شبكة اخبار العراق:
2025-12-08@09:50:14 GMT

التّعالُق المجازي بين الذات والموضوع

تاريخ النشر: 12th, October 2023 GMT

التّعالُق المجازي بين الذات والموضوع

آخر تحديث: 12 أكتوبر 2023 - 10:44 صعبد علي حسن منذ زمن ليس بالقصير ربما يمتد إلى أزمان تضرب في عمق التاريخ البشري، والإنسان يحاول أن يجعل العلاقة بينه وبين الموجودات الأخرى التي تشاركه الحياة من نبات وحيوان وجماد وأخرى معنوية وحتى رموزه الدينيّة التي اتخذت توصيف الآلهة في الأحقاب الوثنية والأسطورية حاول أن يجعل تلك العلاقة أنموذجية ترتقي إلى مستوى محو الحدود لتغدو ذاته هي ذات تلك الموجودات، يجري كل ذلك عبر تحريك المشترك بينها وبين ذاته وفق علائق مجازية تكسبها حياة تقترن بحياة الإنسان، فكانت الأنسنة التي امتدت صلاتها وآفاقها الفكرية والعلمية إلى شتى مناشط الإنسان، ومنها الأدب شعراً ونثراً.


والأنسنة تعني وفق المفاهيم الشائعة لغة واصطلاحاً، البحث عن صفات الإنسان في الكائن المغاير له فيزيولوجيا، سواء كان ملموساً كالحيوان والنبات والجماد أو غيبيّاً كالمفاهيم والأشياء المجردة، ومن ثمَّ هي كل من يخلع عليه صفة بشريّة، أو يمثله في صورة بشريّة، بما في ذلك إسناد الفعل البشري له، عبر تقنية المجاز التي عرفت بها لغة العرب، ويمكن تقصي ذلك في آداب وادي الرافدين وشعر ما قبل الاسلام وفي القرآن الكريم وقصص الحيوان التي شكّلت الموروث السردي والشعري العربي.
إنَّ هذه الصلة بين الإنسان وسائر الموجودات تشكّلُ تعالقاً مجازياً بين الذات الإنسانيّة والموضوع الذي يتشكّلُ من المحيط الحافّ بالإنسان وفعله وتفكيره، وهنا تتجلّى رغبة الإنسان في أن تشاركه الأشياء في تكوين منظوماته الجماليّة والفكريّة وموقفه منها، ومن خلال هذا التعالق المجازي الذي يقدم فيه النص الشعري نفسه على أنّه نص شمولي يخرج من منطقة اللحظة الشعرية المقترنة بزمان ومكان معينين إلى فضاء لا زمكاني أوسع ليصل إلى التعبير عن مكنونات الذات الشعريّة مستعيراً المفاهيم القارّة للأشياء الحافّة به فيؤنسنها لتتوحد تلك المفاهيم التي يقوم النص بتحريكها عبر التقويل والتفعيل للصفات الإنسانية واسباغها على تلك الأشياء، وسيتبدى ذلك في تحليلنا لبعض من نصوص الكتاب الشعري (أغاني الصموت) اصدار دار الصواف للطباعة والنشر/ 2018 للشاعر ولاء الصوّاف الذي سبق وأن أصدر ديوانه الأول (كاميكاز) 2000، و(كفن شهريار) 2007 و(كلب ينبح فوق الغيم) 2022، إذ تضمن كتابه الشعري موضوع البحث موضوعة الأنسنة في العديد من نصوص المجموعة التي اخترنا منها ثلاثة نصوص لتكون عينة لمعالجته موضوعة العلاقة بين ذاته الشاعرة وما يحيط به من نبات أو حيوان أو جماد أو مفاهيم مجردة لتدخل في تعالق أسهمت تقنية المجاز البلاغي في تخليق وحدة وجوديّة بين الذاتي والموضوعي تجلّت فيها البنية الشعرية على نحو مؤثر وجمالي فضلاً عن تحقيقها الابعاد الفكرية التي تنفرد بها الذات الشاعرة عبر توسّلها بالموجودات الموضوعية لتتحدث وتفعل في فضاء شعري يتجاوز المحسوس والملموس إلى ما هو أبعد من الحقائق الفيزيقية المنظورة وصولاً إلى وضع المتلقي في دائرة تأويلية تنتج فيها نصوص المتلقي.ففي نص (أرجوحتي) نقرأ ما يلي: (منذُ خمسينَ قطافاً أو يزيد/ أهزّها مرةً/ وصوتُ الحربِ يهزّها ثانية/ تأخُذني للغيم/ وتُعيدُني  إلى الأرضِ الحرام.. النص ص 7).
في النص السالف تشكّلُ الأرجوحة بنية مركزية ذات دلالة تشير  إلى قوّة إرادتها مقابل الإرادة المسلوبة للذات الشاعرة، ولتأكيد هذه السلطة والإرادة فإنّ النص يسندُ إلى الأرجوحة فعل (الأخذ) و(الإعادة)، وهذان الفعلان يشيران إلى حركة الصعود والنزول المعهودة في الأرجوحة، إلّا أنّ الذات الشاعرة تسند فعلاً واعياً ينسجم وتجربة الحرب التي تخوضها الذات، فتبدو عملية الأخذ فعلاً مقصوداً وكذلك عملية الإعادة، وكأنَّ الأرجوحة بهذين الفعلين إنسان ما أو شخص يمارس التلاعب بإرادة الذات المسلوبة التي لا تملك إلّا الإذعان لهذا التلاعب الذي يغريه بالنجاة تارة حين يأخذه للغيم بعيداً عن فواعل التهديد الوجودي ويعيده تارة أخرى في أتون الحرب وفي الأرض الحرام تحديداً وهي منطقة قلّما ينجو أحدٌ فيها، فقد أسند النص هذين الفعلين الانسانيين إلى الجماد وهو الأرجوحة، كما أنّ النص يسند فعل الهزّ إلى موجود معنوي وهو (صوت الحرب) الذي يهزّ الأرجوحة ثانيةً بالتناوب مع الذات الشاعرة، وفي كلا الاسنادين يظهر المجاز كفعل بلاغي اتحدت فيه الذات مع الموجودات الموضوعية لتعميق الأسى في ما تعانيه الذات وهي تخوضُ حرباً أياً كان نوعها، وهنا يكتسب النص شموليته وخروجه عن دائرة الزمكان، إذ إن أنسنة الأرجوحة وصوت الحرب قد أسهمت في تحقيق علاقة وجوديّة أسفرت عن الإحاطة بتجربة المعاناة من المواجهة والتحدي غير المتكافئ بين الذات والآخر.
 وفي نص (هل تكتم السر؟) ص23 تؤثثُ الموجودات الحيوانيّة والنباتيّة المؤنسنة الفضاء الشعري للنص، إذ تتركُ الذات الشاعرة سائر الموجودات النصيّة تمارس فعلها المؤنسن في تحريك فواعل البنى الشعريّة التي كوّنتها داخل دائرة المعنى الذي أراد النص تثبيته، فمنذ السطر الأول للنص يُسندُ فعل القول للطير الذي ينقلُ القول للغيم الذي بدوره ينقله للذات الشاعرة التي بدورها تحفظ القول وتكتمه ولم تقله حتى لنبي مفترض يتنقل في أرض السواد من دون أن نعرف كنه ذلك القول الذي احتكم لموجهات عنوان النص وبأنّ هنالك سرّاً ينبغي كتمانه: (ما قاله الطير للغيم.. ما قاله الغيم لي/ ومالك اقله لنبيٍّ بضفيرة حمراء يجوب السواد..).
وهكذا يبدأ النص بترسيم علاقات مجازية بين الموجودات الطير/ الغيم، لتخلق بنية السرّ الذي تواتر بين الطير – الغيم – الذات الشاعرة، ويستمرُّ النصّ في أنسنة موجودات أخرى ذات صلة بالفضاء الذي تأسّس في السطور الاولى، فيلجأ النص إلى رسم مشهد روحاني يستمد عناصره من المخيال الديني: (هنا/ رائحةُ البخورِ تمزّقُ وحدةَ الريح/ تعلو النذورُ.. ويهبطُ اليمام).
فيسند النص فعل التمزيق لرائحة البخور التي تبدد وتفرّقُ الريح بفعل العلو لتصل إلى اليمام الذي يشعر بالأمان فيهبط إلى الأرض بسلام، وتستمر الذات الشاعرة في إشراك عدد آخر من الموجودات الموضوعيّة ليدخل في علائق مجازيّة عبر أنسنتها، ففي السطور المقبلة يسند النص النخلة وهو واحد من الرموز الراكزة في الذاكرة الجمعيّة والدينيّة لما تشكّله من مصدر غذائي أساسي في بلاد وادي الرافدين فيسند إليها فعل لبس لامة الحرب لتسهم في الحرب الدائرة ضد قوى غير منظورة على مستوى سرديّة النص: (ونخلتُنا البتول/ تبدو من بعيد كطفلة تلبس لامة الحرب/ وتمسكُ بيدها عشبة الخلود/ أو كزهرةٍ في زيّ محارب/ انتهى عصرُ فتوّتِها ليمارسَ عليها الموت طقوس التّجلي).
كما وتشركُ الذات الشاعرة موجوداً نباتياً آخر وهو (الزهرة) ليسندَ لها لبس زي الحرب، إلّا أنها لا تقوى على فعل الحرب لشيخوختها لتتعالق مع الموت في طقس صوفي، ويدخل النص في علاقة تناصيّة مع القرآن الكريم وتحديدا مع الآية 261 من سورة البقرة (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مئة حبة..) فالزهرة قضت نحبها وهي تدافع عن فعل الخير الذي كان يقوم به «أبو» الذات الشاعرة: (قضت وهي تذود/ عن شرف سبع سنبلات خضر/ هنَّ كلُّ ما رآه أبي).
ففي النص السالف (هل تكتم السر؟) تعالقات الذات الشاعرة مع ثلاثة أنواع من الموجودات تعالقاً مجازياً، إذ أسند الأفعال والأقوال الإنسانية إلى الحيوان والنبات والغيم، لتسهم كلّ هذه الموجودات الموضوعيّة عبر الأنسنة في الحرب ضد قوى شريرة لم يشأ النص الإخبار عنها تحديداً ليمارس النص فعله وتأثيره الشمولي.
وفي النص الثالث (متّهمٌ بالهديل) ص46 تتعالق الذات مع الموجودات تعالقاً يمنح تلك الموجودات طاقة شعريّة تسفر عن تخليق المعاني المتجاوزة للحس المنظور صوب بنائية شعرية تفصح عن المضمر حين تكتسب تلك الموجودات الصفات الإنسانيّة قولاً أو فعلاً وحتى مشاعر، وبدءاً من العنوان (متّهم بالهديل) الذي يشير إلى تعالق معكوس بين الذات والحمام عبر إسناد فعل الهديل إلى الذات الانسانية، واكتساب صفة الحمام الصوتية (الهديل) ليبوح ما شاء له البوح للتعبير عن حالة الأسى التي انتظمت كل مساحة النص، ويمكن حصر الموجودات المؤنسنة التي أسند إليها النص أفعالاً ومشاعر إنسانية وتعالقات مجازياً مع الذات الشاعرة في الآتي: كالأزقة/ العباءات/ الماء/ الكف/ الحروب، إذ أسهمت أنسنة الموجودات الآنفة الذكر في تفعيل علاقة الذات مع الموضوع تفاعلاً مكّنَ النص من تخليق بُنى متعددة شكّلت بمجموعها رؤية النص لما يجري في باطن الواقع/ المضمر، فإسناد (الدفء) لتشعر به الأزقة إشارة إلى براءة وأصالة الأزقة التي استشعرتها الذات الشاعرة كأساس ومرجع لبناء الشخصية منذ الطفولة، كما أن إسناد مشاعر الإحساس بالخجل من الفقر للعباءات السود واكتسابها اللون الأحمر لأنها أصبحت باليةً وقديمة، وكذلك إسناد فعل المرور ونثر القتلى على عتبات البيوت للحروب ووفق سياقات مجازية قد اكسبت تلك الصور الشعرية قيمة بلاغية مؤثرة وتعالقت مع الذات الشاعرة لتحقيق طبيعة الصلة القائمة بين الإنسان وهذه الموجودات المؤثرة في تفاصيل حياته: (لذكرى الأزقة الدافئة/ للعباءات السود المحمرة خجلاً/ للحروب التي مرت من هنا/ ونثرا قتلاها على عتبات البيوت..).
 كما أن إسناد فعل الاستيقاظ للماء إشارة إلى بنية الجدب واليباس الحياتي، وتأخر استيقاظه وظهور التحول بسبب من أن الكف التي تنز بالماء لا تزال نائمة في كربلاء في إشارة إلى معاناة الإمام الحسين عليه السلام وآل بيته من شدة العطش: (متى يستيقظ الماء؟/ ربما بعد حين/ لأنَّ الكفّ التي تنزُّ عطشاً/ للآن تنام في كربلاء).
لقد تمكن النصّ عبر أنسنة الموجودات الموضوعيّة التي أشرنا إليها من تحقيق شمولية الوضع الإنساني المزري والمتعطش دوما إلى حياة أُخرى بديلاً لهذا الجدب والتصحّر الحياتي. إذ إن الموجودات التي اختارتها الذات الشاعرة وعبر أنسنتها هي موجودات ذات صلة وثيقة بالذات التي تحولت إلى توق إنساني شامل للنضال ضد عوامل القهر لإقامة حياة إيجابيّة وإنسانيّة.من خلال ما تقدم من بحث في العلاقة بين الذات الشاعرة والموجودات الموضوعية عبر خاصيّة الأنسنة في ديوان (اغاني الصموت) للصواف، إذ لم يتوقف البحث عند تأشير مواطن الأنسنة في النصوص وانما تجاوز ذلك إلى جوهر السؤال النقدي وهو الكيفية التي تم فيها ذلك التعالق وأثر المجاز في هذه العلاقة وهو ما اكسب النصوص شعريتها؟ وكذلك نوعية الموجودات ومناسبتها لتحقيق المجاز في تلك العلاقة، إذ تمكنت النصوص من الوصول إلى تخليق الفضاء الشعري الذي تحركت فيه تلك الموجودات من نبات أو حيوان أو جماد أو أشياء معنوية تجاوزت الحس والمنظور واكتسابها الفعل والقول الإنساني عبر آليّة المجاز لتسهم وعبر العلاقة مع الذات الشاعرة في تحقيق رسالة النصوص أولاً ولإلفات النظر إلى أهمية هذه الموجودات المجاورة لوجود الإنسان على هذه البسيطة.

المصدر: شبكة اخبار العراق

كلمات دلالية: فی النص ة النص ة التی

إقرأ أيضاً:

فيلم «القيمة العاطفية»: جماليات التعبير السينمائي تعكس أزمات الذات والآخر

طاهر علوان -

في الحياة كما على الشاشة تبرز الشخصية كعنصر أساس في الأحداث وفي الدراما وفي تأسيس المواقف وطرح وجهات النظر والأفكار. إنها المنتجة لتلك الكثافة التعبيرية والوعي والنفاذ إلى الحقائق كل بطريقته الخاصة.

ولأن الشخصية بصفة عامة تعيش روتينها اليومي فإن براعة السينمائي في كيفية تحويل ذلك الروتين اليومي إلى قيمة درامية وجمالية مبتكرة ومؤثرة، النظر إلى حياة الشخصية ومسارها ويومياتها على أنها تلك خواص غامضة وعميقة وغير مكتشفة وغير ظاهرة على السطح من هنا ندرك الخط الفاصل ما بين ركام الأفلام التي نشاهدها حلال السنوات الأخيرة والتي تعجز أدواتها عن سبر أغوار الشخصية وبالبقاء على السطح والهامش في مقابل ندرة من الأفلام التي تبتكر وتجدد وتحافظ على الجودة وهو ما نبحث عنه على الدوام. من هنا يمكننا النظر إلى هذا الفيلم النرويجي للمخرج يواكيم ترير الذي يقدم لنا شخصيات من الحياة تعيش يومياتها كالمعتاد لكنها يوميات مثقلة بالتجليات الذاتية والذكريات ويلعب الماضي دورا مؤثرا فضلا عن الصلة بالآخر، المجتمع والصلة بالمكان.

ها هو المنزل البسيط الذي تعيش فيه الاختان نورا- قامت بالدور رينيت رينسيف واغنيس- قامت بالدور انكا ليلياس، هنا ثمة حياة كاملة ضاربة جذورها بعمق في وعي ولا وعي الشخصيات وفي ماضيها وفي إرباكات الطفولة ابتداء من ذلك الجدل الحاد والصراخ ما بين الأب ــ السينمائي والأم الطبيبة النفسية والذي ينتهي بعودة الأب إلى بلده السويد فيما تمكث العائلة في البيت القديم في النرويج، المنزل بوصفه الوحدة المكانية الأساسية يتحول إلى مسرح أو صالة عرض للشخصيات وخاصة بالنسبة لنورا الأكثر حساسية وتمردا وجموحا. سوف تتعمق عقدة غياب الأب بالنسبة للفتاتين وخاصة بالنسبة لنورا، ربما سنحيلها إلى عقدة اليكترا مثلا لكننا لن نحيد عن تلك النظرة العميقة للذات والأشياء لاسيما وان غياب الأب وذكريات الطفولة غير السارة لن تحول دون وقوف نورا على المسرح وفيما جمهور حاشد بانتظار إطلالتها على المسرح لتنتابها حالة من الذعر ويستعصي عليها التنفس، كان توقيت هذا المشهد في الربع ساعة الأولى من الفيلم الممتد لأكثر من ساعتين لكنه كان كافيا لحبس أنفاسنا وتفاعلنا مع حالة شبه الانهيار للممثلة البارعة.

لقد صرنا مع توالي السرد الفيلمي أمام ثنائية الأختين، الوجهين العاطفيين المختلفين، نورا بشخصيتها الحادة والمنفعلة والصريحة في مقابل اغنيس الوديعة الهادئة التي تجاوزت أزمات الطفولة وتزوجت وانجبت طفلا وهو ما يلتقطه الأب وهو يحاور نورا.

وها هي اغنيس تمضي إلى ما هو أبعد بتمثيل دور في فيلم من إخراج والدها لكن نورا سوف ترفض فيلما كاملا مكرسا لها من إخراج والدها أيضا، وليتكامل الثلاثي الأنثوي بحضور راشيل ــ تقوم بالدور الممثلة ايل فاننك، التي سوف يرشحها الاب ــ المخرج غوستاف بورغ بدلا عن نورا لكنها تهوي إلى قاع الشخصية وتعيش محنتها وتنهار باكية وتتمثل أدق أحاسيسها لتدرك أخيرا أن السيناريو مكتوب لنورا وليس لأي شخص آخر ولهذا تنسحب معتذرة.

يمزج المخرج ببراعة بين الأزمة ويقطع الأحداث ويتنقل بين الأزمنة ويصدمنا بالتحولات في نوع من التكامل البصري والفكري الذي يجعل المشاهد يقظا متفاعلا لأكثر من ساعتين، وخلال ذلك يستخدم زوايا كثيرة جدا ومستويات تصوير وطبقات إضاءة في مزيج فريد عزز البناء الدرامي ووظف السرد الفيلمي وكأنه نسق روائي جدير بالقراءة والتأمل.

لقد حظي الفيلم باهتمام كبير من طرف النقاد لا سيما بعد النجاح الذي حققه في مهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة، وفي هذا الصدد يقول الناقد برايان تاليريكو في موقع روجر ايبيرت « انه منزلٌ عائليٌّ تفتح أبوابه على جهدٌ جبارٌ في الأداء. هنا التاريخ، والذاكرة، والتعبير، والفن، والصدمة - كلها منسوجةٌ في دراما المخرج ترير الآسرة، فيلمٌ يُذكرنا بانغمار بيرغمان أكثر من أي فيلمٍ آخر صنعه حتى الآن. إنه فيلم يتسلل إليك كخيال عظيم، يمزج بين الموضوع والشخصية بطريقة تسمح له بالعيش في ذهنك بعد مشاهدته، متسائلاً عما يعنيه لكل من الشخصيات وحياتك الخاصة.

استطيع أن أقول أن هذا الفيلم هو إنجازٌ في الأداءِ وكتابةِ السيناريو، فضلا عن ضرورة الإشادةِ بالتصويرِ السينمائيِّ السلسِ لكاسبر توكسين والمونتاجِ المثاليِّ لأوليفييه بوج كوتيه. يتعاون المخرج ترير معهم لإضفاء زخم سينمائي قوي لأكثر من ساعتين، مانحًا الفيلم لغة بصرية واثقة دون لفت الانتباه إليه بشكل مبالغ فيه».

أما الناقد ريتشارد كوهيل فيكتب في موقع اوكسفورد أس فيقول « هذا الفيلم هو أحد هذه الجواهر الخفية. بعد نجاح فيلمه الروائي الطويل الأخير، والذي رُشِّح لجائزة الأوسكار، «أسوأ شخص في العالم»، أعاد المخرج ترير كلاً من الكاتب المشارك إسكيل فوغت والممثلة الرئيسية رينات راينسفي إلى دراما جديدة.

تكمن قوة فيلم في الصورة الدقيقة والمعقدة لأبطاله الأربعة.

يتميز أداؤهم بدقة متناهية تجبر المشاهد على الانتباه جيدًا للغة الجسد وتعابير الوجه، مما يعني أن الفيلم ينغمس تمامًا في أحداثه.

إنه فيلمٌ دقيقٌ وعميقٌ، نجح في تجسيد ديناميكيات شخصياته المعقدة بشكلٍ آسرٍ.. يُظهر الفيلم أن التنفيذ الدقيق والسيناريو المُحكم هما كل ما تحتاجه لسرد قصصٍ آسرة. في وقتٍ تُراهن فيه هوليوود بشكلٍ متزايد على الكمّ على الكيف، يحتاج المشاهدون إلى بذل قصارى جهدهم لدعم أصواتٍ بديلةٍ مثل صوت ترير لضمان استمرارية صناعة الأفلام المستقلة».

هذه الخلاصات المهمة تعطينا صورة تعود لمجد السينما الإسكندنافية والسويدية تحديدا على يد المخرج الكبير انغمار بيرغمان وروائعه وتحفه السينمائية الخالدة، وتجد في هذا الفيلم امتدادا وبعضا من تلك الخميرة، خميرة الصنعة والإتقان والمهارة في رسم المسارات الدرامية والبناء السردي والحبكات الثانوية. هنا الشخصيات تعيش ذاتها كما هي وأزماتها بلا ضجيج، تعابيرها كافية ونظرة العين تختصر الكثير من الحوارات.

خلال ذلك هنالك معطيات غزيرة من الناحية الفكرية والجمالية، وهنالك محنة الإنسان، التوالي المر للذاكرة الحزينة ، غوستاف ــ الأب شابا وهو يواجه عاصفة موت الأم أو انتحارها، صفحات من أيام الحرب العالمية الثانية، أرشيف يكفي لتطلع عليه اغنيس وليس نورا لأنها لو اطلعت عليه لزادت الأزمات تفاقما.

المخرج ترير لا يكتفي بسرد الحكاية وتقديم الشخصيات بل انه يجد القواسم المشتركة الإنسانية العميقة، الإحباط والحزن والأنانية والشك والخوف والعزلة كلها تحتشد وتحوم حول الشخصيات وحيث تتناغم الشخصيات في تلك الدائرة مع انها وهي في اكثر المشاهد تصعيدا وفي اشد مواقف الشخصيات سخطا ما تلبث أن تعود إلى سيرتها الأولى، تحن إلى الماضي الأجمل ومثال ذلك كلمات معدودة من اغنيس لأختها، «إنك بعد رحيل أمي غسلت لي شعري ومشطتيه وأخذتني إلى المدرسة» ليؤسس لمشهد شديد العاطفية بين الأختين وهما في ذروة أزمتهما مع الأب ليجدا أن الحل يمكن أن يكون بالرضا والتسامح وترك عجلة الحياة تدور.

سيناريو وإخراج: يواكيم ترير

شارك في كتابة السيناريو: ايسكيل فوكت

تمثيل: رينيت رينسيف في دور نورا، ستيلان سكارغارد في دور الأب ــ المخرج غوستاف بورغ، انكا ليلياس في دور الشقيقة اغنيس، ايل فاننك في دور راشيل

مدير التصوير: كاسبر توكسين

موسيقى: هانيا راني

مقالات مشابهة

  • فيلم «القيمة العاطفية»: جماليات التعبير السينمائي تعكس أزمات الذات والآخر
  • مباراة الاختبار.. فرصة للبدلاء لإثبات الذات في الزمالك
  • المطيعي بمعرض الكتاب .."حُجّة الله على خليقته" بيان كلام الله من البشر
  • جميري: أعمالي فصول سردية تستكشف الذات
  • زيلينسكي: أوكرانيا وأمريكا ناقشتا القضايا الرئيسية التي قد تضمن إنهاء الحرب
  • الاقتباس العلمي.. حين يصبح النقل صناعة معرفية
  • الشاعرة أميمة إسماعيل: ثقافة شرم الشيخ حكاية شغف وإبداع
  • شاهد الفيديو الذي أشعل الحرب بين المطربتين هدى عربي وأفراح عصام في زفاف “ريماز” والجمهور يلوم السلطانة: (مطاعنات قونات)
  • صدقي صخر يكشف كواليس قصر الباشا والتحضير لـ النص 2 | خاص
  • الموت يغيّب الشاعرة والناشطة السودانية هاجر مكاوي