تكتسب قضية اللاجئين الفلسطينيين ومخيماتهم أهمية استثنائية في دراسات الاستعمار الاستيطاني، والجغرافيا السياسية، والنظرية السياسية المعاصرة، فالمخيم الفلسطيني لم يعد مجرد "حالة استثناء" أو مجرد محطة انتظار إنسانية على هامش التاريخ، بل تحول عبر عقود من الصمود والتشكل إلى بنية سياسية ومادية مركزية، تشتبك وجوديا مع المشروع الاستيطاني الصهيوني.

في كتابه الصادر حديثا عن دار نشر جامعة ديوك (2025) والحائز على جائزة "الكتاب الأول للباحثين الملونين"، يقدم ناصر أبو رحمة في "الزمن تحت الخرسانة: فلسطين بين المخيم والمستعمرة" (The Time beneath the Concrete Palestine between Camp and Colony) مرافعة نظرية وتاريخية عميقة، مجادلا بأن قراءة القضية الفلسطينية لا تستقيم دون قراءة المخيم، ليس فقط كمكان، بل كحيز زماني وسياسي يعطل اكتمال المشروع الاستيطاني.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2“الإمبراطورية القاحلة” كيف وظّفت أميركا خبرات الصحارى لبناء نفوذها العالمي؟list 2 of 2"المعرفة" في خدمة الإمبريالية والفاشية والاستبدادend of list

ناصر أبو رحمة أستاذ مساعد في دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يتمحور عمله البحثي في المساحة المشتركة بين التاريخ الاستعماري المقارن، والجغرافيا السياسية، والنظرية السياسية. تشمل اهتماماته البحثية والتدريسية قضايا الحدود والهجرة، وتاريخ المخيمات والسجون، والاستعمار الاستيطاني والعرق، والثورات والانتفاضات.

وهنا تأتي أهمية كتاب "الزمن تحت الخرسانة" ليتوج هذا الاشتغال النظري، مقدما المخيم الفلسطيني كشاهد وفاعل في آن واحد، حيث يجادل الكتاب بأن المخيم والمستعمرة (المستوطنة) مرتبطان بـ"عناق مميت".

ففي حين يسعى المشروع الصهيوني لإنشاء زمن جديد ومحو الماضي، يقف المخيم عائقا ماديا وزمنيا، يجسد "الزمن الذي لا يمضي"، زمن السلب الذي يرفض أن يتحول إلى ماض، معطلا بذلك قدرة المستعمرة على التحول إلى دولة طبيعية ومستقرة.

ناصر أبو رحمة حاملا كتابه "الزمن تحت الخرسانة: فلسطين بين المخيم والمستعمرة" (الجزيرة)المخيم الحتمي وزمن ما قبل المخيم

يتناول أبو رحمة في الفصل الأول الجذور التأسيسية لنظام المخيمات، لا من بوابة العمل الإنساني المجرد، بل من خلال تتبع "بعثة المسح الاقتصادي" التي قادها "غوردون كلاب" (Gordon Clapp)، الرئيس السابق لسلطة وادي تينيسي الأميركية، في عام 1949. يجادل المؤلف بأن المخيم لم يَنشأ استجابةً إنسانية بحتة للكارثة، بل ظهر في لحظة "تكنو إمبريالية" عالمية سعت لإعادة دمج اللاجئين "العاطلين" في دورة العمل والإنتاج.

إعلان

يكشف أبو رحمة كيف استورد "كلاب" منطقا عنصريا من الجنوب الأميركي، يرى في اللاجئين فائضا بشريا يتسم بالكسل والخمول، ويحتاج إلى "إصلاح" أخلاقي واقتصادي. هنا يبرز مفهوم "التكنو أخلاقية" (Technomorality) الذي يمزج بين الكفاءة التقنية والأحكام الأخلاقية المسبقة، حيث استخدمت التكنولوجيا أداةً لإدارة السكان وتشكيل ذواتهم بعيدا عن السياسة، تحت ذريعة التطوير والتأهيل.

يوضح أبو رحمة كيف أدى هذا المنطق إلى مَأسسة المخيم بشكل غير مقصود. ففي حين كانت الخطة تهدف إلى "تصفية" قضية اللجوء عبر مشاريع التشغيل والإدماج الإقليمي (توطين اللاجئين كأيد عاملة)، فإن فشل هذه المشاريع في استيعاب الكتلة البشرية الهائلة، ومقاومة اللاجئين لمحاولات التوطين، حوّل المخيمات من محطات مؤقتة إلى واقع دائم.

يظهر أبو رحمة أن التقنية لم تكن محايدة، بل كانت ذريعة لإخفاء الهيمنة السياسية والعرقية. لقد صممت السياسات الأولية لتحويل الفلاح الفلسطيني المقتلع من أرضه إلى عامل منضبط، وذلك لدرء "خطر" الفراغ والسياسة. وهكذا يكشف أبو رحمة أن جذور المخيم تكمن في تقاطع تاريخ السلب الاستعماري مع تاريخ الإدارة التقنية للعمل، مما جعل "المخيم" نتيجة حتمية لسياسات كانت تهدف أصلا لإلغائه.

المخيم وسلطة إدارة "المؤقت"

ينتقل أبو رحمة إلى تحليل دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) في إدارة المخيمات خلال الخمسينيات والستينيات، مركزا على العلاقة بين "السلطة" و"البنيان".

وهنا يجادل أبو رحمة بأن الأونروا، بعد فشل مشاريع التوطين الكبرى، لجأت إلى ممارسة سلطتها من خلال تنظيم الحيز المكاني والبيئة المبنية، وتحويل المخيم من مجرد تجمع للخيام إلى فضاء منظم ومخطط، حيث أصبحت عمليات البناء، وتوزيع الوحدات السكنية، وإصدار التصاريح، أدوات للضبط.

وهنا يطرح أبو رحمة مفهوم "السلطة الإدارية" التي مارستها الوكالة، وهي سلطة لا تستند إلى السيادة على الأرض أو التمثيل السياسي، بل إلى الكفاءة التقنية في إدارة السكان والموارد. لقد حاولت الوكالة من خلال هذه السلطة الحفاظ على المخيم كحيز "غير سياسي"، ومكان للاحتياجات البيولوجية والمعيشية فقط.

لكن أبو رحمة يبرز كيف تحول هذا الضبط المكاني إلى ساحة للصراع السياسي، خاصة مع صعود العمل الفدائي وتولي منظمة التحرير الفلسطينية زمام الأمور في مخيمات لبنان بعد اتفاق القاهرة عام 1969. يوضح الدكتور ناصر كيف أصبح كل فعل بناء، أو توسيع لمنزل، أو استبدال سقف من الإسمنت مكان سقف من الزنك، فعلا سياسيا يتحدى سلطة الوكالة ويعيد تعريف العلاقة بين اللاجئ والمكان.

يناقش أبو رحمة الأزمة التي واجهتها الأونروا عندما فقدت سيطرتها الأمنية والإدارية لصالح الفصائل الفلسطينية، وكيف حاولت التملص من مسؤولياتها السياسية عبر التلاعب بالمسميات (محاولة جعل كلمات مثل "تجمع" أو "بلدة" بدل كلمة "مخيم"). وهنا يظهر لنا كيف تحول "البنيان" في المخيم لشيء يتجاوز مجرد مأوى، بل لأداة تشكلت من خلالها السلطة، وفي الوقت نفسه الأداة التي تم من خلالها تقويض تلك السلطة.

الثورة الفلسطينية سعت لتحويل المخيم من فضاء الانتظار السلبي إلى قاعدة انطلاق وحاضنة شعبية (رويترز)المخيم متجاوزا الحاضر المستحيل

يخصص أبو رحمة فصلا لدراسة المخيم في حقبة الثورة الفلسطينية (1968 إلى 1982)، معتمدا على قراءة الأدب الفلسطيني (روايات غسان كنفاني، رشاد أبو شاور، ويحيى يخلف) كمدخل لفهم التحولات السياسية والذاتية.

إعلان

ركز من خلاله أبو رحمة على التوتر المزدوج الجوهري الذي عاشته الثورة، والمتمثل في الحاجة إلى المخيم كقاعدة انطلاق وحاضنة شعبية، وفي الوقت نفسه الرغبة في "تجاوز" المخيم كرمز للبؤس والانتظار السلبي.

يجادل الدكتور ناصر بأن الثورة سعت لتحويل اللاجئ من "ضحية" تنتظر الإعاشة إلى "فدائي" يصنع التاريخ، محاولة تحويل زمن المخيم الراكد إلى زمن ثوري حركي. كان الهدف هو تحويل المخيم من "سجن" كبير إلى "قاعدة" للتحرير، مما استدعى إعادة تشكيل الوعي والذاتية الفلسطينية لتتجاوز حدود المكان المحاصر.

يحلل أبو رحمة كيف عكست الرواية الفلسطينية هذا المأزق، ففي حين سعت النصوص الأدبية لتمجيد العمل الفدائي والخروج من المخيم نحو الوطن، فإن السرد الروائي غالبا ما كان "يتعثر" عند تفاصيل الحياة اليومية في المخيم.

يظهر أبو رحمة أن المخيم في الأدب لم يظهر فقط كمرحلة يجب عبورها، بل كفضاء حيوي تتشكل فيه علاقات اجتماعية جديدة ونوع مغاير من السياسة، يمزج بين "البناء" (بناء البيت والحياة) وبين "المقاومة".

وهنا نكتشف بأن التحليل الأدبي أبرز لنا أن الثورة لم تكن مجرد عملية عسكرية، بل كانت مشروعا لإنتاج "ذات" جديدة، وأن المخيم ظل يفرض ثقله المادي والرمزي، مانعا السردية من الاكتمال في خط مستقيم نحو التحرير، مما أنتج "واقعية ثورية" معقدة تعترف بمركزية المخيم في تشكيل الهوية الوطنية حتى وهي تسعى لتجاوزه.

قدرة اللاجئين على تحويل المخيم إلى منصة للمطالبة بالحقوق وبناء الحياة، تمثل شكلا جديدا من المقاومة (الجزيرة)المخيم مفككا لدوام الاستعمار

ينتقل أبو رحمة لمعالجة الجانب الإسرائيلي، متفحصا لماذا شكلت المخيمات، وتحديدا بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، مصدرا دائما للقلق الوجودي والأمني للمخططين الإسرائيليين. يطرح أبو رحمة فكرة أن المخيمات تمثل "العودة" كإمكانية مادية وسياسية كامنة، وتجسد ما يسميه "الوعي المؤقت" (Consciousness of the temporary)، هذا الوعي يرفض قبول الواقع الاستعماري كقدر نهائي، ويصر على أن الوجود في المخيم هو حالة استثنائية ستنتهي بالعودة.

لذا سعت إسرائيل عبر سلسلة من الخطط (مثل خطط شارون لتوسيع الطرق في غزة، ومشاريع توطين اللاجئين) إلى تفكيك المخيمات ماديا وسياسيا، بهدف تحويل اللاجئين إلى "سكان دائمين" ونسف فكرة العودة من جذورها.

يوضح أبو رحمة من هذا المنطلق إستراتيجيات "النفي" التي اتبعتها إسرائيل. فالهدف لم يكن مجرد السيطرة الأمنية، بل كان محاولة لـ"تطبيع" الاحتلال وإغلاق ملف 1948 إلى الأبد. وهنا يستعرض أبو رحمة في كتابه كيف حاولت الدولة الاستعمارية استخدام التخطيط العمراني والهدم كأدوات لكسر الوعاء الزمني الذي يحفظ الذاكرة السياسية للاجئين.

يجادل أبو رحمة بأن هوس إسرائيل بتصفية المخيمات ينبع من حاجتها لتحقيق "السيادة الزمنية"، أي فرض زمنها الخاص كزمن وحيد ونهائي. ومع ذلك، يظهر فشل هذه السياسات أمام مقاومة اللاجئين ورفضهم الانتقال إلى مشاريع التوطين التي كانت تشترط التنازل الضمني عن الحق السياسي، مما أبقى المخيم "عقدة" مستعصية تذكر المستعمر باستمرار جريمته التأسيسية، وأن الماضي لا يزال حيا وفاعلا في الحاضر كفاعل سياسي لا يموت.

سياسات السكنى ومنطق الاحتلال

يوسع أبو رحمة عدسته لتشمل السياق العالمي، طارحا مفهوم "سياسات السكنى" كإطار نظري لفهم نضالات المهمشين والمقتلعين حول العالم. يربط أبو رحمة بين تجربة المخيم الفلسطيني وظاهرة "تحويل العالم إلى مخيم" (Encampment of the World) المتصاعدة اليوم، حيث تنتشر المخيمات ومراكز الاحتجاز كأداة لإدارة "الفائض البشري" من المهاجرين واللاجئين.

هذا ما جعل المخيم الفلسطيني، بطول أمده وكثافته السياسية، يتحول لـ"نموذج أولي" (Prototype) لفهم كيف يتحول "السكن" والبقاء في مكان ما إلى فعل سياسي جذري في مواجهة أنظمة تسعى للمحو والاقتلاع.

إعلان

المخيمات الفلسطينية تعلمنا أن الفعل السياسي لم يعد حكرا على المواطنة داخل الدولة القومية، بل انتقل إلى ميدان "السكنى". إن قدرة اللاجئين على "الاحتلال المؤقت" وتحويل المخيم من فضاء للموت الاجتماعي إلى منصة للمطالبة بالحقوق وبناء الحياة، تمثل شكلا جديدا من المقاومة. في عالم يزداد فيه التهميش وتتآكل فيه الحقوق، يصبح الدفاع عن الحق في الوجود، وفي بناء مأوى، وفي تشكيل مجتمع داخل "اللاحيز" هو المعركة السياسية الأولى.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات فكر المخیم الفلسطینی أن المخیم أبو رحمة من خلال

إقرأ أيضاً:

رحمة رياض تطلق أغنيتها الجديدة “مطر” تزامنا مع حلول فصل الشتاء (فيديو)

أطلقت المطربة رحمة رياض أغنيتها الجديدة “مطر”، عبر قناتها الرسمية على موقع الفيديوهات الشهير “يوتيوب”، وهي أغنية رومانسية بامتياز باللهجة العراقية، تحمل طابعًا عاطفيًا قويًا ينسجم مع أجواء الشتاء.

وفاء عامر وإيهاب فهمي بينهم.. أبطال مسلسل "السرايا الصفرا" يحتفلون بأول يوم بروفات (صور) إيمان كريم تشيد بتصريحات الرئيس السيسي بشأن حماية الأطفال ذوي الإعاقة “الصحة” تشارك في معرض "الأسبوع الكويتي السادس عشر" بمصر لعرض إنجازات المنظومة الصحية بـ"عيادة عيون متنقلة".. تنظيم قافلة طبية جديدة ضمن مبادرة “عينيك في عنينا” لتقديم الكشف والعلاج بالزقازيق إيمان كريم تبحث مع وزير الرياضة دمج احتفالية اليوم العالمي لذوي الإعاقة بفعاليات قادرون باختلاف بلاغ عاجل من حلمي عبد الباقي ضد نقيب الموسيقيين مصطفى كامل (تفاصيل) "التحرش بالأطفال بيحصل بشكل شرعي في الصعيد".. فنانة مشهورة تثير الجدل (ما القصة؟) التبرع بدماغ بروس ويليس وهو على قيد الحياة.. تفاصيل المنصة الإلكترونية للصحة النفسية وعلاج الإدمان تسجل أكثر من 120 ألف زيارة وزير الصحة يزور مدينة «باشاك شهير تشام وساكورا» الطبية أكبر مجمع طبي في أوروبا بإسطنبول أغنية مطر

تقدم رحمة أغنية دافئة الإحساس، مليئة بالمشاعر الحقيقية تلامس المستمع منذ اللحظة الأولى خاصًة مع حلول فصل الشتاء، وهي من كلمات الشاعر علي رياض، وألحان حيدر الأسير، وتوزيع عزيز ثامر، فيما تولى حسن العراقي عمليّة الميكس والماسترنغ.

 قدمت رحمة رياض الأغنية بتقنيات الذكاء الاصطناعي ضمن أجواء شتوية متكاملة، عكست روح العمل وحالة الشوق التي تتصاعد مع زخات المطر.

 

وكانت رحمة رياض قد شوقت جمهورها قبل الإصدار من خلال فيديو ترويجي نشرته عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، ظهرت فيه تحت المطر وهي تكتب على زجاج السيارة عنوان أغنية “مطر”، ما أثار فضول المتابعين وزاد من حماسهم بانتظار العمل الجديد.

 

على الجانب الآخر، تستعد رحمة رياض لإحياء سهرة رأس السنة 2026 في فندق الحبتور غراند – بيروت، وذلك إلى جانب انشغالها بتصوير حلقات الموسم الجديد من The Voice، حيث تشارك في لجنة التحكيم وتواصل اختيار المواهب الشابة ضمن البرنامج.

مقالات مشابهة

  • رئيس بلدية جنين: الاحتلال يفكك المخيمات لفرض واقع جديد
  • الري تنفذ 92% من مجموعة قناطر ديروط الجديدة..وتركيب الخرسانة المسلحة لقنطرة فم بحر يوسف
  • رحمة رياض تطلق أغنيتها الجديدة “مطر” تزامنا مع حلول فصل الشتاء (فيديو)
  • برلماني: لا رحمة لمغتصبي البراءة.. وتغليظ عقوبة التحرش بالأطفال واجب تشريعي عاجل
  • حكم تخصيص وقت بالليل لقراءة القرآن الكريم دون النهار
  • ورقة بحثية تكشف البنية المنظمة للعنف الاستيطاني في الضفة الغربية
  • تدشين المخيم المجاني الثاني لعمليات القلب المفتوح في هيئة مستشفى الثورة بالحديدة
  • المخيمات الشتوية بمكة المكرمة.. تجربة ترفيهية تُعزّز التنوع الموسمي
  • «التربية والتعليم» تطلق المخيمات الشتوية للعام الدراسي 2025 - 2026