جريدة الوطن:
2025-12-08@08:30:36 GMT

رحاب : سحر صورة الذات

تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT

رحاب : سحر صورة الذات

منذ ما يقرب قرنًا من الزمن دأب ثلاثة صبيان إخوة وعمَّتهم التي كانت تكبرهم بسنوات معدودة أن يلعبوا معًا. وكشأن الأطفال في كلِّ مكان وزمان، بدأ الأولاد ومعهم عمَّتهم في تمثيل مستقبلهم، فكان أحدهم يصنع دمى تُمثِّل قطيعًا من البقر، وكذلك كان أخوه الثاني يفعل، بينما كان الأخ الثالث يصنع دمى من الحجارة تُمثِّل عددًا كبيرًا من الإبل، وكان يفاخر إخوته وعمَّته قائلًا: هذه نياقي، في حين جمعت عمَّتهم قطعًا صغيرة من الخزف تُمثِّل نقودًا فضية كانت شائعة في ذلك الوقت من بدايات القرن العشرين، كانت الفتاة تضع نقودها المزعومة في كيس وتهزه بجوار أذنها فتسمع صوتها الذي يُشبه صوت النقود المعدنية، وكانت تقول لأحدهم هذه فلوسي، فهل تريد (فلوس)؟ واستمر الصبيان وعمَّتهم يمارسون لعبة الرعاة والتاجرة، يحاكون بها المستقبل الذي كان يتشكل في خيالهم، ويكبر معهم يومًا بعد يوم.


أدركتُ اثنين منهم في أواخر أعمارهم وكذلك جمعتني الظروف بعمَّتهم بعد أن صاروا كبارًا، بينما تُوُفِّي الثالث وخلَّف أعدادًا كبيرة من البقر. كبرت الفتاة وتزوجَت تاجرًا وعاشت ثرية جدًّا تمتلك عقارات وأموالًا، وكانت تحكي لي قصَّتها مع أولاد أخيها، الذين حققوا ما كانوا يُمثِّلونه في لعبهم؛ فابن أخيها الذي كانت تعرض عليه النقود صار يملك أعدادًا كبيرة من الإبل، وصار يأتي إليها لتقرضه وتوفِّر لإبله أعلافًا من مزارعها، وعندما تُوُفِّي بعد أن عاش طويلًا، وخلَّف وراءه أكثر من 120 ناقة، ثم لحقت به عمَّته التي عاشت بعده عدَّة سنوات، تركت ثروة كبيرة. لقد تجسَّد المستقبل الذي تخيَّله الفتيان وعمَّتهم، شكَّلوه في عقولهم ببراءة الأطفال ومشاعرهم العفوية، فشربته عقولهم حتى صار صورة عقلية تُوَجِّه أفعالهم وتجسِّد أقدارهم. ولقد مارس أولئك الأطفال لعبة إرسال الأمنيات التي كان الأطفال في تلك الأيام وما بعدها يطلقونها ويكررونها يوميًّا في ألعابهم وحكاياتهم، ودأب الأطفال الأربعة يعيشون واقع الصور الذهنية التي رسَّخها كلُّ واحد منهم لمستقبله، وكان أن تحققت كلُّ تلك الأحلام والأمنيات.
إنَّ الذين يحملون صوَرًا مضيئة للمستقبل في عقولهم هم الفائزون في مسارات الحياة المختلفة؛ لأنَّهم يعرفون جيدًا إلى أين يتجهون، والعالم يفسح الطريق جيدًا للذين يعرفون إلى أين يتجهون. وتُمثِّل الصورة العقلية المفتاح الذهبي لتحقيق التميز والنجاح في جميع مجالات الحياة المختلفة، من دراسة أو عمل أو تدريب أو تجارة، فإذا كنت تحمل صورة ذهنية واضحة ومحدَّدة الملامح؛ فإنَّ عقلك يتفاعل معها. وتُمثِّل الخريطة العقلية المحرِّكة لها، فجميع الأفعال والتصرفات والاتجاهات تنطلق غالبًا من الصورة العقلية التي تبلورها التجارب والخبرات ويتمُّ ترسيخها في العقل الباطن للفرد، ويستطيع كلُّ إنسان يشرع الآن في بناء الصورة العقلية لمستقبله، وتعتمد الصورة الذهنية للفرد على الإدراك الذي يتبلور من مفهوم الذَّات لدَيْه، وما يحمل في عقله من معتقدات وقناعات.
عندما كنَّا ندرس في المرحلة الابتدائية كان لي زميل يُدعى (سالم)، وكنَّا نتبادل الحديث عن أحلامنا التي نتخيَّل تحقيقها، وكان ذلك الزميل يسرد لي أحلامه التي تتمثل في أن يكُونَ طيَّارًا عسكريًّا برتبة كبيرة، وعندما انتهى من دراسة المرحلة الثانوية في ثمانينيات القرن العشرين لم يتردد كثيرًا، بل سجَّل فورًا في سلاح الجوِّ السُّلطاني وخاض جميع مراحل التدريب بكفاءة وتفوّق وصار طيَّارًا وتمَّ تكريمه من بين أفراد دفعته. جدير بكُلِّ إنسان أن يضعَ لنفْسِه صورة عقلية إيجابية وأن يتخيَّلَها ويعيشَها ويندمجَ معها بالخيال والمشاعر واتخاذ خطوات عملية حتى تتجسَّدَ واقعًا ملموسًا.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية

المصدر: جريدة الوطن

إقرأ أيضاً:

فيلم «القيمة العاطفية»: جماليات التعبير السينمائي تعكس أزمات الذات والآخر

طاهر علوان -

في الحياة كما على الشاشة تبرز الشخصية كعنصر أساس في الأحداث وفي الدراما وفي تأسيس المواقف وطرح وجهات النظر والأفكار. إنها المنتجة لتلك الكثافة التعبيرية والوعي والنفاذ إلى الحقائق كل بطريقته الخاصة.

ولأن الشخصية بصفة عامة تعيش روتينها اليومي فإن براعة السينمائي في كيفية تحويل ذلك الروتين اليومي إلى قيمة درامية وجمالية مبتكرة ومؤثرة، النظر إلى حياة الشخصية ومسارها ويومياتها على أنها تلك خواص غامضة وعميقة وغير مكتشفة وغير ظاهرة على السطح من هنا ندرك الخط الفاصل ما بين ركام الأفلام التي نشاهدها حلال السنوات الأخيرة والتي تعجز أدواتها عن سبر أغوار الشخصية وبالبقاء على السطح والهامش في مقابل ندرة من الأفلام التي تبتكر وتجدد وتحافظ على الجودة وهو ما نبحث عنه على الدوام. من هنا يمكننا النظر إلى هذا الفيلم النرويجي للمخرج يواكيم ترير الذي يقدم لنا شخصيات من الحياة تعيش يومياتها كالمعتاد لكنها يوميات مثقلة بالتجليات الذاتية والذكريات ويلعب الماضي دورا مؤثرا فضلا عن الصلة بالآخر، المجتمع والصلة بالمكان.

ها هو المنزل البسيط الذي تعيش فيه الاختان نورا- قامت بالدور رينيت رينسيف واغنيس- قامت بالدور انكا ليلياس، هنا ثمة حياة كاملة ضاربة جذورها بعمق في وعي ولا وعي الشخصيات وفي ماضيها وفي إرباكات الطفولة ابتداء من ذلك الجدل الحاد والصراخ ما بين الأب ــ السينمائي والأم الطبيبة النفسية والذي ينتهي بعودة الأب إلى بلده السويد فيما تمكث العائلة في البيت القديم في النرويج، المنزل بوصفه الوحدة المكانية الأساسية يتحول إلى مسرح أو صالة عرض للشخصيات وخاصة بالنسبة لنورا الأكثر حساسية وتمردا وجموحا. سوف تتعمق عقدة غياب الأب بالنسبة للفتاتين وخاصة بالنسبة لنورا، ربما سنحيلها إلى عقدة اليكترا مثلا لكننا لن نحيد عن تلك النظرة العميقة للذات والأشياء لاسيما وان غياب الأب وذكريات الطفولة غير السارة لن تحول دون وقوف نورا على المسرح وفيما جمهور حاشد بانتظار إطلالتها على المسرح لتنتابها حالة من الذعر ويستعصي عليها التنفس، كان توقيت هذا المشهد في الربع ساعة الأولى من الفيلم الممتد لأكثر من ساعتين لكنه كان كافيا لحبس أنفاسنا وتفاعلنا مع حالة شبه الانهيار للممثلة البارعة.

لقد صرنا مع توالي السرد الفيلمي أمام ثنائية الأختين، الوجهين العاطفيين المختلفين، نورا بشخصيتها الحادة والمنفعلة والصريحة في مقابل اغنيس الوديعة الهادئة التي تجاوزت أزمات الطفولة وتزوجت وانجبت طفلا وهو ما يلتقطه الأب وهو يحاور نورا.

وها هي اغنيس تمضي إلى ما هو أبعد بتمثيل دور في فيلم من إخراج والدها لكن نورا سوف ترفض فيلما كاملا مكرسا لها من إخراج والدها أيضا، وليتكامل الثلاثي الأنثوي بحضور راشيل ــ تقوم بالدور الممثلة ايل فاننك، التي سوف يرشحها الاب ــ المخرج غوستاف بورغ بدلا عن نورا لكنها تهوي إلى قاع الشخصية وتعيش محنتها وتنهار باكية وتتمثل أدق أحاسيسها لتدرك أخيرا أن السيناريو مكتوب لنورا وليس لأي شخص آخر ولهذا تنسحب معتذرة.

يمزج المخرج ببراعة بين الأزمة ويقطع الأحداث ويتنقل بين الأزمنة ويصدمنا بالتحولات في نوع من التكامل البصري والفكري الذي يجعل المشاهد يقظا متفاعلا لأكثر من ساعتين، وخلال ذلك يستخدم زوايا كثيرة جدا ومستويات تصوير وطبقات إضاءة في مزيج فريد عزز البناء الدرامي ووظف السرد الفيلمي وكأنه نسق روائي جدير بالقراءة والتأمل.

لقد حظي الفيلم باهتمام كبير من طرف النقاد لا سيما بعد النجاح الذي حققه في مهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة، وفي هذا الصدد يقول الناقد برايان تاليريكو في موقع روجر ايبيرت « انه منزلٌ عائليٌّ تفتح أبوابه على جهدٌ جبارٌ في الأداء. هنا التاريخ، والذاكرة، والتعبير، والفن، والصدمة - كلها منسوجةٌ في دراما المخرج ترير الآسرة، فيلمٌ يُذكرنا بانغمار بيرغمان أكثر من أي فيلمٍ آخر صنعه حتى الآن. إنه فيلم يتسلل إليك كخيال عظيم، يمزج بين الموضوع والشخصية بطريقة تسمح له بالعيش في ذهنك بعد مشاهدته، متسائلاً عما يعنيه لكل من الشخصيات وحياتك الخاصة.

استطيع أن أقول أن هذا الفيلم هو إنجازٌ في الأداءِ وكتابةِ السيناريو، فضلا عن ضرورة الإشادةِ بالتصويرِ السينمائيِّ السلسِ لكاسبر توكسين والمونتاجِ المثاليِّ لأوليفييه بوج كوتيه. يتعاون المخرج ترير معهم لإضفاء زخم سينمائي قوي لأكثر من ساعتين، مانحًا الفيلم لغة بصرية واثقة دون لفت الانتباه إليه بشكل مبالغ فيه».

أما الناقد ريتشارد كوهيل فيكتب في موقع اوكسفورد أس فيقول « هذا الفيلم هو أحد هذه الجواهر الخفية. بعد نجاح فيلمه الروائي الطويل الأخير، والذي رُشِّح لجائزة الأوسكار، «أسوأ شخص في العالم»، أعاد المخرج ترير كلاً من الكاتب المشارك إسكيل فوغت والممثلة الرئيسية رينات راينسفي إلى دراما جديدة.

تكمن قوة فيلم في الصورة الدقيقة والمعقدة لأبطاله الأربعة.

يتميز أداؤهم بدقة متناهية تجبر المشاهد على الانتباه جيدًا للغة الجسد وتعابير الوجه، مما يعني أن الفيلم ينغمس تمامًا في أحداثه.

إنه فيلمٌ دقيقٌ وعميقٌ، نجح في تجسيد ديناميكيات شخصياته المعقدة بشكلٍ آسرٍ.. يُظهر الفيلم أن التنفيذ الدقيق والسيناريو المُحكم هما كل ما تحتاجه لسرد قصصٍ آسرة. في وقتٍ تُراهن فيه هوليوود بشكلٍ متزايد على الكمّ على الكيف، يحتاج المشاهدون إلى بذل قصارى جهدهم لدعم أصواتٍ بديلةٍ مثل صوت ترير لضمان استمرارية صناعة الأفلام المستقلة».

هذه الخلاصات المهمة تعطينا صورة تعود لمجد السينما الإسكندنافية والسويدية تحديدا على يد المخرج الكبير انغمار بيرغمان وروائعه وتحفه السينمائية الخالدة، وتجد في هذا الفيلم امتدادا وبعضا من تلك الخميرة، خميرة الصنعة والإتقان والمهارة في رسم المسارات الدرامية والبناء السردي والحبكات الثانوية. هنا الشخصيات تعيش ذاتها كما هي وأزماتها بلا ضجيج، تعابيرها كافية ونظرة العين تختصر الكثير من الحوارات.

خلال ذلك هنالك معطيات غزيرة من الناحية الفكرية والجمالية، وهنالك محنة الإنسان، التوالي المر للذاكرة الحزينة ، غوستاف ــ الأب شابا وهو يواجه عاصفة موت الأم أو انتحارها، صفحات من أيام الحرب العالمية الثانية، أرشيف يكفي لتطلع عليه اغنيس وليس نورا لأنها لو اطلعت عليه لزادت الأزمات تفاقما.

المخرج ترير لا يكتفي بسرد الحكاية وتقديم الشخصيات بل انه يجد القواسم المشتركة الإنسانية العميقة، الإحباط والحزن والأنانية والشك والخوف والعزلة كلها تحتشد وتحوم حول الشخصيات وحيث تتناغم الشخصيات في تلك الدائرة مع انها وهي في اكثر المشاهد تصعيدا وفي اشد مواقف الشخصيات سخطا ما تلبث أن تعود إلى سيرتها الأولى، تحن إلى الماضي الأجمل ومثال ذلك كلمات معدودة من اغنيس لأختها، «إنك بعد رحيل أمي غسلت لي شعري ومشطتيه وأخذتني إلى المدرسة» ليؤسس لمشهد شديد العاطفية بين الأختين وهما في ذروة أزمتهما مع الأب ليجدا أن الحل يمكن أن يكون بالرضا والتسامح وترك عجلة الحياة تدور.

سيناريو وإخراج: يواكيم ترير

شارك في كتابة السيناريو: ايسكيل فوكت

تمثيل: رينيت رينسيف في دور نورا، ستيلان سكارغارد في دور الأب ــ المخرج غوستاف بورغ، انكا ليلياس في دور الشقيقة اغنيس، ايل فاننك في دور راشيل

مدير التصوير: كاسبر توكسين

موسيقى: هانيا راني

مقالات مشابهة

  • آخر أخبار حسام حبيب.. طَرَح أغنية جديدة وأثَار الجدل من خلال صورة
  • مسابقات توعوية للحد من خطر المؤثرات العقلية
  • فيلم «القيمة العاطفية»: جماليات التعبير السينمائي تعكس أزمات الذات والآخر
  • مباراة الاختبار.. فرصة للبدلاء لإثبات الذات في الزمالك
  • جميري: أعمالي فصول سردية تستكشف الذات
  • لكننا.. لوكان كُنَّا!
  • مهربة ومنتهية الصلاحية.. ضبط كمية كبيرة من مرقة الدجاج (صورة)
  • بورسعيد حزينة.. أول صورة للطفل زياد الذي توفي بعد اصطدام باب المعدية بالرصيف
  • بث مباشر لشعائر صلاة الجمعة من رحاب مسجد السيدة زينب
  • أزهري: العقلية المحمدية نموذج شامل للحياة والسلوك