الدكتور بنطلحة يكتب: القوة.. وضبابية الحروب
تاريخ النشر: 22nd, October 2023 GMT
د. محمد بنطلحة الدكالي – مدير المركز الوطني للأبحاث والدراسات حول الصحراء
من أهم نظريات الحرب الشهيرة عند المفكر الاستراتيجي العسكري كارل فون كلاوزفيتز تلك المسماة «ضباب الحرب» (Fog oF War)، وتتمثل في أن للحروب مفاجآت لايمكن أن تراها قبل حصولها، لذا تأتي المرونة في تغيير الخطط لمعالجة التغيرات الطارئة وللتقليل من فداحة أخطائها بما في ذلك المستوى السياسي والاستراتيجي العسكري، لأن ضباب الحرب يعكس عدم مطابقة الوقائع لما هو منصوص عليه في الخطة الحربية رغم توفر المعلومة الاستخباراتية والتي قد تكون تضليلية في بعض الوقائع والمعطيات.
إن ضباب الحرب يعكس عدم مطابقة الوقائع لما هو منصوص عليه في الخطة الحربية، وبالتالي الحرب عند كلاوزفيتز ظاهرة لاخطية تسودها حالة من اللايقين، حيث إن التعامل معها بنفس الأدوات المستخدمة في الظواهر الخطية يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير متوقعة، وذلك عكس المدرسة العسكرية التي ترى أن الحرب ظاهرة خطية (Linear) قائمة على ماهو ملموس ويمكن التحكم بمجرياتها، كما أنها قابلة للحساب أي ينظر إليها باعتبارها ظاهرة يمكن التنبؤ بنتائجها، لكن كلاوزفيتز اتهم هؤلاء المنظرين بالدوغمائية والانفصال عن واقع الحروب حيث لايمكن التيقن من أي شئ، وحيث يجب أن تكون الرياضيات قائمة على مجموعة غير محصورة من المتغيرات.
إن التفكير باستنزاف روح «العدو» مثلا عن بعد وبعد ذلك الدخول الآمن والنصر المبين… كثيرا ما يؤدي هذا التفكير إلى الدخول في مستنقع يصعب الخروج منه بل إن آثاره قد تكون مكلفة في العتاد والبشر وفي رسم المستقبلات (Les futurs) وهي نادرا ما تنجح. لقد عَلّمنا التاريخ والوقائع العسكرية أن المملكة المتحدة مثلا خلال الحرب العالمية الثانية تحملت سنوات من القصف العشوائي من الطائرات الألمانية من أجل إجبارها على الاستسلام، لكن البريطانيين حوّلوا ما وصفه رئيس الوزراء وينستون تشرشل بـ«الساعة الأسوأ» إلى أفضل وقت بحوزتهم، كما أن القصف المستمر الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية ضد فيتنام الشمالية لم يجعل شعب هذه الأخيرة يفكر في الاستسلام.
إن الضرب عن بعد يؤدي فعلا إلى تدمير البنى وإزهاق الأرواح، ما يؤدي إلى الإحساس بالعظمة والتفوق، لكن دروس التاريخ تعطينا أكثر من مثال أن الخصم كان يهيأ لفخ منصوب.
إن «ضباب الحرب» يخالف التصور والتصميم المسبق الموغل في الإفراط في الثقة بالقوة والنفوذ لأنه يساهم في ترجيح كفة من ينفث دخانه، إنه نواة الحرب وركن بنيتها، ويبدو أن الأوكرانيين بارعون في هذه «اللعبة» على حد قول جوزيف هنروتينن الباحث في مركز تحليل واستشراف الأخطار الدولية، حيث تناول ضباب هذه الحرب وأشكالها.
إنه في بعض الأحيان يمكن أن يكون ما يأتي بعد الحرب أسوأ من الحرب نفسها، لأن الحرب جزء من سلسلة متصلة تشمل الاقتصاد والتجارة والدبلوماسية والتحالفات وتبديل المواقع… وكل التفاعلات الأخرى التي تقع بين الشعوب والحكومات. وبذلك يتحدى كلاوزفيتز النظريات السابقة التي كانت تنظر إلى الحرب بوصفها «حدثا يبدأ ثم ينتهي».
إن الاستراتيجية، كما يعرفها المفكر الفرنسي أندري بوفر، هي فن الحوار بين إرادتين متضادتين تستخدمان القوة لحل خلافاتهما، وهذا التعريف يحيل إلى كون الاستراتيجية «فنا» ليخرجها من خانة العلم والإدراك الجازم النظري، ليجعلها تفكيرا إبداعيا يسعى إلى إيجاد الحلول، وفكرا «ميتا معرفي» (Metacognitive) يطرح تساؤلات وفرضيات لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع مستقبلا.
إن الاستراتيجية تعلمنا أن نسعى إلى التعامل مع المستقبل غير معتمدين على التفكير المنطقي الصوري الخطي الذي تحدد مقدماته نتائجها اعتمادا على القوة والحشود، بل تعتمد على ضرب من التفكير الانعكاسي (Reflexive thinking) الذي ينطلق من تخيل صورة المستقبل المرغوب فيه إلى الحاضر معتمدة في ذلك على إعداد مجموعة سيناريوهات.
إن التفكير من طرف أي قوة بهزم «العدو» وإلحاق الأذى بقاعدته الاجتماعية وربما تغيير الخرائط وفرض السلم المشروط من أجل خلق واقع جديد، دون استحضار واقع البيئة المحيطة وتكوينها العقدي والإثني… إن ذلك يحيل إلى بيئة ضبابية يقاربها الاستراتيجيون بنظريتين: «نظرية الفوضى» (Chaos theory) ونظرية التعقيد (Complexity theory)، اللتان تصوران بدقة جوهر سلوك البيئة الاستراتيجية المعروف بسماته الأربع: التقلب، التوجس، التعقيد والغموض.
إن ضبابية الحرب حسب كلاوزفيتز هي كالفرق بين الحرب على الورق والحرب الفعلية.., ومن المستحيل في كثير من المواقف والمحطات أن تتطابق الخطط المعدة على الورق في مراكز العمليات مع ما يدور واقعيا على الميدان، لأن الحرب ميدان مجهول ولا يمكن التكهن بصورة حسابية بنتائجها وآثارها على الشعوب حيث تترك ندوبا يصعب إزالتها.., وهي ليست نزهة بطبيعة الحال…
المصدر: مراكش الان
كلمات دلالية: یمکن أن
إقرأ أيضاً:
عناصر القوة الناعمة لعُمان في العمل الدبلوماسي
حيدر بن عبدالرضا اللواتي
haiderdawood@hotmail.com
تكمن القوة الناعمة لسلطنة عُمان في عدد من العناصر السياسية والاقتصادية منذ أن تم تفعيل هذه القوة في الأوساط العالمية، وخاصة القوة في الأعمال الدبلوماسية والاقتصادية التي يشهدها العالم. والقوة الناعمة لعُمان تتجلى في عدد من العناصر المتداخلة التي تُشكّل صورتها الإيجابية إقليميًا ودوليًا، بحيث يمكن توظيفها وتفعيلها بشكل أكبر في العديد من المجالات الأخرى.
المؤسسات العُمانية تعمل اليوم بفعالية عالية لاستغلال هذه المجالات للقوى الناعمة؛ حيث تبرز قوتها – على سبيل المثال – في الحياد السياسي والعمل بالدبلوماسية الهادئة التي عُرفت عن عُمان منذ عقود مضت. وسلطنة عُمان معروفة بمواقفها الحيادية المتزنة في النزاعات الإقليمية والدولية، وفي التعامل مع الدول في تقريب وجهات النظر ومساعدتها في إخراج بعض الذين يتم أسرهم، بجانب دورها حاليًا في القيام بدور الوسيط في العديد من الملفات العالمية المهمة (مثل الملف النووي الإيراني وعلاقة ذلك بالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي) للمرة الثانية، بجانب ملف أزمة اليمن التي مضى عليها أكثر من 10 سنوات، وكذلك دورها في بعض الأزمات الأخرى التي شهدتها الدول الخليجية في الثمانينيات من القرن الماضي، مثل أزمة احتلال دولة الكويت الشقيقة في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، إضافة إلى أزمة محاصرة دولة قطر الشقيقة قبل عدة سنوات مضت، وفتح باب الحوار مع جميع دول العالم. أضف إلى ذلك، أن سياسة عُمان واضحة بشأن الاحتلال الإسرائيلي لدولة فلسطين منذ إنشاء هذا الكيان المحتل عام 1948، وقضايا أخرى تتعلق بالبيئة والمناخ والبحار وغيرها.
هذه السياسة الناعمة منحتها سمعة طيبة وثقة دولية؛ مما يفتح لها الأبواب في الوساطة السياسية والدبلوماسية على مستويات كبيرة. ويعود ذلك إلى إرثها التاريخي والثقافي؛ حيث تتمتع سلطنة عُمان بتاريخ طويل من التبادل البحري والحضاري بجانب العلاقات التجارية القديمة مع دول العالم، إضافة إلى إرثها الثقافي الغني الذي يعكس التعايش والتسامح وتقبل الآخر في الحياة. كما إن الثقافة العُمانية، بما فيها الفنون، والعمارة واللباس والأكل، والضيافة وغيرها من العناصر الثقافية الأخرى، تُعد مصدر جذب ناعمٍ ومؤثرٍ في تحسين الصورة الذهنية للبلاد.
وأصبحت عُمان – منذ السبعينيات من القرن الماضي وحتى اليوم – تتمتع بالاستقرار الداخلي والأمان، ومن أكثر الدول العربية استقرارًا من الناحية الأمنية والسياسية، وهو عنصر مهم في جذب الاستثمارات والسياحة والثقة العالمية في الأعمال الاقتصادية المرموقة. كما إن السياسة التعليمية والإعلامية المعتدلة للحكومة تُساعد في تقديم خطاب إعلامي غير عدائي ومعتدل؛ الأمر الذي يُساعد في الترويج لقيم التسامح والتعايش والمودة، وفي فتح باب الحوار لجميع أبناء المذاهب والأيديولوجيات للنقاش فيما بينهم. وجميع هذه العناصر تكتمل لدعم القوة الناعمة في وجود القيادة الحكيمة والمصداقية الدولية؛ حيث تحظى القيادة العُمانية باحترام دولي نتيجة الحنكة والبعد عن الاصطفافات المتوترة.
وعلى المستوى الاقتصادي، تتمتع القوة الناعمة بمكانةٍ في تعزيز الأعمال في المجالات والأعمال الدبلوماسية والاقتصادية، حيث تستثمر عُمان حيادها وثقة الأطراف بها؛ لتعزيز دورها كوسيط لحل النزاعات، مما يمنحها نفوذًا دوليًا دون اللجوء للقوة الصلبة. كما إن حضورها في المحافل الدولية كـ"صوت معتدل" يمكن أن يُكسبها أدوارًا أكبر في المنظمات الإقليمية والدولية في العقود المقبلة. وستعمل هذه القوة الناعمة بدعم الاستقرار الداخلي والسياسات المعتدلة لها في اطمئنان المستثمرين الأجانب، والمساهمة في تفعيل المجالات السياحية والثقافية، وفي توقيع الشراكات والاتفاقيات الاقتصادية في مختلف الشؤون، وفي تطوير قطاع السياحة كأحد ركائز رؤية "عُمان 2040"، خاصةً مع دول غير منخرطة في محاور متصارعة، عبر تعزيز الثقة المتراكمة في السلوك العُماني؛ الأمر الذي يُساعد في تعزيز دورها في السلام العالمي الذي يُعد رافعة استراتيجية لتعزيز الاقتصاد الوطني، وفي توسيع النفوذ الدولي دون تكلفة سياسية أو عسكرية باهظة، وفي العمل على الأخذ بهذه المنطقة وأبنائها إلى بر الأمان.
إلا أنه يمكن القول إن القوة الناعمة الاقتصادية تتطلب أكثر من السمعة الطيبة والسياسات الهادئة؛ فهي تحتاج إلى أدوات تمكِّن من تحويل هذه السمعة إلى علاقات اقتصادية فاعلة في دولة كبيرة مثل عُمان ذات مساحات شاسعة؛ فالاستقرار السياسي والأمني عنصر جذب مهم بالتأكيد جدًا في جذب الاستثمار، خاصة في بيئة شرق أوسطية غير مستقرة، لكن على مؤسسات الدولة أن تسعى لتنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على النفط؛ الأمر الذي سيعطي صورة إيجابية أكبر للمستثمرين، بجانب العمل على استغلال الموقع الجغرافي الاستراتيجي كبوابة آسيا وإفريقيا وتسويق تلك الأفكار بفعالية كجزء من القوة الناعمة.
هنا يتطلب العمل القيام بجهود كبيرة في الترويج الاقتصادي الخارجي، وتسويق عُمان كمركز استثماري وسياحي عالمي، والانفتاح المالي والتقني على العالم لجذب الشركات العالمية الناشئة، إضافة إلى العمل على تحقيق البنية المالية والتقنية وتعزيز العمل بإيجاد أدوات إعلامية دولية مؤثرة كواجهاتٍ إعلاميةٍ عالميةٍ لها، تعكس قوتها الناعمة اقتصاديًا؛ أي تحويل السمعة والهدوء إلى مشاريع استثمار وشراكات استراتيجية.
رابط مختصر