سودانايل:
2025-11-03@06:24:33 GMT

الصرح الفني الباذخ – وداعا أبوللمين

تاريخ النشر: 15th, November 2023 GMT

إنكسر كبري شمبات العتيق قبل أيام قليلة بسبب حرب الفاسدين العابثين الغافلين والجهلاء.. لم يدرك أكثرنا ما يعنيه ذلك الكم من الحديد والحجارة والإسمنت إلى أن تهاوى وسقط في مياه النيل.. لم يكن أكثر من مجرد (كبري شمبات عادي) نعبره من بحري إلى أم درمان والعكس!.. ولطالما قطعناه مشيا على خُطىً من الصمت، الحنين، والشباب مرات!.

. ثم من الدهشة وعدم التصديق، الحسرة، والأمل مرة أخرى وحيدة*..

إلى أن إنكسر،

لنستشعر فجأة ضخامة وزخم ذكرياتنا معه.. وفوقه.. وبالقرب منه.. وتحته و[شمباتنا تحت الكبري - صلاة النبي فوقو].. لم نكن نَعِي أنه يحتل فينا كل هذه المكانة إلى أن إنكسر..

وإنكسر فجر أمس صرحٌ فنيٌ بقامة الوطن تاركا فراغا لن يُسَدّ..

لن يُسَدّ!..

أن تحب ود اللمين هو أن تحب كبري شمبات. لا أحد يحب الكباري. ولكن ود اللمين كان فينا تماما كما هذا الـ (كبري شمبات).. رحل تاركا فراغا لن يُسَدّ البتة.. ليس لأنه لا يدانيه في قمته أو يخاطر بالإقتراب من مكانته سواه، ليس لأننا عشقنا ألحانه الباذخة وموسيقاه وتفرده، ثم عن طيب خاطر نصبناه واحدا على قمة تخصه هو فقط، ليس لأنه كان عنوان الأمانة والدقة في رسالته الفنية، ولكن لأنه بلا شبيه..

محمد الأمين، ود اللمين، أبو اللمين، الباشكاتب، والأستاذ، كما أحببناه وأحببنا أن نناديه ونعظَّمه.. لطالما تندرنا بمقدرة أذنه السحرية العجيبة على تمييز الخطأ أو اللحن في العزف وعدم مقدرته على تحمّل ذلك..

ولأنه نادر..

ولأننا بشر، نشوه دوما روعة أجمل ما لدينا عن قِصَرٍ منا عن إدراك أهمية وجمال الأشياء.. فقد إعتدنا الإستماع إليه والإستمتاع بفنه تماما كإستمتاعنا وإحتفائنا بشرب الماء وتنفس الهواء.. حولناه إلى خانة الإعتياد كأي شيء عظيم آخر في حياتنا.. وغفلنا -من هول عظمته- أن ننتبه إلى كونه أسطورة تمشي على قدمين..

يا إله السماء.. يا للهول.. لقد ظل هذا الرجل يغني لنا منذ أكثر ستين سنة بإلتزام موغل في الصرامة.. إبتداءا من البدلة الكاملة وربطة العنق إلى حد إيقاف الغناء في المسرح وأمام جمهوره حال وجود أدنى خلل في أي وتر في أي آلة موسيقية.. بل وحتى في حال وجود خلل في وزنة أوتار إستماع الجمهور..

لطالما عن ظهر قلبٍ سمعنا وحفظنا أغنياته بتفاصيل ألحانها وتقاسيمها، ثم ها نحن بكل الحزن الذي بوسع قلبٍ أن يحتمله نبكي رحيله وحالنا متوكئين الصمت والصبر الوجيع..

ذكّرنا فقده أننا نتمرّغ في كمٍ مضنٍ من الأحزان.. تجسد في فقده حزننا على متحف السودان القومي الذي نهبه الرعاع.. فتّح غيابه أعيننا على مأساة عدم مقدرتنا على السفر إلى الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان وزيارة من نحب فيها أو لمجرد التسكّع في الشوارع.. إنتبهنا برحيله إلى أن هناك حرب تدور بلا سبب وأن الإنسان عندنا -منذ بدأ يغني لنا وقبل ذلك- يموت بلا سبب هو الآخر.. ذكّرنا فقده بفداحة مشاهد الشوارع الخاوية والمليئة بكآبة الحرب والدمار والخراب..

ما أقسى مغالبة الدموع التي تتحين كل ذات حزن -وما أكثرهنّ- لتطغَى.. فكثيرا وكثيرا جدا ما نضطر بكل قسوة ممكنة لقمع الشجن وإدّعاء الإعتياد في الصوت والملامح لنمشي في الأسواق ونذهب إلى العمل ونظل على قيد الحياة.. ويحدث كذلك أن نشجَى في ذات موقف عادي لا يستحق.. ونفشل ذات مرات أُخَر في الإحساس بما يستحق التفريغ عنه.. فكأننا وكأنما بدأت مشاعرنا تختلط وتتضاد!.. وكأننا وكأنما بدأنا نفقد قدرتنا على الإحساس الحقيقي بالأشياء.. الأكيد أن رحيل أي إنسان أمر مؤلم.. فالموت لا يوجع الموتى ولكنه يوجع الأحياء.. أما رحيل الصروح والأساطير فإنه لا يؤلم الأحياء ولكنه يوجع الشعوب!.

آسانا أن زامنّا الأساطير محمد وردي، محمد الأمين، أبو عركي البخيت، مصطفى سيد أحمد، محمود عبد العزيز، ومن شابههم في كونهم وُجِدوا ليسعِدوا.. الذين جمّلوا زماننا وحياتنا وخففوا كثيرا من ظلم ونتاج غباء الترابي وبشيره وبرهانهم ودقلوهم ومن ركب ركبهم من الذين وُجِدوا لتشِقَّ بهم وتتنغّص وتضيع حياة شعوب بأسرها..

رحل بعد أن خلّد إسمه وإسماء كل من قرية ود النعيم الوديعة، مدني الوريفة، والجزيرة الخضراء، بأحرف من نور.. وأهداها والسودان والعالم ألحانا عبقرية لن يعفى عليها الدهر وإن شاء..

تذكرته عند رحيل العملاق وردي وأجدني برحيله أتذكر عركينا الإنسان الفنان الذي نحب، متمنيا له طول العمر ودوام الصحة و إستمرار العطاء.. وقِلّة قليلة من فنانين آخرين وهبونا حياتهم وأجمل سنيّها.. صدقوا في إحساسهم وفنهم فأجادوا، وأبدعوا في عطائهم فأسعدوا..
--

هشام عبيد جودة - 14 نوفمبر 2023

* قطعنا كبري شمبات مشيا في طريقنا من منزل الفنان محمد الأمين بشمبات الحلة إلى نادي الفنانين للقاء أبو عركي البخيت لأول مرة أواخر تسعينات القرن الماضي.
hisham_joda@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: کبری شمبات إلى أن

إقرأ أيضاً:

لا للحرب بتاعتنا وبتاعتكم – الليِلتنا والليِليتكم

لا للحرب بتاعتنا وبتاعتكم – الليِلتنا والليِليتكم:
الاستراتيجية الأمثل للتستر على جرائم الغزاة الأجانب وميليشيات الجنجويد المتحالفة معهم – مع تجنب مسؤولية دعمهم الضمني أو الصريح – تتمثل في تبني دغمسة لغوية مُتعمدة يجيدها المثقفون والمتعلمون. تتضمن هذه الخدعة الخطابية إدانة شاملة لـ”الحرب” باعتبارها مأساة بلا وجه، مع تجنب أي تحديد للمعتدي الظالم والمعتدي عليه في عقر وطنه. عامل الغزو ككارثة متبادلة عفوية أو كجرثومة في الجسد الوطني منذ عام ١٩٥٦ لا علاقة لها بمخطط الغزاة ولا بالامبريالية الفرعية فكل أطرافها علي باطل. وتظاهر بانها قضاء وقدر مثل التسونامي والاعاصير والجفاف وليست فعل إنساني ممول ومسلح بالميليارات واحدث الأسلحة وحملات الدعاية الإعلامية المكلفة.
برفض التمييز بين وحشية القوات الغازية والنضال الباذخ لشعب يدافع عن وطنه يمكنك بناء تكافؤ أخلاقي زائف بين “طرفي النزاع” – وكمان لو لعنت خاش أبو الكيزان والعسكر وجيش سناء تكون دعمت الدغمسة.
امح التمييز الجوهري بين من يدافعون عن أنفسهم وأرضهم ومنزلهم وعائلتهم، وبين القوات البربرية التي انحدرت لتدميرهم وإذلالهم من جبال الأنديز وصحارى أفريقيا وغرف المخابرات الإقليمية.
هذا دليل الرجال الجوف للتخلٍّ الاستراتيجي عن الوضوح الأخلاقي والهروب المُدروس من المسؤولية الوطنية. إنه هروب من المساءلة مُصمم لتجنب عواقب اتخاذ موقف واضح لا يجبن. لن تُعاقب على هذا الغموض من قبل أي جهة قوية، محلية كانت أم خارجية، تملك ذهب المعز وسيفه. وهكذا يمكنك التظاهر بأنك صوت العقل والنضج، في حين كونك في الوقت نفسه ترتكب أقصى درجات الفحش: مساواة الجاني بالضحية ومساواة فعل الغزو بحق الدفاع عن النفس.
بالهروب من إلقاء المسؤولية علي الغزاة من الداخل أو الخارج تحت شعار حرب جميع أطرافها علي نفس درجة الإجرام، يمكنك تفادي التكاليف السياسية والاجتماعية لاتخاذ موقف مبدئي. لن تُعاقبك أي دولة قوية أو فصيل داخلي على هذا الغموض. لن يكوزنوك، لن يقولوا عنك لاعق بوت عسكر. والأجمل أن الحروب تحت لافتة “لا للحرب” تتيح لك إدعاء تفوق أخلاقي مُتغطرسٍ ولزج، يرتدي عباءةَ النزاهة والدبلوماسية الناضجة منزوعة الكبسة.
هذا قولك، أما قولنا فهو أن شعارك زائف وهو لا للمقاومة وليس لا للحرب. عمليًا، أنت لا تدعو إلى السلام، بل إلى استسلام الضحية. أنت لا تُوازن بين الطرفين؛ أنت تُساوي بين المجرم والضحية، وبذلك تُصبح شريكًا في حرب تدّعي إدانتها. هذا هو مخرجك المخإتل. بإدانة “الحرب” دون تسمية أسماء المعتدين ، لن تدفع ثمنًا. لن تواجه أي رد فعل عنيف من أصحاب النفوذ. ستُخفي وجهك الأخلاقي وراء لغة الحياد الزائف، مُصوِّرًا نفسك نموذجًا للعقلانية.
في قاموسك، المقاومة ليست مشروعة، وليست مبررة في أي زمان ومكان. لأنه إذا لم تكن مقاومة الشعب السوداني مشروعة، فلن تكون أي مقاومة مشروعة أبدًا.
لم يكن من حق أي امرأة سوداء أن تقاوم غارات العبيد – كان عليها فقط أن تصيح لا للعبودية، لا للاغتصاب. ما كان ينبغي لأي بطل وطني أن يقاوم الغزو الاستعماري – كان علينا الانبطاح أم الغزاة الأتراك والإنجليز وان نعتزل الفتنة تحت شعار لا للإستعمار ليغني لنا الشيوعي وردي لاحقا عن أن كرري تحدث عن بلاغة رجال صاغو صاغو الشعار كأجمل غزل لا عن بلابسة كالأسود الضارية خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية. كان علينا الإنحناء أمام الغزاة الاستعماريين. في قاموسك لا فرق بين علي عبد اللطيف وعثمان دقنة والضباط الإنجليز ولا بين ألمك نمر وإسماعيل باشا. لا فرق بين محمد صديق وأبولولو.
ما كان ينبغي للجنوب أفريقيين أن يقاوموا نظام الفصل العنصري. ما كان ينبغي لأي شيوعي أو نقابي أوروبي أن يقاوم هتلر أو موسوليني . كان عليهم التصرف مثل الداعين للاستسلام تحت شعار رفض الحرب.
الخيار “الناضج” الوحيد هو سلبية عدم فعل أي شيء – مجرد الاستسلام والهمس بـ”لا” للحرب.
إطارك يجعل المقاومة غير شرعية بطبيعتها. وإذا طبقنا هذا المعيار باتساق، فيجب علينا أيضًا إدانة كل نضال عادل في تاريخ البشرية. سنُضطر إلى استنتاج أن المستعبدين كانوا مخطئين في مقاومة آسريهم، وأن الدول لم يكن لها مبرر في صدّ الاحتلال الاستعماري، وأن النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا كان مُضلّلاً.. كان يجب تمرير نظام الفصل العنصري دون أي اعتراض. في قاموسك لا فرق بين كريس هاني ومانديلا من جهة، وحكام الفصل العنصري، فكلهم دعاة حرب علي ضلال. وفيه أن الوقوف في وجه طغيان هتلر وموسوليني كان خطأً. إن توصيتك بالرضوخ السلبي “العقلاني” – مجرد الاستسلام وإدانة جميع أطراف الصراع – ليس موقفًا أخلاقيًا؛ بل إنكارٌ لحق الدفاع عن النفس والحرية.
هذه لا للحرب التي لكم. وهي تترجم إلي لا للمقاومة. نعم للمساواة بين الغزاة وضحاياهم. أما لا للحرب التي لنا: فهي نعم للسلام. لا للحرب. لا للغزاة الأجانب. لا لاستباحة الميلشيا الهمجية لديارنا واهلنا.

معتصم اقرع

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • صحيفة الثورة الإثنين 12 جمادى الأولى 1447 – الموافق 3 نوفمبر 2025
  • المجلس الأعلى للاقتصاد العربي الإفريقي يعين شروق محمد مطر عضوًا بالمكتب الفني للعلاقات والتعاون الدولي
  • الأعلى للاقتصاد العربي الإفريقي يعين شروق محمد مطر عضوًا بالمكتب الفني للعلاقات
  • عادل عبد الرحمن: إحساس قفشة بأنه مهمش أثرت سلبياً على أدائه الفني
  • وداعاً لكلمات السر… واتساب يغيّر قواعد حماية الذكريات ويفتح باب الأمان بمفتاح الوجه والبصمة
  • المدير الفني لـ بيراميدز يستبعد محمد حمدي من مواجهة الاتحاد السكندري لهذا السبب
  • لا للحرب بتاعتنا وبتاعتكم – الليِلتنا والليِليتكم
  • صحيفة الثورة الاحد 11 جمادى الاولى 1447 – 2 نوفمبر 2025
  • قالوا عن افتتاح المتحف الكبير .. القاهرة : تجميل و رفع كفاءة الطرق.. الجيزة : الأجهزة التنفيذية تعمل بكامل طاقتها.. شاشات كبري لنقل الفعاليات بالمحافظات
  • وداعاً لـالبوكسينغ دي في البريمير ليغ