لا أستطيع كلما ذكرت اسم مصطفى صادق الرافعي إلا أن أشعر أننا أمام واحد من هؤلاء الرجال الذين مروا في تاريخ مصر مرور الأنهار الهادئة، لكنها تركت في الأرض مجرى ثابتا لا يزول. 

فقد كان الرافعي، في جوهره وروحه وقلمه، واحدا من أبناء مصر الذين أحبوها بصدق، ودافعوا عن لغتها وهويتها ودينها كما يدافع الجندي عن أرضه، وكما يحرس الأمين كنزا وضع في يده وأوصي بالحفاظ عليه.

 

ولعل ما يجعل الحديث عنه حديث روح قبل أن يكون سيرة أو تاريخا، هو أن الرجل لم يكن مجرد كاتب أو شاعر، بل كان ضميرا يقظا في زمن كانت فيه مصر تبحث عن نفسها، وتواجه موجات فكرية وسياسية عاتية هبت عليها من كل اتجاه.

ولد الرافعي في يناير 1880 في بيت متواضع بقرية بهتيم بالقليوبية، لكنه خرج من هذا البيت الصغير ليصبح فيما بعد صوتا أدبيا من أكبر الأصوات التي عرفتها مصر في العصر الحديث. 

نشأ في بيئة دينية عربية خالصة، فأبوه كان قاضيا شرعيا، وأسرته كانت تحرص على التربية المتينة التي تقوم على الدين والمعرفة، وشاء القدر أن يصاب الرافعي في شبابه بمرض التيفود، وهو المرض الذي أفقده سمعه تدريجيا حتى فقده كاملا في الثلاثين من عمره.

ولو كان هذا الابتلاء نزل على غيره لربما توقف عن الطريق، لكن الرافعي كان من أولئك الذين إذا سقط عليهم البلاء اشتد عودهم وصقل الدرب معدنهم، فاستبدل نعمة السمع بنعمة أخرى أعمق وأغنى: نعمة القراءة والتأمل والاستغراق في بحر اللغة العربية.

لم يحصل الرافعي في التعليم النظامي إلا على الشهادة الابتدائية، لكنها كانت شهادة شكلية أمام ما حصله الرجل بجهده من العلم والأدب، كان يقرأ كمن يلتهم الكتب التهاما، ينسخ في ذهنه ما يعجز غيره عن حفظه، حتى إنه استظهر "نهج البلاغة" في عمر لم يتجاوز العشرين. 

وعندما أنشئت الجامعة المصرية - وهي في ذلك الزمن حلم النهضة الفكرية - اكتشف الرافعي بعد حضور سنوات فيها أنه لم يجد بين أساتذتها وفي مناهجها ما يضيف إلى ما حصله بنفسه. وهذه الثقة بالنفس لم تكن غرورا، بل كانت إحساسا صادقا بقيمته، وإيمانا بأن العلم ليس ورقا مختوما بقدر ما هو روح تعمل وعقل يبحث.

عمل الرافعي في محاكم مصر موظفا بسيطا، لكنه لم يكن يوما موظفا عاديا، كان وجوده في المحكمة وسيلة رزق، أما حياته الحقيقية فقد كانت في الكتب وفي القلم. 

بدأ شاعرا جزل العبارة، قوي النفس، يتبع خطى شعراء العربية الكبار، وأصدر ثلاثة أجزاء من ديوانه وهو ما يزال في العقد الثالث من عمره. 

استقبله الناس بشغف، وأشاد به أعلام عصره، حتى كتب إليه الإمام محمد عبده رسالة لا يكتبها إلا لمن رأى فيه موهبة فذة. ومع ذلك، أحس الرافعي أن الشعر في صورته التقليدية لم يعد ميدانه الحقيقي، وأن القافية والوزن قد يضيقان عن حمل ما يمتلئ به صدره من رؤى وأفكار، فانصرف إلى النثر، وكأنه عاد إلى بيته الأول.

في النثر، وجد الرافعي صوته الخاص، وجد اللغة التي يستطيع أن يخوض بها معاركه، ويواجه بها موجات التغريب التي كانت تحاول النيل من العربية، ومن القرآن، ومن هوية الأمة. 

وكانت كتاباته ليست مجرد رأي، بل كانت جهادا بالقلم، يخوضه رجل يشعر أنه واقف على ثغر ينبغي ألا يترك خاليا، كتب "تاريخ آداب العرب" فأصبح واحدا من أهم الكتب التي مهدت لدراسة الأدب العربي في العصر الحديث. 

وكتب "تحت راية القرآن" فصار سيفا مرفوعا في وجه محاولات التشكيك في التراث العربي والإسلامي، وكتب "وحي القلم"، هذا السفر العظيم الذي جمع فيه أجمل ما خطه وجدان أديب عاش للقيم والجمال، وجعل من مقاله قطعة أدبية تقرأ وكأنها قصيدة.

ولم تكن معاركه الأدبية سهلة، فقد خاصم سلامة موسى، وواجه العقاد، ورد على طه حسين، وجادل لطفي السيد، وساجل زكي مبارك، لكنه كان في كل معاركه ثابتا كالطود، يدافع عن لغته كما يدافع المحارب عن وطنه. 

وكانت مصر تقرأ معاركه كمن يشاهد صراعا بين تيار يريد تفكيك اللغة وتيار آخر يريد حماية جوهرها، وكان الرافعي في قلب هذا الصراع حاملا راية الدفاع، واثقا أن اللغة العربية ليست مجرد كلمات، بل هي روح مصر وهويتها التي لا يجوز التفريط فيها.

ولأن الوطنية لم تكن عنده شعارا يرفع، بل إحساسا حيا يجري مع دمه، كتب نشيد "اسلمي يا مصر"، ذلك النشيد الذي كان نبضا لأجيال من المصريين، والذي صار نشيدا وطنيا لسنوات طويلة، وبقي حتى اليوم جزءا من ذاكرة الوطن ووجدانه. 

وفي تونس كتب نشيد "حماة الحمى"، ليثبت مرة أخرى أن صوته لم يكن صوت مصر وحدها، بل صوتا لكل أرض عربية أرادت أن تحفظ كرامتها وتتمسك بهويتها.

رحل الرافعي في العاشر من مايو 1937، بعد أن صلى الفجر وتلا شيئا من القرآن، وكأن حياته اكتملت بدائرة نور تبدأ بالقرآن وتنتهي به. مات في السابعة والخمسين، لكنه ترك تراثا لو وزع على أعمار لملأها، ترك فكرا لا يموت، ولغة لا تشيخ، وقيمة لا تنطفئ.

وأنا - ككاتب مصري أقف على ضفاف تاريخ بلدي - أشعر أن ذكر الرافعي ليس مجرد تذكر لأديب كبير، بل هو تذكر لواحد من الحراس الصامتين الذين وقفوا ليدافعوا عن هويتنا، عن لغتنا، عن روحنا التي نحيا بها. 

هو واحد ممن يثبتون لنا أن الوطنية ليست هتافا، بل موقف، وأن الإيمان بالبلد ليس كلمة، بل فعل وقيمة وجهاد طويل، والرافعي - بكل ما كتب وبكل ما جاهد - كان واحدا من هؤلاء الذين نحني لهم رؤوسنا احتراما، ونشعر في حضورهم أننا أمام رجل عاش لمصر، وكتب لمصر، وبقيت مصر مدينة له بالشكر ما دام في أرضها قلب يعرف معنى الكرامة ومعنى الانتماء.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الرافعي الأدب العربي البلاغة الابداع جماليات اللغة الرافعی فی

إقرأ أيضاً:

إيران تقاطع قرعة كأس العالم .. تعرف على السبب

قرر الاتحاد الإيراني لكرة القدم اليوم الجمعة مقاطعة قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 في الولايات المتحدة الأسبوع المقبل احتجاجا على تخصيص عدد محدود من التأشيرات للوفد الممثل له في القرعة، بحسب وكالة "رويترز" للأنباء.

الفيفا يكشف تصنيف المنتخبات في قرعة كأس العالم .. من يتجنب مواجهة مصر؟قرعة كأس العالم 2026 .. موعدها الرسمي وفرص منتخب مصر بين التحدي والتوقعات

ونقل موقع "ترافداري" الإخباري الرياضي الإيراني عن أمير مهدي علوي المتحدث باسم الاتحاد قوله "لن يحضر الوفد الإيراني قرعة كأس العالم بناء على الموقف الأخير المتعلق بإصدار التأشيرات للوفد لحضور مراسم القرعة".

وتفرض الولايات المتحدة منذ فترة طويلة قيودا صارمة على منح التأشيرات للإيرانيين لأسباب سياسية وأمنية.

ونقل الموقع عن علوي قوله إن الولايات المتحدة منحت تأشيرات لأربعة من أعضاء الوفد الإيراني بينهم أمير قالينوي مدرب الفريق، لكنها لم تمنح تأشيرة دخول لرئيس الاتحاد الإيراني مهدي تاج.

وأضاف علوي أن هذا القرار جاء في أعقاب ما وصفته إيران "بالتصرفات غير رياضية" للسلطات الأمريكية فيما يتعلق بالقرعة التي ستجرى في واشنطن يوم الجمعة المقبل.

ونقل الموقع قوله "بناء على قرارات غير رياضية وانحراف المسار عن العملية الرياضية، قررنا عدم حضور الوفد الإيراني حفل القرعة".

وقال الاتحاد إنه على تواصل مع الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) منذ يومين وأبلغ رئيسه جياني إنفانتينو والأمين العام. وأضاف علوي "قال الفيفا إنه سيتابع الأمر بجدية".

وضمنت إيران التأهل إلى كأس العالم في مارس الماضي بعد التعادل 2-2 مع أوزبكستان في طهران، لتضمن الظهور السابع في البطولة والرابع على التوالي.

طباعة شارك الاتحاد الإيراني كأس العالم قرعة كأس العالم

مقالات مشابهة

  • هل مساعدة زميل العمل بالمال يعد من باب الزكاة
  • إيران تقاطع قرعة كأس العالم .. تعرف على السبب
  • منير البرش يكشف عدد المرضى الذين ماتوا في غزة بسبب إغلاق المعابر
  • مثل رحمن الله لاكانوال.. ماذا نعرف عن الأفغان الذين عملوا مع القوات الأمريكية قبل انسحاب 2021؟
  • أمين الرافعي.. الرجل الذي هزم الاحتلال بالقلم وحده
  • مفهوم سنن الفطرة بالدلائل من السنة النبوية
  • ضابط الغيبة في قوله تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)
  • لا تنسوا الدعاء فهو عبادة يحبها الله
  • رسامني: العاصفة التي شهدناها كانت اختبارًا فعليًا وجديًا لجهوزية الوزارة