منذ ما يقرب قرنًا من الزمن دأب ثلاثة صبيان إخوة وعمَّتهم التي كانت تكبرهم بسنوات معدودة أن يلعبوا معًا. وكشأن الأطفال في كلِّ مكان وزمان، بدأ الأولاد ومعهم عمَّتهم في تمثيل مستقبلهم، فكان أحدهم يصنع دمى تُمثِّل قطيعًا من البقر، وكذلك كان أخوه الثاني يفعل، بينما كان الأخ الثالث يصنع دمى من الحجارة تُمثِّل عددًا كبيرًا من الإبل، وكان يفاخر إخوته وعمَّته قائلًا: هذه نياقي، في حين جمعت عمَّتهم قطعًا صغيرة من الخزف تُمثِّل نقودًا فضية كانت شائعة في ذلك الوقت من بدايات القرن العشرين، كانت الفتاة تضع نقودها المزعومة في كيس وتهزه بجوار أذنها فتسمع صوتها الذي يُشبه صوت النقود المعدنية، وكانت تقول لأحدهم هذه فلوسي، فهل تريد (فلوس)؟ واستمر الصبيان وعمَّتهم يمارسون لعبة الرعاة والتاجرة، يحاكون بها المستقبل الذي كان يتشكل في خيالهم، ويكبر معهم يومًا بعد يوم.
أدركتُ اثنين منهم في أواخر أعمارهم وكذلك جمعتني الظروف بعمَّتهم بعد أن صاروا كبارًا، بينما تُوُفِّي الثالث وخلَّف أعدادًا كبيرة من البقر. كبرت الفتاة وتزوجَت تاجرًا وعاشت ثرية جدًّا تمتلك عقارات وأموالًا، وكانت تحكي لي قصَّتها مع أولاد أخيها، الذين حققوا ما كانوا يُمثِّلونه في لعبهم؛ فابن أخيها الذي كانت تعرض عليه النقود صار يملك أعدادًا كبيرة من الإبل، وصار يأتي إليها لتقرضه وتوفِّر لإبله أعلافًا من مزارعها، وعندما تُوُفِّي بعد أن عاش طويلًا، وخلَّف وراءه أكثر من 120 ناقة، ثم لحقت به عمَّته التي عاشت بعده عدَّة سنوات، تركت ثروة كبيرة. لقد تجسَّد المستقبل الذي تخيَّله الفتيان وعمَّتهم، شكَّلوه في عقولهم ببراءة الأطفال ومشاعرهم العفوية، فشربته عقولهم حتى صار صورة عقلية تُوَجِّه أفعالهم وتجسِّد أقدارهم. ولقد مارس أولئك الأطفال لعبة إرسال الأمنيات التي كان الأطفال في تلك الأيام وما بعدها يطلقونها ويكررونها يوميًّا في ألعابهم وحكاياتهم، ودأب الأطفال الأربعة يعيشون واقع الصور الذهنية التي رسَّخها كلُّ واحد منهم لمستقبله، وكان أن تحققت كلُّ تلك الأحلام والأمنيات.
إنَّ الذين يحملون صوَرًا مضيئة للمستقبل في عقولهم هم الفائزون في مسارات الحياة المختلفة؛ لأنَّهم يعرفون جيدًا إلى أين يتجهون، والعالم يفسح الطريق جيدًا للذين يعرفون إلى أين يتجهون. وتُمثِّل الصورة العقلية المفتاح الذهبي لتحقيق التميز والنجاح في جميع مجالات الحياة المختلفة، من دراسة أو عمل أو تدريب أو تجارة، فإذا كنت تحمل صورة ذهنية واضحة ومحدَّدة الملامح؛ فإنَّ عقلك يتفاعل معها. وتُمثِّل الخريطة العقلية المحرِّكة لها، فجميع الأفعال والتصرفات والاتجاهات تنطلق غالبًا من الصورة العقلية التي تبلورها التجارب والخبرات ويتمُّ ترسيخها في العقل الباطن للفرد، ويستطيع كلُّ إنسان يشرع الآن في بناء الصورة العقلية لمستقبله، وتعتمد الصورة الذهنية للفرد على الإدراك الذي يتبلور من مفهوم الذَّات لدَيْه، وما يحمل في عقله من معتقدات وقناعات.
عندما كنَّا ندرس في المرحلة الابتدائية كان لي زميل يُدعى (سالم)، وكنَّا نتبادل الحديث عن أحلامنا التي نتخيَّل تحقيقها، وكان ذلك الزميل يسرد لي أحلامه التي تتمثل في أن يكُونَ طيَّارًا عسكريًّا برتبة كبيرة، وعندما انتهى من دراسة المرحلة الثانوية في ثمانينيات القرن العشرين لم يتردد كثيرًا، بل سجَّل فورًا في سلاح الجوِّ السُّلطاني وخاض جميع مراحل التدريب بكفاءة وتفوّق وصار طيَّارًا وتمَّ تكريمه من بين أفراد دفعته. جدير بكُلِّ إنسان أن يضعَ لنفْسِه صورة عقلية إيجابية وأن يتخيَّلَها ويعيشَها ويندمجَ معها بالخيال والمشاعر واتخاذ خطوات عملية حتى تتجسَّدَ واقعًا ملموسًا.
د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
هل تشعر أنك تخدع الجميع؟ قد تكون مصابا بـمتلازمة المحتال
يعاني كثير ممن يتميزون بالتفوق المهني أو الأكاديمي، من صوت داخلي يلاحقهم باستمرار قائلا "أنا لا أستحق هذا النجاح"، والذي يُعرف نفسيا بـ"متلازمة المحتال" (Impostor Syndrome)، وهي حالة شائعة أكثر مما يُعتقد، بحسب ما توضحه عالمة النفس الألمانية إنغريد جيرستباخ.
تقول جيرستباخ إن هذه المتلازمة تصيب الأفراد الذين يشككون في كفاءاتهم وإنجازاتهم، ويعيشون تحت وطأة خوف دائم من انكشاف "حقيقتهم المزعومة" أمام الآخرين، فيُنظر إليهم كمخادعين لا يستحقون مكانتهم، رغم وجود أدلة واضحة على جدارتهم.
وتضيف أن المصابين بهذه المتلازمة غالبا ما ينسبون نجاحاتهم إلى عوامل خارجية، مثل الحظ أو تضليل الآخرين حول ذكائهم، بدلا من الاعتراف بقدراتهم وجهودهم.
كيف تتغلب على متلازمة المحتال؟للتعامل مع هذه الحالة النفسية المثقلة بالشكوك الذاتية، توصي جيرستباخ باتباع مجموعة من التدابير التي قد تساعد في بناء الثقة بالنفس وتثبيت الإنجازات الواقعية:
إنشاء قائمة أدلة شخصية: ينبغي للمرء أن يخصص وقتا دوريا لتوثيق 3 مواقف حقق فيها نجاحا ملموسا، مهما بدت بسيطة. ثم يقوم بتحليل العوامل التي أسهمت في تحقيق هذا النجاح من مهارات أو قرارات أو اجتهاد. هذه الخطوة تساعد في إعادة برمجة العقل الباطن للاعتراف بالجهد الحقيقي المبذول بدلا من نسبة النجاح للحظ. تطوير "شعار داخلي مضاد": حين يعلو صوت المشكك الداخلي ويبدأ في بث رسائل الإحباط، ينصح بتكرار عبارة إيجابية موجهة مثل: "أنا أستحق هذا الإنجاز لأنني استعددت له جيدا". هذا التكرار اللفظي في المواقف الضاغطة يخلق شعورا مضادا، ويساعد في تقوية الذات وتقليل الإجهاد العقلي المصاحب للمواقف الصعبة. اختبار الشعور بعدم الأمان في بيئة آمنة: يمكن تعزيز الثقة بالنفس عبر مواجهة المخاوف الصغيرة في سياقات مألوفة. على سبيل المثال، يمكن تقديم فكرة في اجتماع صغير أو مشاركة رأي ضمن فريق عمل. هذا النوع من التمرين الواقعي يساعد في إثبات الكفاءة أمام الذات، ويخفف تدريجيا من وطأة الشكوك الذاتية.إذا استمرت هذه المشاعر دون تحسن، خاصة إن رافقتها أعراض مثل القلق، أو الاكتئاب، أو التوتر المزمن، أو انخفاض حاد في تقدير الذات، فإن الخطوة التالية ينبغي أن تكون استشارة طبيب نفسي متخصص.
إعلانوتشير جيرستباخ إلى أن العلاج السلوكي المعرفي يعد من أنجح الأساليب في التعامل مع متلازمة المحتال، إذ يساعد الشخص على تحدي الأفكار السلبية المترسخة، وتطوير إستراتيجيات فعالة لتثبيت الإنجازات والثقة في القدرات الشخصية.