يمكن منع القديم من الانتهاء، دون منع الجديد من الابتداء.. تابعنا في المقال السابق مسألة التحولات الاجتماعية والثقافية وأثرها على فنون الغناء التقليدي، وهنا متابعة أخرى لموضوع آخر مهم طرَحَهُ الكاتب بولس أنطون مطر بشأن التنوع الثقافي. ولكن وفي السياق ذاته أوسع دائرة الحوار مع الكاتب مركزا على أوضاع بعض اللغات المحكية والنغمية عندنا في عُمان منوها إلى أهمية سن القوانين اللازمة للمحافظة عليها ووضع الإجراءات العملية لتيسير التوارث وتعميق أثره الاجتماعي والثقافي باعتبار اللغة/ اللهجة حجر الأساس لحماية فنون الغناء التقليدي.

لن أقف طويلا عند النبذة التاريخية التي قدم فيها الكاتب بعض المعلومات عن المنطقة محل الدرس، وهي عبارة عن اقتباسات من التاريخ أو تحليلات وانطباعات شخصية عن المجتمعات التي عاش فيها الكاتب. ولكن وبالإشارة إلى عنوان الفرعي الذي وضعته لهذا المقال سأقف قليلا عند قول الكاتب إن: «مختلف المظاهر والأساليب الخاصة بالموسيقى الشعبية في الخليج مرتبطة بتاريخ الناس وحياتهم، وهي مظاهر وأساليب تحمل في طياتها مؤشرات اجتماعية أو عرقية أو اجتماعية وعرقية معا». ويلفت الكاتب نظرنا إلى أن «الموسيقى الشعبية تجد مكانها دائما في أوساط الناس العاديين وأشدهم بساطة إذ إن الأثرياء يكتفون بالاستماع إلى غناء الآخرين وتقدير فنهم ومواهبهم «ويستثني الكاتب من ذلك السمرة والصوت ويصفها أنها «من الظاهر المقبولة لدى الأمراء والفئات الدنيا على حدٍ سواء».

ربما كان واقع الأداء والمشاركة في الحدث الموسيقي كذلك في بعض دول الخليج، وفي العموم يتوقف الأمر على نوع البيئة الجغرافية والاجتماعية، فالبدو وأهل الريف لا يجدون حرجا في ممارستهم لفنونهم، ولكن في نفس الوقت يترددون كثيرا في ممارسة الفنون الحضرية. وعلى كل حال هناك مشتركات في الفنون القبلية بين كل المجتمعات، وفي السابق وحتى وقتنا هذا من الوجاهة أن يشارك أي فرد من أفراد المجتمع في أداء العيالة/ العرضة أو الرزحة أو الزامل (الهبوت). وكان الوزراء في عهد المغفور له السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- نراهم في صفوف العيالة والرزحة مع المواطنين في الجولات الميدانية.

إن توثيق الألحان التقليدية أو الشعبية مسألة مهمة للغاية، وهذا التوثيق الذي جرى وينبغي أن يستمر يجب أن يؤدي إلى حمايتها بقوة القانون من أي شكل من أشكال التطاول والسرقة كما يفعل البعض تحت عنوان «التطوير أو التحديث» لاغيا حقوق ملكية مبدعيها الأصليين الفكرية والمادية. ومنذ سنوات يجري التعامل مع الأغاني التقليدية أو الشعبية بطرق وأساليب متنوعة، وللكاتب رأي في هذا السياق وقد وصف ذلك» بالعمل التافه (..) حيث يضع شخصا أغنية قديمة في إطار آلات موسيقية حديثة.. فلا يبقى هكذا شيء من أغاني البحر (مثلا)، إذا تصبح أغنيات تجارية تحظى بشيء من النجاح، وتبقى على كل حال بلا أهمية خاصة». والكثير من الباحثين في الموسيقى التقليدية لا يرون غناء ألحان القدماء له أهمية إلا بنفس الطريقة التي مارسوها فيها، حفاظا على خصوصيتها اللغوية لإنها ليست مجرد ألحان يمكن أدائها بأي وسيلة وطريقة متوفرة بل حاملة لغة موسيقية فريدة وأسلوب أداء.

لكن، وللأسف يمكن إعلان انتهاء تلك الفرادة والخصوصية اللغوية من موسيقانا العُمانية والخليج والجزيرة العربية، بسبب موجه «تطوير التراث» والتي لها وعليها في الغناء المعاصر من جهة، وعجزنا من جهة أخرى عن وضع الإجراءات العلمية اللازمة بشأن تحديدها نظريا ثم عمليا وصناعة آلات موسيقية ناطقة بتلك الدرجات النغمية الخاصة.

يقول الكاتب «قد نميل إلى القول عند استماعنا للبحارة إنهم لا يحسنون الغناء وإنهم يخطئون في الأداء. بيد إن تلك الأخطاء التي تتكرر بانتظام وتعود في المكان نفسه من المقاطع ليست أخطاء بل هي على العكس ضرب من القواعد لا توجد في أي من كتب الموسيقى غربية أم شرقية.

لذلك فإن الموسيقي العربي ذا التكوين الكلاسيكي يعجز عن ترديد ألحان هذه الأغاني ترديدا أمينا».

وهكذا، وبالإشارة إلى ما ذكرته للتو بشأن الفقد في اللغة الموسيقية المحلية من جهة، وموجة إعادة غناء الألحان التراثية من جهة أجرى، أتطلع إلى تفعيل قانون حماية حقوق الملكية الفكرية لأصحاب الألحان الأصليين فردا أو مجتمعا، فالتغيير حتما سيطال لغتها الموسيقية وأساليب أدائها، ولا معنى في الحقيقة للمقولة التي تتردد «نطور الألحان التراثية مع المحافظة على الأصل»، والواقع أن أول شيء يتم الاستغناء عنه هو الأصل أي اللغة الموسيقية وقوالبها الفنية التراثية. وهنا نحن أمام إشكاليتين تهددان التراث الغنائي التقليدي. الأولى: بدء انقراض بعض اللغات واللهجات. والثانية، الموجه التراثية في الغناء المعاصر والتطاول على الألحان القديمة واستسهال سرقتها.

إن واقع التنوع الثقافي اللغوي (المحكي والنغمي) متصلين ببعضهما، ومهددان بالانقراض، وإذا فقدت جماعة معينة لغتها المحكية تفقد لغتها النغمية وكل تراثها الغنائي.

وقد شهدت بنفسي في واحد من بحوث الجمع والتوثيق الميداني قبل عدة سنوات كيف إن اللغة البطحرية تموت في بيئتها وتختفي أغانيها وآدابها... وللمقال بقية.

مسلم الكثيري موسيقي وباحث

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من جهة

إقرأ أيضاً:

مصطفى بكري وأسرة تحرير «الأسبوع» يتقدمون بالعزاء لـ الكاتب الصحفي عماد الدين حسين في وفاة والدته

قدم الإعلامي مصطفى بكري، عضو مجلس النواب، وأسرة تحرير صحيفة وموقع «الأسبوع»، التعازي للكاتب الصحفي عماد الدين حسين، رئيس تحرير صحيفة الشروق في وفاة السيدة والدته، سألين المولى عز وجل أن يتغمدها برحمته ويلهم أسرتها الصبر والسلوان.

وفاة والدة عماد الدين حسين

وأعلن الكاتب الصحفي عماد الدين حسين، وفاة والدته السيدة تحية محمد مصطفى عبد القادر الخطيب، مساء اليوم الخميس بمحافظة أسيوط، موضحًا أنها قضت حياتها في طاعة الله، وظلت متمسكة بالعبادة حتى خلال صراعها الأخير مع المرض.

وقال عماد الدين حسين في منشور له عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: «إنا لله وإنا إليه راجعون، توفت إلى رحمة الله تعالى أمي تحية محمد مصطفي عبد القادر الخطيب مساء اليوم الخميس في أسيوط».

وأضاف: «أمي ومنذ وعيت على الدنيا فإن معظم أوقاتها كانت على سجادة الصلاة، وحتى في صراعها الأخير مع المرض كانت تصر على الصوم وفي وغيابها الأخير عن الوعي كانت تجاهد للتيمم ولم ندرك ذلك إلا متأخرا».

وأستطرد: «اللهم اجرنا في مصيبتنا واغفر لها وارحمها وعافها واعف عنها وأكرم نزلها ووسع مدخلها واغسلها بالماء والثلج والبرد، اللهم ادخلها فسيح جناتك».

مكان تشييع جنازة والدة عماد الدين حسين

وأعلن أن تشييع الجنازة بعد صلاة الجمعة غدًا في قرية التمساحية مركز القوصية بمحافظة أسيوط، والعزاء سيكون في ذات المكان بعد غد السبت، مع تحديد موعد العزاء في القاهرة لاحقًا.

اقرأ أيضاًمصطفى بكري: قرار الرئيس السيسي بعلاج الفنانين من كبار السن على نفقة الدولة يستحق كل التقدير

مصطفى بكري يدعو إلى المشاركة في الانتخابات: إذا أردت مجلسا يعبر عن طموحاتك.. أدل بصوتك

مقالات مشابهة

  • حسن المستكاوي: الأرقام التي يحققها صلاح دخلت كتاب تاريخ ليفربول
  • ذكرى رحيل الفنان حسن كامي.. أيقونة الغناء الأوبرالي وحارس التراث الثقافي المصري
  • الخيمة التراثية بنجران تسهم في نقل الموروث الثقافي بين الأجيال
  • بعد التحقيق معه.. قرار عاجل من «المهن الموسيقية» بشأن عاطف إمام عضو المجلس
  • المطربة أنغام البحيري: أستطيع الغناء بكل الألوان الموسيقية
  • مصطفى بكري يُشيد بسرعة ضبط المتهمين بمحاولة اغتيال الكاتب الصحفي عبده مغربي
  • مصطفى بكري وأسرة تحرير «الأسبوع» يتقدمون بالعزاء لـ الكاتب الصحفي عماد الدين حسين في وفاة والدته
  • أسرة صدى البلد تنعى والدة الكاتب الصحفي عماد الدين حسين
  • قراءة في كتاب «وكأنني لازلت هناك» للدكتور صبري ربيحات
  • إسلام زكي لبودكاست "كاسيت": لحنت "مليش بديل" من ١٠ سنين وعمرو دياب مبينساش الأغاني الحلوة