جريدة الوطن:
2025-06-29@08:26:12 GMT

رحاب : سحر صورة الذات

تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT

رحاب : سحر صورة الذات

منذ ما يقرب قرنًا من الزمن دأب ثلاثة صبيان إخوة وعمَّتهم التي كانت تكبرهم بسنوات معدودة أن يلعبوا معًا. وكشأن الأطفال في كلِّ مكان وزمان، بدأ الأولاد ومعهم عمَّتهم في تمثيل مستقبلهم، فكان أحدهم يصنع دمى تُمثِّل قطيعًا من البقر، وكذلك كان أخوه الثاني يفعل، بينما كان الأخ الثالث يصنع دمى من الحجارة تُمثِّل عددًا كبيرًا من الإبل، وكان يفاخر إخوته وعمَّته قائلًا: هذه نياقي، في حين جمعت عمَّتهم قطعًا صغيرة من الخزف تُمثِّل نقودًا فضية كانت شائعة في ذلك الوقت من بدايات القرن العشرين، كانت الفتاة تضع نقودها المزعومة في كيس وتهزه بجوار أذنها فتسمع صوتها الذي يُشبه صوت النقود المعدنية، وكانت تقول لأحدهم هذه فلوسي، فهل تريد (فلوس)؟ واستمر الصبيان وعمَّتهم يمارسون لعبة الرعاة والتاجرة، يحاكون بها المستقبل الذي كان يتشكل في خيالهم، ويكبر معهم يومًا بعد يوم.


أدركتُ اثنين منهم في أواخر أعمارهم وكذلك جمعتني الظروف بعمَّتهم بعد أن صاروا كبارًا، بينما تُوُفِّي الثالث وخلَّف أعدادًا كبيرة من البقر. كبرت الفتاة وتزوجَت تاجرًا وعاشت ثرية جدًّا تمتلك عقارات وأموالًا، وكانت تحكي لي قصَّتها مع أولاد أخيها، الذين حققوا ما كانوا يُمثِّلونه في لعبهم؛ فابن أخيها الذي كانت تعرض عليه النقود صار يملك أعدادًا كبيرة من الإبل، وصار يأتي إليها لتقرضه وتوفِّر لإبله أعلافًا من مزارعها، وعندما تُوُفِّي بعد أن عاش طويلًا، وخلَّف وراءه أكثر من 120 ناقة، ثم لحقت به عمَّته التي عاشت بعده عدَّة سنوات، تركت ثروة كبيرة. لقد تجسَّد المستقبل الذي تخيَّله الفتيان وعمَّتهم، شكَّلوه في عقولهم ببراءة الأطفال ومشاعرهم العفوية، فشربته عقولهم حتى صار صورة عقلية تُوَجِّه أفعالهم وتجسِّد أقدارهم. ولقد مارس أولئك الأطفال لعبة إرسال الأمنيات التي كان الأطفال في تلك الأيام وما بعدها يطلقونها ويكررونها يوميًّا في ألعابهم وحكاياتهم، ودأب الأطفال الأربعة يعيشون واقع الصور الذهنية التي رسَّخها كلُّ واحد منهم لمستقبله، وكان أن تحققت كلُّ تلك الأحلام والأمنيات.
إنَّ الذين يحملون صوَرًا مضيئة للمستقبل في عقولهم هم الفائزون في مسارات الحياة المختلفة؛ لأنَّهم يعرفون جيدًا إلى أين يتجهون، والعالم يفسح الطريق جيدًا للذين يعرفون إلى أين يتجهون. وتُمثِّل الصورة العقلية المفتاح الذهبي لتحقيق التميز والنجاح في جميع مجالات الحياة المختلفة، من دراسة أو عمل أو تدريب أو تجارة، فإذا كنت تحمل صورة ذهنية واضحة ومحدَّدة الملامح؛ فإنَّ عقلك يتفاعل معها. وتُمثِّل الخريطة العقلية المحرِّكة لها، فجميع الأفعال والتصرفات والاتجاهات تنطلق غالبًا من الصورة العقلية التي تبلورها التجارب والخبرات ويتمُّ ترسيخها في العقل الباطن للفرد، ويستطيع كلُّ إنسان يشرع الآن في بناء الصورة العقلية لمستقبله، وتعتمد الصورة الذهنية للفرد على الإدراك الذي يتبلور من مفهوم الذَّات لدَيْه، وما يحمل في عقله من معتقدات وقناعات.
عندما كنَّا ندرس في المرحلة الابتدائية كان لي زميل يُدعى (سالم)، وكنَّا نتبادل الحديث عن أحلامنا التي نتخيَّل تحقيقها، وكان ذلك الزميل يسرد لي أحلامه التي تتمثل في أن يكُونَ طيَّارًا عسكريًّا برتبة كبيرة، وعندما انتهى من دراسة المرحلة الثانوية في ثمانينيات القرن العشرين لم يتردد كثيرًا، بل سجَّل فورًا في سلاح الجوِّ السُّلطاني وخاض جميع مراحل التدريب بكفاءة وتفوّق وصار طيَّارًا وتمَّ تكريمه من بين أفراد دفعته. جدير بكُلِّ إنسان أن يضعَ لنفْسِه صورة عقلية إيجابية وأن يتخيَّلَها ويعيشَها ويندمجَ معها بالخيال والمشاعر واتخاذ خطوات عملية حتى تتجسَّدَ واقعًا ملموسًا.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية

المصدر: جريدة الوطن

إقرأ أيضاً:

حرب الاعتماد على الذات

نوضح قبل البداية أن استعمال لفظ الشعب العربي مجملا غير مفصل هو من قبيل المجاز الذي يسهل القول ويقلل اللفظ في النص ليس إلا، فالعرب شعوب اختلفت ولم تتآلف وبأسها بينها شديد، ولنقلها بصوت مسموع.. العرب مخترقون بكل الأفكار والمطامع، وتوحيدهم في لفظ شعب واحد يدخل في باب اللغو، ولم تزدنا الحرب الأخيرة إلا يقينا بأن الوحدة وهم غطى به العرب خيبات كثيرة.

ها نحن نشهد حربا إقليمية أخرى تضع أوزارها وترتب نهايتها، وتحدد مصائر من شارك فيها، وقد شارك فيها العرب بكلام كثير، وهم اللحظة في وضع المراقب عل بعض الفيء يقع بين أيديهم بالصدفة. هناك درس متاح وليس من فيء المعارك؛ تحارب الشعوب من أجل مصالحها القومية ولا تنفق دمها من أجل غيرها، فلِمَ لا يتعلم العرب أن يخوضوا معاركهم بأنفسهم من أجل مصالحهم فلا يكونون من جُمّاع الفيء من معارك الآخرين؟

التواكل القاتل

إن الدروس تتراكم منذ قرن ولا أحد يستخلص العبرة. سيطول بنا الحديث لو عدنا إلى الثورة العربية الكبرى التي اعتمد فيها بعض العرب على الإنجليز لتحريرهم من الترك، فاكتشفوا أنهم ليسوا أكثر من ألعوبة في يد الذكاء الإنجليزي الجبار. ولكن العرب الذين استقلوا عن الاستعمار المباشر بجهدهم وحدهم ارتدوا إلى خطأ الأسلاف بالاعتماد على رفيق خارجي. كان الاتحاد السوفييتي الاشتراكي صديق الشعوب هو الأقرب إلى مشاعرهم فوضعوا بيضهم في سلته، فغدر بهم في معارك مصيرية كانوا محتاجين إلى سلاحه ودعمه السياسي في عالم مقسوم بين معسكرين، وبتبيّن غدره لم يتوبوا عن التواكل، بل مالوا إلى عدوهم الأكبر فقالوا إن 99 في المائة من أوراق الحل بين يديه فإذا هم مهزومون يتسولون السلام من العدو، ولم يتدربوا على طرح السؤال: ماذا لو اعتمدنا على أنفسنا في صناعة قوتنا بأيدينا؟

في ميل بعض العرب إلى مناصرة إيران في حربها الدفاعية الأخيرة أمام الكيان سعي آخر إلى البحث عن نصير من خارج العرب، نصير يخوض معركة العرب بدلا منهم فيحررهم، وربما يشكرونه على حسن صنيعه بهم. لكن إيران خاضت حربها طبقا لأجندتها الإيرانية
في ميل بعض العرب إلى مناصرة إيران في حربها الدفاعية الأخيرة أمام الكيان سعي آخر إلى البحث عن نصير من خارج العرب، نصير يخوض معركة العرب بدلا منهم فيحررهم، وربما يشكرونه على حسن صنيعه بهم. لكن إيران خاضت حربها طبقا لأجندتها الإيرانية ولم تنظر في أنصارها العرب فتعدل بعض ردهات المعركة من أجلهم. نعم كانت مناصرة إيران في صد العدوان عليها من قبل كيان ظالم واجب أخلاقي سام، لكن مع الوعي بأن المعركة يخوضها الإيرانيون من أجل بلدهم لا من أجل العرب، لا بل يمكننا التدليل على أن العرب كانوا بعض الوقود المجاني في حرب ليست لهم بل عليهم. أين الدروس المستفادة من الخدائع السابقة؟ لا أحد تعلم واعتمد.

نتابع ما بعد المعركة

نجد العرب مشغولين بسؤال لا يعنيهم مباشرة: هل انتصرت إيران أو انهزمت؟ وهو سؤال يثير حروبا لفظية في السوشيال ميديا، ولا يُطرح من قبيل التعلم إلا لدى عدد قليل مغمور بالضوضاء العالية فلا يُسمع ولا يُطاع.

لقد حصلت إيران على مَنَعة رغم ما أصابها، وهذا من جنس مَنَعة حركة طالبان الافغانية بعد هروب الأمريكي من بلادهم، حيث سقط التهديد بالقوة بعد اختبارها وانكشاف عجزها (طبقا لقاعدة يطبقها الجميع وإن نسبها العرب إلى أنفسهم: الضربة التي لا تقصم الظهر تقويه). لم يعد ممكنا في ما نرى أن يتجرأ الأمريكي الآن على حركة طالبان الحاكمة، لقد سكت إعلام مطاردة برقع الأفغانيات ولغو حقوق الإنسان والحداثة على ما يجري في أفغانستان. سيتم الأمر نفسه في إيران بل بشكل أوضح، فإيران بعد الضربة لم تفقد كل قوتها الداخلية ولن يعود اللغو الغربي عن حقوق المرأة والديمقراطية ليزعج إيران، فضلا على أنها نجت بثمرة اجتهادها العلمي (المدخر النووي)، وستسير بلا ضغوط نحو استكمال مشروعها وترمم عمرانها وتتحول إلى قوة إقليمية لا يهضم جانبها. والعرب في كل هذا يتجادلون "انهزمت إيران.. لا بل انتصرت".

إيران مشغولة بمستقبل إيران وهذه قناعة تجلت ويجب أن تتحول إلى درس، مثلما أن تركيا مشغولة بتركيا وباكستان مشغولة بباكستان. إن النداءات العالية التي صدرت من غزة تطلب نجدة الأمة العربية والاسلامية فلم يُستجب لها تعني أولا أن الفلسطيني سيحمل قضيته بنفسه حتى نصره أو شهادته، وأن العربي من حولها معني بتحرير نفسه
ما زال بعض العرب الطيبين يظنون أن أي طاولة تفاوض مع الإيرانيين ستضع فيها إيران غزة والقدس على الطاولة وتستخلص لها بعض الحق، وهذا مدخل كبير للوهم نابع من مرض التواكل العربي؛ الذي قالت لنا غزة قبل هذه الحرب إه وهْم وأن الحل في الاعتماد على النفس بأقل القليل من القوة، ولكن بوضوح الرؤية والاعتماد. إن القفز فوق دبابة ورمي برميل بارود داخلها يعتبر أولا وقبل كل حساب درسا سياسيا يقطع مع انتظار كل نجدة خارجية أو الاستعانة بصديق، فهذه ليست لعبة من يربح المليون.

إيران مشغولة بمستقبل إيران وهذه قناعة تجلت ويجب أن تتحول إلى درس، مثلما أن تركيا مشغولة بتركيا وباكستان مشغولة بباكستان. إن النداءات العالية التي صدرت من غزة تطلب نجدة الأمة العربية والاسلامية فلم يُستجب لها تعني أولا أن الفلسطيني سيحمل قضيته بنفسه حتى نصره أو شهادته، وأن العربي من حولها معني بتحرير نفسه دون لغو الإسناد بالسوشيال ميديا ودعاء المساجد وأكثره تباك لترضية الضمير الكسول.

ماذا لو نفكر بالديمقراطية؟

إن الحل الغزاوي غير ممكن في غير غزة، هذه قناعة يؤكدها ما سبق من دخول تحت الأرض قبل بدء المعركة. لا نرى العرب يحفرون الأنفاق فالعدو الكامن بينهم ليس واضحا وضوح عدو غزة، ولذلك فالاعتماد مختلف. العدو الكامن هو من رمى قافلة الدعم المغاربية بتهم "التخونج" ليعيق تقدمها، فيحمي من أثرها الفعلي والرمزي نظاما يحمي الكيان بسلاحه حتى لا يضار من أحد. هذا العدو الداخلي يحارب بشوارع واعية بقضيتها، وقضيتها حريتها أولا، قبل أن تنظر إلى غزة، حريتها طريقها إلى نفسها فإذا تحررت بلغت غزة في أي زمن، وغزة ستظل محتاجة لمن يزورها ولو بعد دهر طويل.

معارك الحرية في كل قُطر هي السبيل إلى تحصيل المنعة ودون الحاجة إلى سلاح ردع، فالردع الأقوى هو الوعي بطبيعة العدو المتسلل عبر وسائل خبيثة، منها على سبيل التندر وضع قضايا المثلية قبل قضايا التنمية الاقتصادية. وهذا العدو يحارب بالحرية المفضية بالقوة إلى الحكم الديمقراطي، وهو الحكم الرشيد الذي تؤلَّف فيه الكتب وتوضع على الرفوف فلا تتحول إلى برامج تنفيذية على الأرض. (وكم عندنا من كتب جميلة الشكل والمضمون مركونة في المكتبات).

هذه هي المَنَعة السياسية المفضية إلى المنعة الاقتصادية المثبتة للمنعة السياسية (دائرة القوة والمجد) دون ردع نووي. فالعدو الذي نُخَوَّف به منذ قرن كفتنا إياه غزة ونراه يرتعش ويحزم حقائبه على أول طائرة. من بدأ بمعركة الحريات فقد اهتدى إلى الطريق.

مقالات مشابهة

  • عن عروس لبنان التي قضت بغارة إسرائيلية في الجنوب.. ماذا قالت سيرين عبد النور؟
  • رحاب الجمل تشعل الأضواء في "الست لما" مع يسرا... وتبدأ التصوير وسط كوكبة من النجوم!
  • صورة متداولة لقاذفة B-2 الأمريكية عند ضرب منشآت إيران النووية.. هذه حقيقتها
  • مش عارف ده شبهي ولا الـ AI ولا أنا .. أحمد العوضي في حيرة بسبب صورة
  • حرب الاعتماد على الذات
  • مثلث حماس يثير الجدل في صورة موظفي تسلا.. وتصرف غريب من الشركة
  • حقيقة صورة الزعيم عادل إمام برفقة لبلبة
  • لبلبة تنفي صورة اللقاء المفبرك مع عادل إمام: مش أنا دي ولا ده الأستاذ
  • إيران: خسائر إسرائيل في الحرب كانت كبيرة
  • لبلبة تنفي صورة مفبركة تجمعها بعادل إمام: “أنا في الفيوم منذ أسابيع”