أقرأُ باستمتاع هذه الأيام رواية اللبناني ربيع جابر «بيروت مدينة العالم» وأبحث عن الغائب من هذه المدينة البحرية في وعيي المتأخر كقارئ عربي بعيد يحلم بزيارتها لأول مرة، أبحث عن بيروت في القرن التاسع عشر، عن «الزمن القديم النائم في الحجارة» الشاهدة على العقود الأخيرة من ذكريات السلطنة العثمانية.
أقرأ مأخوذًا بفتنة السرد الذي يبدأ من استعادة الروائي لحديثه مع الكونت سليمان دي بسترس عن «حارة البارودي» قبل سنوات قليلة من أفولها، وأفكر بأن أجمل ما يمكنه أن يساعدني في التواصل مع هذه الكتابة الساردة، الكتابة التي تُذيب سيرة الأشخاص في سيرة المكان وتذيب سيرة المكان في سيرورة النص، هو أن أخلِّل أجواء القراءة بمشاهدة مجموعة من الأفلام اللبنانية ذات الطابع المستقل، التي تعرضها منصة نتفليكس عن مدينة بيروت، أو بالأحرى عن حكايات أشخاص وعائلات لبنانية تنتمي إلى هذه المدينة في مراحل معينة من تاريخها، حتى وقعتُ على فيلم «ميراث» للمخرج اللبناني الفرنسي فيليب عرقتنجي.
«ميراث» فيلم يزاوج بين الأسلوب الروائي والوثائقي، بين الأداء التمثيلي وسرد العائلة التاريخي، يحكي سيرة الرحيل عن الوطن الأم واللغة الأم خلال قرن كامل تقريبا من أرشيف عائلة مسيحية، هي عائلة فيليب عرقتنجي الذي يجد نفسه في الأيام الأولى من حرب تموز عام 2006 مضطرًا لمغادرة لبنان للمرة الثالثة في حياته، هاربًا هذه المرة مع زوجته وأطفاله إلى فرنسا التي سيمكثون فيها حتى عام 2010.
على متن السفينة «ليرا بيترا» يتصفح فيليب جواز سفره اللبناني فيُطالع عشرين خِتمًا قُبرصيًا؛ عشرون مرة يغادر وطنه إلى قبرص بحرًا.
يتذكر في عرض البحر نحو المنفى حكايات جدته التي دفعها الخوف مطلع القرن العشرين، إلى الهروب من موطنها، تركيا... الخوف من تهديدات القوميين الأتراك الساخطين على العائلات المسيحية التي وقفت تستقبل بحفاوة وترحيب الجيش الفرنسي في قيليقية، منشدةً النشيد الفرنسي مع الجنود الجدد الهابطين من السفن العسكرية.
ستدور وتدور الرحى في دولاب التاريخ الدائري جاعلةً من حالة الرحيل والمنفى المحلي والخارجي جزءًا طبيعيًا من الهوية الوطنية اللبنانية التي يعيشها إنسان ذلك المكان الملغوم، جغرافيًا وتاريخيا واجتماعيًا، بكل أسباب الحرب وكوامنها، ولذا يمكننا أن نصف الحرب في تاريخ لبنان الحديث بأنها حدث موسمي.
في فيلم «همسات» الذي أخرجه مارون البغدادي عام 1980، تتنقل الشاعرة اللبنانية ناديا تويني بين خرائب الحرب في لبنان الذي تصفه بالوطن المجنون؛ وطن يضحك وهو ينفجر، يرقص وهو ينزف، ويغني وهو يحترق، وفي فيلمه هذا، ميراث، سيقتبس فيليب عرقتنجي من ناديا تويني مقولتها: «البلد ينتحر، في حين يغتالوه».
فيليب عرقتنجي هو الرجل الذي يصور كل شيء وأي شيء قد يصادفه، مهما كان صغيرًا وهامشيًا لا يرقى لمعنى الذكرى لحظة القبض عليه في عدسة الكاميرا، ولكن على أمل أن تكون تلك الأشياء الهامشية الصغيرة مادة لحكاية يمكنه أن يسردها لأطفاله وللناس فيما بعد، حينما تهدأ الحرب ويحلُّ النسيان.
يصور فيليب كل شيء لأنه يخاف على كل شيء، يخاف من النسيان والغياب ومن أشباح الذاكرة القصيرة، ويخاف على طفولته المهجورة المُهجَّرة قسرًا عن شوارع بيروت، «شوارع الحرب اليومية» كما تغني أميمة الخليل.
ولكن ما الطفولة وما الحرب؟ وكيف يمكن الجمع بين الماء والنار، بين الألعاب والأسلحة في درج واحد؟ قد تبدو الطفولة والحرب كلمتين توحيان بالتنافر في اللغة، تبدوان وكأن لا صلة أو وجهًا للمقاربة بين حقليهما الدلاليين في المعجم، ولكن هذا التناقض اللغوي لا يمنع الكلمات المتنافرة في المعجم من أن تخرج عن معانيها قليلًا لتتحاور في الحياة، في حياتنا التي تدور علينا كالخلَّاط الذي يخلط المتناقضات في بعضها.
لم أعش حربًا في طفولتي كما عاش واكتوى بها ملايين الأطفال حول العالم، لكنني عشت الحرب طفلًا في التلفزيون، في الأفلام والروايات، عشتها ومارستها في ألعاب الفيديو وفي الألعاب الفردية التي أنسجها في مخيلتي، وهناك أحببتها ربما. ولم أكن لأصدق أن البطولة تحدث بدون الحرب، كانت البطولة دائمًا بالنسبة لي بحاجة إلى الحرب حتى تتمثل.
تذكرتُ ألعاب الحرب في مشهد يفرغ فيه فيليب أدراج لعبه أمام أطفاله، لكن مقتنيات طفولته التي حرص على تجميعها وصيانتها بالهوس نفسه الذي يصور به كل شيء، لم تكن سوى خردة حرب، حرب حقيقية.
قد يتمنى الابن المُحب، الابن المولع بأبيه، لو يستطيع العودة بالزمن إلى الوراء حتى يعيش طفولته في طفولة أبيه، حتى يتقمص أحلامه. لكن طفولة ذلك الأب، ميراثه الكنز، ليست جميلة دائمًا، ليست الزمن المفقود الذي يبحث الأبناء عنه لو أنهم عرفوه على حقيقته، ولذلك يصور فيليب عرقتنجي كل شيء حتى يمارس بقوة الفن التوثيقي دوره كشاهد حي على هويته وعلى زمن لا يريده أن يتكرر في حياة أبنائه، فالتاريخ لا يعيد نفسه كما سلمنا دائمًا؛ بل من يعيده هو الإنسان نفسه، الإنسان الذي فاتته الحكاية.
سالم الرحبي شاعر وكاتب
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: کل شیء
إقرأ أيضاً:
ضربة إسرائيل القوية التي وحّدت إيران
أصبح الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمر على إيران أحد أبرز الضربات العابرة للحدود في تاريخ المنطقة الحديث. فالعملية، التي تجاوزت كونها استهدافًا لمنصات صواريخ أو منشآت نووية، شملت اغتيالات بارزة وهجمات إلكترونية معقدة. من أبرز تطوراتها اغتيال عدد من كبار القادة الإيرانيين، بينهم اللواء محمد باقري، وفي الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس القوة الجوفضائية أمير علي حاجي زاده.
هذه الاغتيالات تشكل أقسى ضربة تتعرض لها القيادة العسكرية الإيرانية منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988). ومع ذلك، فإن الهجوم يتجاوز كونه عملية عسكرية بحتة؛ فهو تجسيد لعقيدة سياسية بُنِيَت على مدى عقود.
رغم التصريحات الإسرائيلية التي تصف العملية بأنها إجراء استباقي لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، فإن المنطق الإستراتيجي العميق يبدو أكثر وضوحًا: زعزعة استقرار الجمهورية الإسلامية وصولًا إلى انهيارها.
فلطالما اعتبر بعض الإستراتيجيين الإسرائيليين والأميركيين أن الحل الوحيد لاحتواء الطموحات النووية الإيرانية يكمن في تغيير النظام. وهذه الحملة تندرج في هذا التوجه القديم، لا فقط عبر الوسائل العسكرية، بل من خلال ضغوط نفسية وسياسية واجتماعية داخل إيران.
تُظهر التطورات الأخيرة أن العملية ربما صُمِمَت لإشعال شرارة انتفاضة داخلية. فالخطة مألوفة: اغتيال القادة، حرب نفسية، حملات تضليل، واستهداف رمزي لمؤسسات الدولة.
في طهران، أفادت التقارير بأن الهجمات الإلكترونية المدعومة إسرائيليًا والغارات الدقيقة أصابت مباني حكومية ووزارات، وعطلت مؤقتًا البث التلفزيوني الوطني؛ أحد أركان البنية الإعلامية للجمهورية الإسلامية.
في المقابل، تعكس التصريحات السياسية الإسرائيلية هذا المسار. ففي لقاءات مغلقة وتصريحات صحفية محددة، أقر المسؤولون بأن المنشآت النووية الإيرانية المحصنة عميقًا- بعضها مدفون لأكثر من 500 متر تحت جبال زاغروس والبرز- لا يمكن تدميرها دون تدخل أميركي مباشر باستخدام قنابل GBU-57 الخارقة للتحصينات، التي لا تستطيع حملها سوى قاذفات B-2 أو B-52 الأميركية. وغياب هذه الإمكانات جعل القادة الإسرائيليين يقتنعون بأن وقف البرنامج النووي الإيراني لن يتحقق إلا بتغيير النظام.
إعلانهذا السياق يمنح الأفعال العسكرية والسياسية الإسرائيلية بعدًا جديدًا. فبعد الهجمات، كثفت إسرائيل رسائلها الموجهة إلى الشعب الإيراني، ووصفت الحرس الثوري ليس كمدافع عن الوطن، بل كأداة قمع ضد الشعب.
وكانت الرسالة: "هذه ليست حرب إيران، بل حرب النظام." وقد ردد شخصيات من المعارضة الإيرانية في الخارج- كرضا بهلوي نجل شاه إيران السابق، ولاعب كرة القدم السابق علي كريمي- هذا الخطاب، مؤيدين الهجمات، وداعين إلى إسقاط النظام.
لكن يبدو أن الإستراتيجية حققت عكس ما كانت ترجوه. فعوضًا عن إشعال ثورة جماهيرية أو تفكيك الوحدة الوطنية، عززت الهجمات شعورًا عامًا بالتماسك الوطني عبر مختلف التيارات. حتى بعض المنتقدين التقليديين للنظام عبّروا عن غضبهم مما اعتبروه اعتداءً أجنبيًا على السيادة الوطنية. وتجددت في الوعي الجماعي ذكريات التدخلات الخارجية- من انقلاب 1953 بدعم الـCIA، إلى حرب العراق- مفجّرة ردة فعل دفاعية متأصلة.
حتى بين نشطاء حركة "المرأة، الحياة، الحرية"- التي أشعلت احتجاجات وطنية إثر مقتل مهسا أميني عام 2022 أثناء احتجازها- برز تردد واضح في دعم أي تدخل عسكري أجنبي. ومع انتشار صور المباني المدمرة وجثث الجنود الإيرانيين، تراجعت مطالب التغيير السياسي لصالح خطاب الدفاع عن الوطن.
وبرزت شخصيات عامة ومعارضون سابقون للجمهورية الإسلامية يدافعون عن إيران ويُدينون الهجمات الإسرائيلية. فقد صرح أسطورة كرة القدم علي دائي: "أفضل الموت على أن أكون خائنًا"، رافضًا أي تعاون مع الهجوم الأجنبي. أما القاضي السابق والمعتقل السياسي محسن برهاني فكتب: "أُقبّل أيادي جميع المدافعين عن الوطن"، في إشارة إلى الحرس الثوري وبقية القوات المسلحة.
ما بدأ كضربة عسكرية محسوبة ضد أهداف محددة، قد ينتهي بتعزيز النظام لا بإضعافه؛ عبر حشد وحدة وطنية وتكميم الأصوات المعارضة. فمحاولة صنع ثورة من الخارج قد لا تفشل فقط، بل قد تنقلب ضد من خطط لها.
وإذا كان الهدف النهائي لإسرائيل هو تحفيز انهيار النظام، فقد تكون قد قللت من شأن الصلابة التاريخية للنظام السياسي الإيراني، ومن قوة التماسك الذي يولده الألم الوطني.
وبينما تسقط القنابل ويُقتل القادة، يبدو أن النسيج الاجتماعي الإيراني لا يتفكك، بل يعيد نسج نفسه من جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline