي كتب رحلته ودونها مع الخرائط والرسومات للبلاد التي مر بها. تُرجِمت الرحلة إلى اللغة العربية في جزأين تحت عنوان «رحلة إلى شبه الجزيرة العربية وإلى بلاد أخرى مجاورة» ترجمة عبير المنذر ونشر دار الانتشار العربي.

يبدو أن للرحلة أهدافا دينية أخرى تتطلع لمعرفة الحياة الاجتماعية والسياسية في الأمكنة التي هبطت فيها الديانات السماوية، إذ يقول عمار السنجري في كتابه (البدو بعيون غربية) «بدأت قصة كارستن نيبور عندما تم ترشيحه من قبل أبرز علماء أوروبا في ذلك العصر اسمه يوهان ميخاليس جونتجن، والذي فكر في ذلك الوقت أن الإنجيل سيكون أيسر فهما، وأفضل استيعابا لو أمكن ربط الأحداث التي يذكرها بحياة وعادات القبائل التي عاصرت هذه الأحداث في الحضر والبادية على حد سواء، التي مازال أبناؤها يعيشون مثلما كان يفعل أسلافهم من ألفي سنة أو يزيد».

انطلقت الرحلة في يناير 1761م من كوبنهاجن إلى القسطنطينية (إسطنبول الحالية)، ثم إلى مصر التي أمضوا في مدنها حولا كاملا كالإسكندرية ودمياط والقاهرة والسويس، ثم جدة ومنها انطلقت الرحلة في أكتوبر 1762م إلى اليمن ومروا بمدنها مخية، وعدن والمخا، وتعز، ثم إلى بومباي ومسقط التي نزلها بها في يناير 1765م.

ذكر كارستن نيبور في الجزء الثاني من رحلته المنشورة عام 1774م، في رحلته إلى عُمان عدة صفحات أشاد فيها بروح التسامح لدى العمانيين إذ قال عنهم « مهذبون مع الغرباء ويسمحون لهم بالعيش بحرية في مسقط وفقا لقوانينهم، وعلى عكس البانيان الذين يُجبرون على دفن موتاهم في اليمن، يسمح لهم أن يحرقوهم في مسقط.

كما يسمح لليهود بارتداء زي العرب إذ لا يجبرون هنا كما في البلدان العربية الأخرى بارتداء ثياب تميزهم». وعبارة « وفقا لقوانينهم» تحمل دلالة على وجود نُظم وتشريعات للسلطة السياسية الحاكمة في مسقط والحامية للحياة العامة في المدينة، إذ يقول في موضع آخر «للشرطة سلطة واسعة في هذه البلاد فنحن لا نسمع بحوادث سرقة بالرغم من أننا نرى البضائع معروضة دائما في الشارع لأسابيع متتالية».

تعكس هذه المشاهدات والانطباعات للرحالة الأجانب عن مسقط حقيقة المدينة الآمنة والمتسامحة مع الآخر، مما ساهم في النشاط التجاري في المدينة وتطورها.

لم يكتفِ نيبور بوصف الحياة السياسية والاجتماعية في عُمان بل ذكر انتقال الحكم من اليعاربة إلى الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي (1694- 1783) وابنه سلطان بن أحمد، وبداية تكوين الدولة البوسعيدية.

عاد نيبور إلى الدنمارك بعد سنة من وفاة الملك فريدرك الخامس، وكان طريق عودته عبر بلاد فارس والعراق وتركيا. رجع نيبور محملا بمحصلة علمية وثقافية للرحلة التي تعرضت لصعوبات جمة في البلاد التي مرت بها البعثة، نظرا لاختلاف المناخ والأمراض المنتشرة حينها كالملاريا.

ترك لنا كارستن نيبور وصفا دقيقا عن مسقط وسكانها الذين يقول عنهم «أما منازل السكان فهي بسيطة جدا لأنهم لا يبحثون عن الفخامة» وهذا وصف صادق إذ لا تزال المنازل في مسقط القديمة بسيطة تحمل سمات تواضع وطيبة سكانها.

المصدر: لجريدة عمان