عربي21:
2025-12-06@09:36:55 GMT

الإثنوغرافيا الترامبيّة أو كم ثمن الحذاء؟

تاريخ النشر: 6th, December 2025 GMT

من عجائب الدنيا أن الطاووس الترامبي المتكبّر مجحود مظلوم، وأن أثرى أثرياء الرئاسة القارونيّة مَبْغِيُّ عليه! فلَكَمْ ظلمتْه لجنة نوبل للسلام وأنكرت صنائعه ومعروفه رغم أنه (في ظنه الذي يبدو أنه جادّ فيه غير كاذب) صانع السلام ومُنهي القتال في كثير من الحروب، بما فيها الحرب بين «أبير ـ بايجان (هكذا يسمي أذربيجان) وأرمينيا (عفوا، بل «ألبانيا»، فذلك هو اسمها الصحيح في قاموسه!).



وقد يكون من الظلم أيضا الجزم بأن ترامب لم يسمع بالفيلسوف الأسترالي الشهير بيتر سينغر، وأنه ربما لم يسمع حتى بالأم تيريزا، ولا علم له بأن من مبادئ الشرائع السماوية أن كل البشر «عيال الله». إذ لو كان يعلم لما أقدم على ما تفوه به الأربعاء من شتائم متشنجة وأباطيل «إثنوغرافية» استعلائية ساذجة (متوارثة عن إمبريالية القرن 19 وضلالات «العنصرية العلمية») ضد الصوماليين.

لست من قراء بيتر سينغر، وإنما استمعت لبعض محاوراته على راديو بي بي سي 4. وعندما حل ضيفا على جامعة كينغز كولدج في لندن عام 2013 حرصت على أن أشهد محاضرته التي كانت بعنوان «الحياة التي في وسعك إنقاذها» والتي عرض فيها أحد عناصر مذهبه في «فلسفة الأخلاق التطبيقية». وهذا العنصر هو ما يسميه «الإيثار الفعلي»، أي مختلف الوجوه التي يمكن أن يدير بها المرء حياته على مدار تقديم مصلحة الغير على المصلحة الشخصية والتبرع بكل ما فاض عن حاجته من المال والممتلكات، وكل ما يبقى من راتبه الشهري، إلى المحتاجين والضعفاء.

ويحرص سينغر على التنبيه إلى أن مبدأ الإيثار هذا (الذي لا يخفى أنه صيغة علمانية أو دنيوية، أو إعادة تعريف محايدة، لما يعرف في مختلف الديانات باسم أعم وأشمل هو فعل الخير) لا يكون فعليا، أي أخلاقيا بحق، إذا اقتصر أثره على المحتاجين والضعفاء في حي المُؤْثِر أو بلدته أو بلاده فقط، بل إن شرط الفعلية الأخلاقية في الإيثار أن يعمَّم تطبيقه على جميع الضعفاء والمحتاجين من أفراد الأسرة البشرية في جميع أنحاء العالم.

وله في إيجاز هذا المبدأ صورة بليغة مستمدة من أول مقال نشره عام 1972 بعنوان «المجاعة والوفرة والأخلاق»: تخيل أنك مررت في طريق ذهابك إلى العمل ببِرْكة لمحت في غمارها طفلا وحيدا يغالب المياه وهو على وشك الغرق، وليس ثمة حول البركة شخص سواك. الأرجح أنك سترتمي في الماء دون تردد رغم علمك أنك ستتلف حذاءك الجديد الذي اشتريته قبل أيام قلائل وأن بدلتك ستبتلّ وتتلطخ بالأوحال وأنك ستتأخر عن موعد العمل بساعة على الأقل.
يموت كل عام حوالي عشرة ملايين طفل بسبب الجوع وسوء التغذية والأمراض التي كان يمكن الوقاية منها بسهولة
مبعث هذا الشعور التلقائي بالواجب الأخلاقي نحو الطفل هو أنك تراه رأي العين. ولكن ما هو الفرق بين طفل يغرق أمام عينيك وبين طفل يموت، جوعا أو مرضا، في بلاد بعيدة؟ جواب سينغر أنه لا فرق إطلاقا إذا طبقنا مبدأ الإيثار الفعلي تطبيقا شاملا كاملا. وهذا أساس دعوته إلى وجوب مقاومة مُضمَراتنا وتحيزاتنا التي تجعلنا نقدّم من نرى على من لا نرى ونُؤْثر الأقارب (اجتماعيا أو قوميا) على الأباعد. والرأي عند سينغر أن مبررات تقديمنا القريب على الغريب، أو من نرى على من لا نرى، مبررات غير عقلانية لا يجوز الاعتداد بها إذا نحن انطلقنا من منطلق مبدئي بسيط هو المساواة بين البشر، جميع البشر، في الكرامة والحقوق، بصرف النظر عن موطن النشأة ولون البشرة.

وبما أن من المحتمل أن يكون ثمن الحذاء الذي تضرر أثناء إنقاذ الطفل يتراوح بين خمسين ومائة دولار، فإنه ليس منافيا للمنطق الأخلاقي التطبيقي القول إن في وسع (تمهيدا للقول: إنه من واجب) الشخص المعني (والأمر يتعلق عند سينغر بمواطني البلدان الثرية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وبلاده أستراليا) أن يتبرع بهذا المبلغ للمنظمات والجمعيات العاملة في مجال إغاثة الأطفال في البلدان الفقيرة، حيث يموت كل عام حوالي عشرة ملايين طفل بسبب الجوع وسوء التغذية والأمراض التي كان يمكن الوقاية منها بسهولة لو توفرت أبسط وسائل التطعيم والوقاية.

الذي لاحظته في قاعة المحاضرات المزدحمة في كينغز كولدج أن الطلاب، من البريطانيين وسواهم، كانوا متجاوبين مع سينغر وأن أسئلتهم وتعليقاتهم تؤكد أنهم مقتنعون بمبدأ الإيثار، وقد كان بعضهم يستفسر عن الطرق العملية لتطبيقه عندما يدخل مجال العمل ويبدأ في تقاضي راتب شهري.

القدس العربي

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الترامبي العنصرية المجاعة العنصرية المجتمع الدولي المجاعة ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

عبدالباسط عبدالصمد.. صوت مصر الذي أسحر القلوب

عبدالباسط عبدالصمد، ذلك الاسم الذي يسطع في سماء القرآن الكريم، ليس مجرد قارئ للقرآن، بل هو رمز للتلاوة الخاشعة، وصوت مصر الذي وصل إلى كل بقاع العالم، يحمل في طيات صوته أصالة الأمة وعذوبة روحها. 

ولد عبدالباسط في قرية المراعزة بمحافظة قنا عام 1927، في أسرة اهتمت بالقرآن الكريم، فكان جده والده من الحافظين والمجودين، وتربى على حب التلاوة منذ نعومة أظافره. 

لم يكن صغره مجرد مرحلة طفولية، بل كانت بداية رحلة استثنائية مع كتاب الله، فقد أتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن العاشرة، وانطلقت موهبته إلى آفاق لم يصلها كثيرون من قبل.

لم يكن عبدالباسط قارئا عاديا، بل كان فنانا في الأداء، مدققا في مخارج الحروف وأحكام التجويد، صوتا يطرب السامع ويشد انتباهه منذ اللحظة الأولى. 

مع الشيخ محمد سليم حمادة في طنطا، تعلم القراءات السبع وأتقنها، واستمرت دعوته في أصفون المطاعنة، حيث كان الجميع يلتفون حوله للاستماع إليه، ويشيدون بموهبته الفريدة، كانت شهادات أساتذته محل احترام وثقة، وهو ما مهد له الطريق نحو شهرته المستقبلية.

دخل عبدالباسط الإذاعة المصرية عام 1951، بعد أن لفتت تلاواته الأنظار في المولد الزينبي، ومن هنا بدأ صوته ينتشر في كل بيت مصري، وكان الناس يرفعون أصوات الراديو ليستمعوا إلى تلاوته، كأن القرآن نفسه يتجدد في كل مساء. 

انتقلت شهرته بسرعة، فأصبح قارئ مسجد الإمام الشافعي، ثم مسجد الإمام الحسين، وترك خلفه إرثا من التسجيلات الرفيعة والمصاحف المرتلة التي لا تزال تردد صداها في أرجاء العالم الإسلامي.

لم يكن عبدالباسط محصورا داخل مصر، فقد جاب العالم سفيرا للقرآن، يقرأ في أعرق المساجد وأشهرها، من الحرم المكي والمسجد النبوي إلى المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي والمسجد الأموي، مرورا بمساجد آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا. 

وكان حضوره في أي بلد مناسبة بحد ذاته، فاستقبله القادة والشعوب بحفاوة لم تعرف لها مثيلا، فقد كان صوته يحمل رسالة الإسلام والمحبة والروحانية، ويجمع القلوب على حب الله والتعلق بكتابه الكريم.

وفي كل رحلة، كان عبدالباسط يترك أثرا لا ينسى، سواء في الاحتفالات الرمضانية أو الزيارات الرسمية، وكان الناس يقفون على أقدامهم لساعات يستمعون لتلاوته، خاشعين دموعهم تنهمر من خشوعهم وإعجابهم بصوته. 

لم يقتصر تأثيره على الجانب الديني فحسب، بل امتد ليكون رمزا للثقافة المصرية في العالم، وإشارة إلى قدرة مصر على أن تصنع أعظم الأصوات التي تسحر القلوب وتلامس النفوس.

ولم تخل حياته من التكريمات، فقد حصل على العديد من الأوسمة داخل مصر وخارجها، من وسام الاستحقاق السوري إلى وسام الأرز اللبناني والوسام الذهبي الماليزي، وغيرها من الأوسمة، تقديرا لدوره الكبير في خدمة القرآن الكريم ونشره، كما أسس نقابة قراء مصر، وانتخب أول نقيب لهم عام 1984، ليواصل دعمه للحفظة والقراء، ويهتم بشؤونهم بروح وطنية صادقة.

ورغم المرض الذي ألم به في أيامه الأخيرة، ظل عبدالباسط مخلصا لرسالته، محافظا على قيمه وصدقه مع القرآن والجمهور، حتى وافته المنية في 30 نوفمبر 1988. 

وشهدت جنازته مشهدا وطنيا وإنسانيا استثنائيا حضره عدد كبير من الناس وسفراء الدول، تعبيرا عن حب العالم لصوت حمل رسالة القرآن إلى كل مكان.

عبدالباسط عبدالصمد لم يكن مجرد قارئ، بل كان روحا مصرية خالدة، وصوتا لا يزول من ذاكرة الإنسانية، أسطورة تضيء دروب كل من يحب القرآن ويعشق التلاوة الخاشعة. 

وكلما مرت السنوات، يزداد حضوره في وجدان الأمة، ويظل مثالا للأجيال في التفاني والإخلاص والفن الذي يمزج بين الروحانية والجمال، ليبقى عبدالباسط صوت مصر، وصوت القرآن الذي يرن في القلوب كما يرن في الآذان.

مقالات مشابهة

  • ما الذي يحدث للجسم بعد 24 ساعة بلا نوم؟
  • نوبار باشا.. رجل السياسة الذي صنع تاريخ مصر
  • عبدالباسط عبدالصمد.. صوت مصر الذي أسحر القلوب
  • «يوسف… البطل الذي رحل تحت الماء»
  • ليلة سقوط أربيل على الشاشات.. ما الذي حدث في أمسية الإثنين؟
  • المجموعات المسلحة الجديدة التي ظهرت في غزة مؤخرا
  • واشنطن تعتزم تشكيل اللجنة التي ستدير غزة قريباً
  • المهارات التي لا تفصح عنها الشهادة
  • ما المشاكل الفنية التي تواجهها شركة إيرباص؟