قال كمال خربوش مدير الديوان الوطني لمحو الأمية وتعليم الكبار، أن الإستراتيجية الوطنية لمحو الأمية سمحت بتحرّر 3.640 ملايين جزائري من هذه الآفة. بنسبة 88.97 بالمائة من الإناث وذلك منذ عام 2008.

وفي كلمته لدى افتتاح الموسم الدراسي لفصول محو الأمية احتضنتها ثانوية “عبد الحميد بن باديس” بعين الصفراء. أشار خربوش، إلى أنّ الإستراتيجية الوطنية لمحو الأمية سمحت في الفترة من 2008 إلى 2022 بخفض نسبة الأمية وطنيا.

لتبلغ حاليا 7.4 بالمائة مقارنة بـ 13.91 بالمائة سنة 2014. و22.30 بالمائة سنة 2008.

وأضاف خربوش، أنّ عدّة نتائج إيجابية تحققت بفضل هذه الإستراتيجية وأسّست لمنظومة تعليم الكبار ضمن منظور التربية والتعليم للجميع. باستهدافها خصوصا للمرأة والفتاة وسكان المناطق النائية واهتمامها بالبدو الرحل وفئة ذوي الاحتياجات الخاصة. ونزلاء مؤسسات إعادة التربية والشريحة العمرية بين 15 و49 سنة.

كما أشار ذات المتحدث، إلى أن الجزائر تحصلت عن طريق الديوان الوطني لمحو الأمية وتعليم الكبار. على جائزة اليونسكو الدولية لمحو الأمية سنة 2019 نظير مجهوداتها ونتائجها الكمية والنوعية في هذا المجال.

ووصل عدد المسجلين للموسم الدراسي 2023-2024 على المستوى الوطني، إلى 300.969 مسجّلا موزعين على 9170 قسما (مؤسسات تربوية ومساجد ومراكز للجمعيات ودور الشباب ومقرات أخرى). منهم 91.42 بالمائة إناث و6391 مسجّلاً بمؤسسات إعادة التربية و175 عبر مراكز التدريب للخدمة الوطنية.

وبحسب آخر تقديرات الديوان الوطني لمحو الأمية وتعليم الكبار، يزاول التعليم باللغة الأمازيغية 896 دارسا ودارسة عبر 14 ولاية، بالتزامن، وفي إطار إدماج المتحررين من الأمية عبر مختلف ولايات الوطن يسجّل الديوان حالياً زهاء 748 يواصلون مشوارهم الدراسي عن طريق التعليم عن بعد فيما تستقطب مراكز التكوين المهني 218 متحررا من الأمية.

المصدر: النهار أونلاين

كلمات دلالية: لمحو الأمیة

إقرأ أيضاً:

مصر ضمن الـ10 الكبار اقتصاديا: خارطة طريق من منظور علمي إسلامي واقعي (3)

3- المنطلقات الشرعية للتنمية الاقتصادية المستدامة

في زمن تتسارع فيه وتيرة التحديات البيئية والاقتصادية، وتتعالى الأصوات منادية بضرورة تحقيق تنمية اقتصادية لا تأتي على حساب الأجيال القادمة، يبرز السؤال الجوهري: هل تملك الحضارة الإسلامية رؤية متكاملة للتنمية المستدامة؟

لقد قدمت الشريعة الإسلامية -منذ أكثر من أربعة عشر قرنا- منظومة متكاملة من المبادئ والقيم التي تؤسس لنموذج تنموي فريد، يحقق التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والحفاظ على البيئة، وبينما يجتهد العالم اليوم في البحث عن حلول لأزمة الاستدامة، نجد في التراث الإسلامي كنوزا من الحكمة التشريعية التي تقدم إجابات واضحة ومحددة.

في هذا المقال نستكشف ثمانية منطلقات شرعية أساسية تشكل البنية التحتية الفكرية لنموذج التنمية الاقتصادية المستدامة في الإسلام، هذه المنطلقات ليست مجرد مبادئ نظرية، بل أسس عملية قابلة للتطبيق في واقعنا المعاصر، تحمل في طياتها رؤية حضارية شاملة تتجاوز المفاهيم التقليدية للنمو الاقتصادي إلى آفاق أوسع من التنمية الإنسانية الحقيقية.

المنطق الأول: عندما تصبح التنمية رسالة إلهية

"هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود: 61). بهذه الكلمات الإلهية، لم يمنح القرآن الإنسان مجرد حق السكن في الأرض، بل كلفه بمهمة حضارية عظيمة: أن يكون عامرا لا مدمرا، وبانيا لا هادما، فما معنى أن تحمل لقب خليفة الله في أرضه؟ إنه ليس تشريفا مجانيا، بل تكليف يحمل مسؤولية جسيمة الخليفة لا يملك، بل يدير لا يستنزف، بل يستثمر لا يفكر في جيله فقط، بل في كل من سيأتي بعده.

في عصر التغيرات المناخية وأزمة الموارد، تبدو هذه الرؤية أكثر طلبا من أي وقت مضى عندما تضع الحكومات استراتيجيات التنمية المستدامة، وتقيم المشاريع بمعايير الأثر البيئي، وتستثمر في الطاقة المتجددة؛ فإنها تسير، ربما دون أن تدري، على خطى مبدأ الاستخلاف الذي أرساه الإسلام
وهنا تكمن عبقرية الرؤية الإسلامية للتنمية عندما قال النبي ﷺ: "الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (مسلم)، كان يؤسس لمفهوم المراقبة الإلهية على كل قرار تنموي، وكل استثمار، وكل مشروع.

لكن كيف يمكن تحويل هذا المبدأ السامي إلى واقع معاش؟ الجواب نجده في التجربة الحضارية الإسلامية نفسها في قرطبة، بنى المسلمون نظاما هيدروليكيا معقدا روى المدينة لقرون دون أن يستنزف المياه الجوفية في بغداد، أسسوا بيت الحكمة كأول مركز للبحث العلمي البيئي في دمشق، سنوا قوانين صارمة لحماية الغوطة من التلوث

واليوم، في عصر التغيرات المناخية وأزمة الموارد، تبدو هذه الرؤية أكثر طلبا من أي وقت مضى عندما تضع الحكومات استراتيجيات التنمية المستدامة، وتقيم المشاريع بمعايير الأثر البيئي، وتستثمر في الطاقة المتجددة؛ فإنها تسير، ربما دون أن تدري، على خطى مبدأ الاستخلاف الذي أرساه الإسلام منذ أربعة عشر قرنا.

هكذا يتحول المبدأ الديني إلى أداة عملية، والقيمة الروحية إلى معيار اقتصادي، والرسالة السماوية إلى خارطة طريق للتنمية الحقيقية.

المنطلق الثاني: عندما تصبح التنمية رحمة للعالمين

"كَيْ لَا يَكُونَ دُولَة بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ" (الحشر: 7): بهذه الآية الحاسمة، وضع القرآن الكريم أهم قاعدة في التنمية المستدامة؛ منْع تركز الثروة في يد قلة، وضمان تدفقها العادل بين جميع طبقات المجتمع، فما فائدة نمو اقتصادي يثري الأغنياء ويزيد الفقراء فقرا؟ هذا السؤال الجوهري يجيب عنه الإسلام بوضوح مذهل، حيث التنمية الحقيقية ليست مجرد زيادة في الناتج المحلي الإجمالي، بل تحسن ملموس في حياة كل فرد في المجتمع، وخاصة أضعف الحلقات.

وهنا تظهر عبقرية النظام الاقتصادي الإسلامي عندما فرض القرآن الزكاة كركن من أركان الإسلام، لم يكن يؤسس لنظام خيري فحسب، بل لآلية إعادة توزيع تضمن التدفق المستمر للثروة من الأغنياء إلى المحتاجين. وعندما قال النبي ﷺ: "مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ"(الطبراني)، كان يربط الإيمان نفسه بالعدالة الاجتماعية.

لكن كيف تحول هذا المبدأ إلى واقع حضاري؟ في العصر الأموي والعباسي، شهد العالم أول نظام ضمان اجتماعي شامل في التاريخ. بيت المال لم يكن مجرد خزينة، بل مؤسسة متكاملة تكفل الأيتام والأرامل والعجزة وحتى الحيوانات الضالة في بغداد، بُنيت المستشفيات المجانية والمدارس التي تقدم التعليم والطعام للفقراء.

واليوم تعود هذه المفاهيم لتلهم السياسات الحديثة برامج التأمين الاجتماعي، والحد الأدنى للأجور، وضرائب الثروة التصاعدية، وبرامج الدعم الحكومي؛ كلها تطبيقات معاصرة لمبدأ منع تركز الثروة وضمان العدالة في التوزيع.

هكذا تصبح التنمية المستدامة ليس فقط حفظا للبيئة، بل حفظا للإنسان من ظلم الإنسان، وضمانا لأن تكون ثمار النمو نعمة يتقاسمها الجميع، وليس نقمة يحتكرها القلة.

المنطلق الثالث: عندما يصبح المستقبل أمانة في عنق الحاضر

في القرن السابع الميلادي، ابتكر الإسلام أعظم نظام للعدالة بين الأجيال عرفه التاريخ: الوقف الإسلامي فكرة بسيطة وعبقرية في آن واحد، نحفظ رأس المال للأجيال القادمة، ونستفيد من عوائده في الحاضر.

فما معنى أن تبني مستشفى أو مدرسة موقوفة إلى يوم الدين؟ إنه يعني أن كل جيل يستفيد من الخدمة، ولا أحد يملك الحق في بيعها أو تدميرها أو حرمان الأجيال القادمة منها. هكذا تحول الإسلام من النظرية إلى التطبيق، ومن الوعظ إلى الواقع. وهنا تظهر عبقرية النظام الإسلامي بدلا من ترك الأمر للضمائر الفردية، أسس نظاما مؤسسيا يضمن حقوق الأجيال القادمة بقوة القانون، وعلى سبيل المثال فإن جامعة الأزهر عمرها أكثر من ألف عام، تنفق على طلابها من أوقاف حُبست منذ قرون، ومستشفيات دمشق وبغداد ظلت تعالج المرضى مجانا لقرون من ريع أوقافها.

والمذهل أن هذا النظام تجاوز الأعمال الخيرية ليشمل البنية التحتية حيث أنظمة المياه في إسطنبول، وطرق التجارة في آسيا الوسطى، والجسور في المدن الإسلامية؛ كلها بُنيت بنظام الوقف لضمان صيانتها وتطويرها عبر الأجيال.

واليوم يحاول العالم إعادة اكتشاف هذه الحكمة بصناديق الثروة السيادية، وصناديق التقاعد، ومؤسسات البحث العلمي الممولة بالأوقاف؛ كلها محاولات معاصرة لتطبيق مبدأ حفظ رأس المال للأجيال واستثمار العوائد للحاضر.

هكذا لم يكتف الإسلام بالدعوة للعدالة بين الأجيال، بل أسس النظام المؤسسي الذي يضمنها، محولا الحلم النبيل إلى واقع عملي يستمر عبر القرون.

المنطلق الرابع: عندما يصبح الاعتدال طريقا للاستدامة

يضع القرآن الكريم المعيار الذهبي للاستهلاك المستدام بهذه الآية القاطعة: "وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين" (الأعراف: 31). الاعتدال في كل شيء، والحذر من تجاوز الحد المعقول في استخدام الموارد. فما معنى أن يكره الله المسرفين؟ إنه يعني أن الإفراط في استهلاك الموارد ليس مجرد خطأ اقتصادي، بل خطيئة روحية تبعد الإنسان عن ربه والتبذير ليس مجرد سوء إدارة، بل انتهاك لأمانة الاستخلاف في الأرض، وهنا تظهر دقة التوجيه النبوي عندما قال النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ: "مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فقال سعد: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قال: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ" (ابن ماجة)؛ حتى لو كان الماء متوفرا بلا حدود، فإن الإسراف محرم! هذا هو جوهر الاستدامة: ليس المهم توفر المورد، بل احترامه.

والمثير أن الشريعة الإسلامية وضعت قواعد دقيقة للترشيد؛ قاعدة الثلث للطعام والثلث للشراب والثلث للنفس في الأكل، وقاعدة خير الأمور أوسطها في كل شؤون الحياة، وتحريم التبذير حتى في العبادة، فلا يُستنزف المال في بناء المساجد بإفراط بينما الناس في حاجة.

وعبر التاريخ، كانت هذه القيم تُترجم واقعا حضاريا العمارة الإسلامية تتميز بالبساطة الأنيقة، دون إفراط في الزخرفة أو هدر في المواد، نظم الري الإسلامية كانت تحسب كل قطرة ماء، والفقهاء وضعوا قوانين صارمة لمنع الهدر في الأسواق والصناعات.

تعود هذه الحكمة لتواجه أزمة الاستهلاك المفرط، مفاهيم الاقتصاد الدائري وتقليل النفايات والاستهلاك المسؤول كلها تطبيقات معاصرة لمبدأ النهي عن الإسراف والتبذير الذي أرساه الإسلام منذ قرون، وهكذا تصبح البساطة والاعتدال ليس حرمانا بل حكمة وليس فقرا بل غنى حقيقيا
واليوم تعود هذه الحكمة لتواجه أزمة الاستهلاك المفرط، مفاهيم الاقتصاد الدائري وتقليل النفايات والاستهلاك المسؤول كلها تطبيقات معاصرة لمبدأ النهي عن الإسراف والتبذير الذي أرساه الإسلام منذ قرون، وهكذا تصبح البساطة والاعتدال ليس حرمانا بل حكمة وليس فقرا بل غنى حقيقيا، حيث نحصل على حاجتنا دون أن نستنزف حق الأجيال القادمة.

المنطلق الخامس: عندما يصبح منع الأذى قانون التنمية

"لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ"، بهذه القاعدة الذهبية وضع النبي ﷺ أهم مبدأ في فقه التنمية المستدامة، فلا يجوز لأي مشروع تنموي أن يحقق منفعة لطرف على حساب إلحاق ضرر بطرف آخر، ولا أن يرد الضرر بضرر أكبر.

فما معنى هذا المبدأ في عالم اليوم؟ إنه يعني أن كل مصنع يلوث النهر، وكل مشروع يهدم البيوت، وكل استثمار يضر بالفقراء؛ محرم شرعا مهما كانت أرباحه الاقتصادية، النفع الخاص لا يبرر الضرر العام، والمصلحة الآنية لا تجيز الإضرار بالمستقبل.

وهنا تكمن عمق هذه القاعدة الفقهية عندما طورها الفقهاء إلى الضرر يُزال، ويُختار أهون الشرين، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح، كانوا يؤسسون لنظام متكامل لتقييم المشاريع التنموية. فلا يكفي أن يكون المشروع مربحا، بل يجب أن يكون خاليا من الأضرار، أو على الأقل أن تكون منافعه أكبر بكثير من مضاره.

والأبرع في التطبيق التاريخي الذي كان صارما، فالقضاة المسلمون منعوا إقامة المدابغ قرب المياه لمنع التلوث، وأبعدوا الحِرف المؤذية خارج المدن لحماية السكان، وألزموا أصحاب المصانع بتعويض المتضررين، بل إن الفقهاء وضعوا قوانين دقيقة لتنظيم استخدام المياه ومنع الأضرار بين المزارعين.

واليوم تحاول القوانين الدولية اللحاق بهذه الحكمة، فتقييم الأثر البيئي ودراسات الجدوى الاجتماعية ومبدأ الملوث يَدفع وحقوق المجتمعات المحلية في التنمية؛ كلها تطبيقات معاصرة لقاعدة لا ضرر ولا ضرار التي أرساها الإسلام منذ قرون.

وهكذا تصبح التنمية المستدامة ليس مجرد حسابات اقتصادية، بل موازين أخلاقية دقيقة، حيث كل خطوة تنموية تُوزن بميزان الضرر والنفع، وكل مشروع يُقيّم بمعيار هل سيجلب الخير للجميع، أم سيحقق مصلحة قلة على حساب معاناة كثرة.

المنطلق السادس: عندما يصبح صالح الأمة أولى من مصلحة الأفراد

يضع النبي ﷺ أسس الاقتصاد الاجتماعي بقوله: "النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَأ وَالنَّارِ "(أبو داوود). الموارد الأساسية للحياة ملكية جماعية للأمة، لا يجوز لأحد احتكارها أو منع الناس منها، مهما كانت قوته الاقتصادية أو السياسية. فما معنى أن يكون الناس شركاء في هذه الموارد؟ إنه يعني أن المياه والمراعي والطاقة حق مقدس لكل إنسان، وأن أي تنمية تحرم الفقراء من هذه الحقوق باطلة شرعا، وأن الدولة مؤتمنة على هذه الثروات لتوزعها بالعدل، لا لتبيعها لأعلى مزايد.

وهنا تتجلى عظمة المنهج الإسلامي، فعندما طبق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مبدأ نزع الملكية للمصلحة العامة وأخذ أراض خاصة لتوسيع المسجد الحرام، كان يضع سابقة تاريخية: المصلحة العامة أولى من الملكية الخاصة عند التعارض، وعندما منع بيع الماء في المدينة، كان يحمي حق الفقراء في أهم مورد للحياة.

والرائع هنا أن الفقهاء طوروا هذا المبدأ إلى نظرية متكاملة: قاعدة المصلحة العامة مقدمة على الخاصة، التي أصبحت ركنا أساسيا في الفقه الإسلامي، وقاعدة "تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة"؛ جعلت كل قرار سياسي واقتصادي خاضعا لميزان المصلحة العامة.

وعبر التاريخ، شهدت الحضارة الإسلامية تطبيقات رائعة لهذا المبدأ، فبيت المال كان ينفق على الطرق والجسور والمستشفيات والمدارس، باعتبارها خدمات عامة، والحسبة كانت تراقب الأسواق لمنع الاحتكار وحماية المستهلكين، والأوقاف العامة كانت تمول المشاريع التي تخدم المجتمع ككل.

واليوم تعود هذه المفاهيم في شكل معاصر، الخدمات العامة المجانية، والتأميم للمصلحة العامة، وتنظيم الاحتكارات، وحماية البيئة من التلوث؛ كلها تطبيقات حديثة لمبدأ تقديم المصلحة العامة على الخاصة.

هكذا تصبح التنمية المستدامة ليست مشروعا لإثراء القلة، بل برنامجا لرفاهية الكثرة، حيث كل خطة تنموية تُقاس بمعيار كم ستفيد عامة الناس؟ وكم ستحسن من حياة أضعف الحلقات في المجتمع؟

المنطلق السابع: عندما يصبح الاستثمار عبادة والحفظ أمانة

"وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاما" (النساء: 5)، بهذا التوجيه الحكيم، يضع القرآن الكريم المال في مكانته الصحيحة، هو قوام الحياة وأساس الحضارة، لذلك وجب حفظه من الإضاعة ووجبت تنميته بالطرق المشروعة، وحمايته من أيدي السفهاء المبذرين، فما معنى أن يكون المال قياما للناس؟ يعني أن إضاعة المال ليست خطأ شخصيا فحسب، بل جريمة في حق المجتمع، وأن تنمية المال ليست مجرد سعي للربح، بل مسؤولية حضارية، فالمال المُضيّع مشاريع معطلة، وفرص عمل ضائعة، وخدمات مفقودة.

وهنا تتجلى عبقرية المنهج النبوي عندما نهى النبي ﷺ عن إضاعة المال، لم يقصد البخل، بل الحفظ الحكيم وعندما أقر التجارة والاستثمار، وضع لها ضوابط أخلاقية صارمة لضمان العدالة، ولمنع المضاربات المدمرة.

والمذهل أن الشريعة طورت نظاما متكاملا لحماية المال، حرمت الربا لمنع استغلال المحتاجين، وأباحت المضاربة والمشاركة لتشجيع الاستثمار المنتج، ومنعت القمار والمضاربات العشوائية لحماية الثروات من الضياع وأوجبت الزكاة لمنع كنز المال وتحفيز استثماره.

وعبر التاريخ، أنتجت هذه المبادئ نهضة اقتصادية مذهلة. البنوك الإسلامية الأولى كانت تمول التجارة العالمية بمبادئ الشراكة والمرابحة وأمثالها، وأسواق المال الإسلامية كانت تجمع الاستثمارات الصغيرة لتمويل المشاريع الكبرى، والتجار المسلمون وصلوا إلى أقاصي العالم بفضل نظام ائتماني قائم على الثقة والأمانة.

التنمية المستدامة في المنظور الإسلامي ليست مجرد خطة اقتصادية، بل رسالة حضارية رسالة تقول بإمكان الإنسان أن يعمر الأرض دون أن يفسدها، وأن يحقق التقدم دون أن يظلم، وأن يبني المستقبل دون أن ينسى مسؤوليته أمام الله والتاريخ. والتحدي الحقيقي تحويل هذه المنطلقات من مجرد نصوص نقرأها إلى واقع نعيشه
وتعود هذه المفاهيم اليوم بقوة التمويل الإسلامي ينمو بسرعة كبديل أخلاقي للنظام الربوي والاستثمار المسؤول، يركز على المشاريع النافعة اجتماعيا وبيئيا، وصناديق الاستثمار الإسلامية تحقق عوائد ممتازة مع الالتزام بالضوابط الشرعية، وهكذا يصبح حفظ المال وتنميته ليس مجرد سعي للثراء، بل عبادة لله وخدمة للمجتمع، حيث كل ريال محفوظ ثروة للأجيال، وكل استثمار ناجح خطوة نحو التنمية المستدامة.

المنطلق الثامن: عندما تصبح الجودة عبادة والتميز فريضة

"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ" (الطبراني)، و"إن الله كتب الإحسان على كل شيء" (أبو داوود)، بهذين الحديثين الجامعين، يرفع النبي ﷺ الإتقان من مجرد مهارة مهنية إلى مرتبة العبادة، ويجعل الجودة في العمل طريقا لمحبة الله، فليس المطلوب مجرد إنجاز العمل، بل إتقانه وإحسانه، فما معنى أن يحب الله الإتقان؟ إنه يعني أن العمل الرديء خيانة لله قبل أن يكون خيانة للناس، وأن الإهمال في التنفيذ إساءة للدين قبل أن يكون إساءة للمهنة، فكل جسر مبني بإهمال، وكل مصنع منتج لسلع رديئة، وكل مشروع منجز بلا إتقان؛ انتهاك لهذا المبدأ المقدس.

وتتجلى عمق هذه الفلسفة في التطبيق العملي عندما كان النبي ﷺ يسند المهام، كان يقول: "إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ" (البخاري)، واضعا الكفاءة والجدارة كمعيار وحيد للاختيار، لا المحسوبية أو القرابة.

وعبر التاريخ الإسلامي، أنتج هذا المبدأ عجائب حضارية قبة الصخرة صمدت أربعة عشر قرنا لأنها بُنيت بإتقان، وقنوات الري في الأندلس ما زالت تعمل لأنها صُممت بإحسان، والمخطوطات الإسلامية تذهل العالم بجمالها لأن النساخ تعاملوا مع عملهم كعبادة.

وفي عصرنا الحالي تعود هذه القيم في ثوب جديد؛ إدارة الجودة الشاملة، ومعايير الآيزو، والتحسين المستمر، وهذه كلها تطبيقات عملية لمبدأ الإتقان الذي أرساه الإسلام. والشركات اليابانية والألمانية التي تشتهر بالجودة تطبق عمليا فلسفة "إذا عمل أحدكم عملا فليتقنه"، وهكذا يصبح الإتقان ليس رفاهية يمكن التنازل عنها بل ضرورة حضارية، حيث كل عمل متقن يبني الثقة، وكل منتج جيد يرفع السمعة، وكل مشروع محكم يخدم أجيالا.

وفي الختام، فإن الإسلام قبل أربعة عشر قرنا قد وضع خارطة طريق كاملة للتنمية المستدامة؛ ليس بالشعارات الرنانة أو النظريات المعقدة، بل بمنطلقات واضحة وتطبيقات عملية صمدت أمام اختبار التاريخ، ثمانية منطلقات تبدأ بالاستخلاف في الأرض وتنتهي بالوسطية في النمو وتمر عبر العدالة بين الأجيال، والنهي عن الإسراف، ومنع الضرر، وتقديم المصلحة العامة، وحفظ المال، والإتقان في العمل منطلقات تتكامل لتشكل منظومة حضارية متماسكة.

وبينما يتخبط العالم في أزمات التلوث والفقر وعدم المساواة، يعود للبحث عما اكتشفه الإسلام منذ قرون من مفاهيم الاستدامة والعدالة الاجتماعية والاقتصاد الأخضر والمسؤولية المؤسسية.

فالتنمية المستدامة في المنظور الإسلامي ليست مجرد خطة اقتصادية، بل رسالة حضارية رسالة تقول بإمكان الإنسان أن يعمر الأرض دون أن يفسدها، وأن يحقق التقدم دون أن يظلم، وأن يبني المستقبل دون أن ينسى مسؤوليته أمام الله والتاريخ. والتحدي الحقيقي تحويل هذه المنطلقات من مجرد نصوص نقرأها إلى واقع نعيشه، ومن تراث نفتخر به إلى منهج نطبقه، فإما أن نكون ورثة حقيقيين لهذه الحضارة بتطبيق قيمها، أو مجرد حراس متاحف لتراث عظيم لا نعيشه.

مصادر إثرائية:

- د. عبد الحميد الغزالي، نحو تنمية مستدامة من منظور إسلامي.

- د. عبد الحميد البعلي، فقه الأولويات في الاقتصاد الإسلامي.

- د. نزيه حماد وقاعدة تصرف الإمام على الرعية القواعد الفقهية وتطبيقاتها في الاقتصاد الإسلامي.

مقالات مشابهة

  • تواضع الكبار.. خالد بن محمد بن زايد وحمدان بن محمد بن راشد يتجولان في «دبي مول» (فيديو)
  • أكثر من 10 ملايين ريال لتنفيذ مشروعات خدمية وتطويرية بإبراء
  • مصر ضمن الـ10 الكبار اقتصاديا: خارطة طريق من منظور علمي إسلامي واقعي (3)
  • لافروف: العالم على حافة الانفجار وحوار الكبار قد ينقذ البشرية
  • سقوط "مستريحة القروض" بالمحلة بعد استيلائها على أكثر من 3 ملايين جنيه
  • الأمم المتحدة تصف قتل إسرائيل للمجوعين في غزة بـ "المذبحة"
  • الأمم المتحدة: غزة تشهد مذبحة وتهجير قسري لمحو حياة الفلسطينيين
  • سيارة فاخرة من داكورا موتورز تنافس الكبار.. صور
  • لقاءات توعوية لطلاب جامعة جنوب الوادي حول آليات المشاركة في محو الأمية
  • الرياض في الصدارة.. أكثر من 2.2 مليون رأس من الإبل تجسد أهمية الموروث الوطني وتعزيز الأمن الغذائي