حسين رشدي باشا.. دماغ مصر أمام عواصف الاحتلال
تاريخ النشر: 26th, November 2025 GMT
حسين رشدي باشا، شخصية سياسية مصرية استثنائية وواحدة من أعمدة تاريخ مصر الحديث في مرحلة حرجة من حياتها، ولد في عام 1863 في قلب القاهرة، لعائلة ذات جذور تركية ومكانة اجتماعية مرموقة، كانت تربطها علاقة وثيقة بالحكم والخدمة العامة.
كان والده محمود حمدي باشا طبوزاده محافظ القاهرة ووكيل نظارة الداخلية، ما أكسبه منذ صغره الاطلاع على شؤون الحكم والإدارة، ومع ذلك، لم يقتصر نشأته على التقاليد العائلية، بل امتدت رحلته التعليمية إلى أوروبا، حيث تلقى تعليمه في المعاهد السويسرية، ثم حصل على إجازة الحقوق من جامعة السوربون في فرنسا عام 1892، وعاد بعدها إلى مصر حاملا رؤية جديدة لمستقبل بلاده.
مسيرته العملية كانت سلسلة من النجاحات والتحديات، بدأ حسين رشدي حياته المهنية بالتحاقه بقلم قضايا نظارة المالية، ثم أصبح مفتشا للغات الأجنبية في نظارة المعارف لمدة ست سنوات، قبل أن يعين قاضيا في المحاكم المختلطة حيث قضى سبع سنوات، ثم انتقل إلى المحاكم الأهلية بوظيفة مستشار بمحكمة الاستئناف، وبعدها تولى إدارة ديوان الأوقاف.
هذه الرحلة الطويلة من العمل القانوني والإداري منحت رشدي خبرة واسعة في فهم آليات الحكم والإدارة، وهو ما ساعده لاحقا في تحمل مسؤوليات أكبر في السياسة المصرية.
كان حسين رشدي واحدا من أولئك الذين خدموا وطنهم في لحظات حرجة، فقد اختير ناظرا للحقانية عام 1908، ثم تولى نظارة الخارجية عام 1910، وعاد مرة أخرى للحقانية حتى عام 1914.
ومع إعلان الحماية البريطانية على مصر وخلع الخديو عباس حلمي الثاني، تولى رشدي رئاسة مجلس النظار، ثم أصبح أول رئيس وزراء في عهد السلطنة الجديدة، وهو منصب لم يكن سهلا، فقد جاء في فترة مليئة بالتحديات السياسية والضغوط البريطانية، كانت مهمته تتطلب التوازن بين مصالح بلاده ومتطلبات القوى الأجنبية، وهو ما أظهر قدرته على إدارة الأزمات بمهارة وحكمة.
من أبرز سماته الوطنية كانت حرصه على أن يظهر دائما أنه مصري قبل كل شيء، حتى أثناء تعامله مع الإنجليز، كان يؤكد في خطاباته أنه يسعى لأن يكون نافعا لمصر، وأن أي قرارات يتخذها لا تكون إلا لإدارة شؤون البلاد بسلاسة وحماية مصالحها.
رغم الضغوط والتحديات، لم يتراجع عن أداء واجبه، وظل مستمرا في منصبه لتجنب تعطيل الإدارة الداخلية، وهو موقف يعكس نبل هدفه وصدق ولائه لوطنه.
وخلال فترة ولايته، لعب حسين رشدي دورا محوريا في توحيد الصفوف الوطنية، فقد ساعد في حسم الخلافات حول تشكيل الوفد المصري، ودعم رئاسة سعد زغلول للوفد، وكان لموقعه كرئيس للوزراء دور كبير في نجاح جمع التوكيلات، رغم السيطرة البريطانية على أجهزة الدولة.
هذه المرحلة أظهرت جانبا آخر من شخصيته: القدرة على الجمع بين الدبلوماسية والحنكة السياسية لتحقيق مصالح مصر، مع الحفاظ على صورة الدولة واستقلاليتها قدر الإمكان في ظل الاحتلال.
لم يقتصر تأثيره على السياسة فقط، بل امتد إلى التعليم والثقافة، فقد تولى رئاسة الجامعة الأهلية بين عامي 1913 و1923، وساهم في وضع دستور 1923، وكان رئيسا لمجلس الشيوخ بين 1926 و1928.
هذه المناصب أظهرت حرصه على تطوير مؤسسات الدولة والبنية القانونية والسياسية، ليترك إرثا يتجاوز حدود فترة حكمه ويؤثر في تشكيل مستقبل مصر الحديث.
ورغم التحديات التي واجهها، لم يفقد حسين رشدي حسه الوطني أو روحه الإنسانية، لقد كان يعلم أن أي خطوة يتخذها تحت ضغط الاحتلال الإنجليزي يجب أن تصب في النهاية في مصلحة مصر، وأن يتحلى بالصبر والدهاء لتحقيق أكبر قدر من الاستقرار للبلاد، قصته تذكرنا بأن الوطنية لا تعني فقط التحدي المباشر، بل أحيانا الصبر والعمل الذكي والمستمر وراء الكواليس من أجل الوطن.
رحل حسين رشدي باشا عام 1928، تاركا وراءه إرثا من الإدارة النزيهة والحكمة السياسية، ومسارا يحتذى به في كيفية مواجهة تحديات الاحتلال مع الحفاظ على كرامة الوطن وكرامة المصريين.
إن سيرته تمثل جزءا لا يتجزأ من تاريخ مصر الحديث، وتظل مصدر إلهام لكل من يؤمن بالوطن قبل كل شيء، وبأن القيادة الحقيقية تتجلى في القدرة على الموازنة بين الواقع والطموح الوطني.
حسين رشدي باشا، بصفته سياسيا ودبلوماسيا ومصلحا، يظل رمزا للجيل الذي واجه الاحتلال الأوروبي بحنكة، واستطاع أن يحافظ على مصر رغم كل الصعاب.
قصته هي درس لكل المصريين في الولاء، الصبر، والعمل من أجل وطن أكبر من أي اعتبار شخصي أو ضغوط خارجية، وتثبت أن الوطنية ليست كلمات تقال، بل أفعال تمارس بحكمة وحب ووفاء.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: السياسة المصرية الاحتلال البريطانى الوطنية المصرية ثورة 1919
إقرأ أيضاً:
الضفة الغربية بين الضم والتهجير ووهم الدولة المستقلة
االحقيقة المرة التي يجب أن نواجهها بشجاعة ودون مواربة وبصريح العبارة وهي: الضفة تضيع. الضفة تُضم مترا مترا وشبرا شبرا. الضفة تغيرت تماما. لم يعد هناك مكان للفلسطيني إلا داخل سجنه الكبير أو الصغير. القرى تحولت إلى سجون. المدن عزلت عن بعضها عبر حواجز الإذلال والقهر والقتل.
التطهير العرقي متواصل. حرب الإبادة والتهجير مستمرة في غزة وفي الضفة الغربية. لا مكان للمجاملات. هذا ما جناه علينا أوسلو والأوسلويون.
هذا ما جناه علينا دعاة «سد الذرائع» بتسليم وسائل المقاومة والتنسيق الأمني. هذا ما جناه علينا من وضعوا «الضفة تضيع. الضفة تُضم مترا مترا وشبرا شبرا. ثقتهم في المجتمع الدولي والقانون الدولي والتذلل أمام عتبات البيت الأبيض. هذا ما جناه علينا أصحاب الشعارات، التي أكدت لنا حتمية قيام الدولة الفلسطينية المستقلة والمترابطة والقابلة للحياة بدون مقاومة. الناس هنا فقدوا الأمل في حل عادل. بعد غزة والمؤامرة الكونية التي تجسدت في قرار مجلس الأمن الدولي 2803 والذي يشرعن الاحتلال الدائم والاستعمار الدائم والفصل بين غزة والضفة وتجريم المقاومة وسحب كل امكانياتها، وبعد أن فشل الكيان الصهيوني من تحقيق تلك الأهداف بعد سنتين من حرب الإبادة، حققته الولايات المتحدة في القرار المذكور بخاتم دولي وعربي وفلسطيني. «تلك المصيبة لا يرقى الحداد لها لا كربلاء رأت هذا ولا النجف».
– السلطة الفلسطينية تكاد تنهار تحت ضغط مزدوج: ثقل الاحتلال الإسرائيلي، وانسلاخ السلطة عن هموم الشعب ومعاناته أمام هجمات المستوطنين والاقتحامات والقتل اليومي والاعتقالات. لم أسمع كلمة واحدة، ولو كلمة إيجابية بحق السلطة. الكل يتحدث عن فضائح ومفاسد السلطة ورموز الفساد وهروب عدد من الفاسدين خارج البلاد.
– التوحش الاستيطاني والعنف، الذي يمارسه المستوطنون بلغ حدا لا يوصف ولا يحتمل. يشعر الناس هنا أنهم تركوا لمصائرهم فرادى دون حماية. كل قرية تحاول أن تدافع عن نفسها أمام الهجمات الليلية والمتواصلة أمام الاعتداءات التي تقوم بها جماعات مجرمة من المستوطنين يعتدون على الأرض والشجر والثروات الحيوانية، بالإضافة إلى تعمد الاعتداءات الجسدية اليومية التي غالبا ما تنتهي بالقتل العمد كما حدث مؤخرا في دير جرير والجديرة وبورين وطوباس وسنجل والمغيّر ومسافر يطا وسلواد وجنين وغيرها الكثير. لقد تغوّل الاستيطان، وتتفتت الضفة الغربية إلى جيوب معزولة، حيث تملأ الجهات الفاعلة المحلية والجماعات المسلحة والمنظمات غير الحكومية الفراغ. يتآكل المجتمع المدني، وتُقمع البدائل السياسية. وهذا يُغذي اليأس والهجرة.
– لقد وزّعت السلطات الإسرائيلية أكثر من 120 ألف قطعة سلاح و157 ألف رخصة سلاح على المستوطنين في الضفة الغربية، وخفّفت القيود على حيازة الأسلحة، وشكلت 527 ميليشيا جديدة للمستوطنين. يُطلق إيتامار بن غفير، عليها اسم «فرق الأمن» مجازًا. ورغم أن الهدف المعلن لهذه الإجراءات هو الحماية إلا أن تأثيرها الفوري مكّن المستوطنين من إطلاق العنان لمزيد من العنف.
– سكان القرى الفلسطينية قطعوا عن أراضيهم حيث أقيمت بؤر استيطانية حول كل قرية على شكل قوس. قد تكون البؤرة مكونة من بيت من القصدير أو خيمة يسكنها شخص واحد أو عائلة ومعهم حمار أو حصان وكلب وبندقية. من يقترب منهم فهناك إمكانية لإطلاق النار فورا كما حدث مؤخرا في المزرعة الشرقية. البؤر الاستيطانية تنتشر حول القرية تفصل الفلاح عن أرضه. لم يعد هناك لا زراعة قمح، ولا شعير ولا عدس ولا ذرة ولا سمسم ولا خضروات ولا بقوليات، المحاصيل التي فتحنا عيوننا عليها. وإذا قطع الفلاح عن أرضه وأغلق مصدر رزقه فما العمل: إما أن يبحث عن عمل عند الاحتلال، وهذا الباب شبه مغلق بعد حرب الإبادة، أو أن يهاجر أو أن يعيش ذليلا يعتمد على صدقات أهل الخير.
– إحدى المعلمات قالت لي إنها تتقاضى نصف راتب منذ ثلاث سنوات. ومقابل ذلك تفتح المدرسة أبوابها للأطفال ثلاثة أيام فقط. كيف سيعيش المعلم بنصف راتب؟ كيف يستطيع أن يمول عائلة ويدفع أجرة البيت إذا كان مستأجرا وفاتورة الماء والكهرباء والهاتف ومصاريف الأولاد؟ وكيف ستتعلم الأجيال القادمة بنص دوام ونصف معلم ومناهج مشوهة؟
آخر ما جاء من ممارسات الاحتلال رفض استخراج قيد أرض في المنطقة «سي» والتي تعتبر شبه مضمومة. أي إذا كان لك قطعة أرض خارج المنطقة «ب» أو حوض القرية لا تستطيع استخراج سند ملكية. وهذا شيء جديد. السلطة دورها فقط أن تبلغك الرسالة. قناة تمر عبرها أوامر الاحتلال.
– اقتحامات البيوت ليليا من قبل الجيش وقوات الأمن والاعتقالات لا تتوقف. يكسرون قفل الباب ويقتحم عدة جنود البيت ويهينون كل من يجدونه أمامهم بالضرب والمسبات وتكسير الأثاث وسرقة كل ما يمكن سرقته من أموال أو بعض حليّ النساء. قال لي شخص من القرية أحد الجنود لم يجد إلا ورقة 20 شيقلا فدسها في جيبه.
نحن أمام كارثة خطيرة فإما أن ينهض الشعب الفلسطيني في كل مكان لحماية وجوده وأرضه وتاريخه ومستقبله وإلا ستضيع القضية الأعدل في التاريخ الحديث
– آخر هموم الشعب الفلسطيني هي الانتخابات. فقد دعا الرئيس محمود عباس لإجراء انتخابات المجالس البلدية. ولكن بشرط أن تتم حسب شروطه التي أعلن عنها وهي قبول الاتفاقيات التي عقدتها منظمة التحرير الفلسطينية وقبول الشرعية الدولية والتي تعني في النهاية قبول اتفاقية أوسلو ومثالبها وأخطارها السياسية والاقتصادية والوطنية. تخيلوا معي لو أن انتخابات الكيان منعت المتطرفين الذين ينادون بقتل الفلسطينيين أو تهجيرهم من المشاركة. أي خطل أكثر من هذا؟
القتل المتواصل والاقتحامات والمداهمات وهدم البيوت وعنف المستوطنين وحواجز الإذلال وبوابات الإغلاق التي انتشرت في كل قرى وبلدات ومدن الضفة الغربية لها تؤدي إلى التهجير. الهجوم على مخيمات الشمال وتدميرها في شهري يناير وفبراير أدى إلى تهجير أكثر من 42 ألفا. هدمت بعدها بيوت المخيمات.
وحسب منظمة «هيومان رايتس ووتش» في تقريرها الأخير بعنوان «لقد تم محو أحلامي» والمكون من 105 صفحات حول التطهير العرقي في الضفة الغربية جاء فيه: «عملية الجدار الحديدي، وهي عملية عسكرية إسرائيلية شملت مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس للاجئين، بدأت في 21 يناير 2025، بعد أيام من إعلان وقف إطلاق نار مؤقت في غزة حيث أصدرت القوات الإسرائيلية أوامر مفاجئة للمدنيين بمغادرة منازلهم، بما في ذلك عبر مكبرات صوت مثبتة على طائرات بدون طيار.
وقال شهود عيان إن الجنود تحركوا بشكل منهجي في المخيمات، فاقتحموا المنازل، ونهبوا الممتلكات، واستجوبوا السكان، وأجبروا جميع العائلات في النهاية على المغادرة. ومنذ المداهمات، حرمت السلطات الإسرائيلية السكان من حق العودة إلى المخيمات، حتى في ظل عدم وجود عمليات عسكرية نشطة في محيطها. أطلق جنود الاحتلال النار على السكان الذين حاولوا الوصول إلى منازلهم، وقام الجيش بتجريف وهدم وإخلاء مساحات داخل المخيمات، مما أدى إلى فتح طرق وصول أوسع على ما يبدو، وأغلق جميع المداخل». وقد زاد عدد البيوت المهدمة عن 1300 منزل.
ونحن نكتب هذه الكلمات بدأت عملية مشابهة في بلدة طوباس بحجة وجود مطلوبين. الحقيقة أن كل فلسطيني مطلوب لسلطات الاحتلال. التهجير قادم. هذا ما جناه علينا أوسلو والاوسلويون عندما «سحبوا الذرائع» وأداروا بنادقهم إلى الأسفل وكلفوا بحماية أمن عدوهم وأمن مستوطنيه وتركوا شعبهم أمام آلة الموت.
نحن أمام كارثة خطيرة فإما أن ينهض الشعب الفلسطيني في كل مكان لحماية وجوده وأرضه وتاريخه ومستقبله وإلا ستضيع القضية الأعدل في التاريخ الحديث وبتوقيع عربي وفلسطيني كما كان الحال في نكبة 1948.
القدس العربي