رغم أن إثيوبيا تُعرف تاريخيا بأنها دولة ذات أغلبية مسيحية فإن الواقع السكاني يكشف عن توازن ديني أكثر تعقيدا.

وبينما تقدّر الإحصاءات الرسمية الإثيوبية -مثل تعداد 2007- نسبة المسلمين بنحو 33% يُعتقد أن هذه النسبة أقل من الواقع بسبب عوامل سياسية وإدارية تتعلق بآليات التعداد، إذ تقول الأوساط الإسلامية إن العدد أكبر من ذلك بكثير.

فقد أكد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في أكثر من مناسبة على أهمية الاعتراف بالتنوع الديني في بناء الدولة الحديثة، مشيرا إلى الحضور والتأثير الكبير للمسلمين في الحياة العامة بإثيوبيا منذ قرون.

فرقة كنسية خلال مهرجان مسقل بذكرى اكتشاف الصليب الحقيقي الذي صُلب عليه السيد المسيح بأديس أبابا (رويترز)

وتأتي هذه التصريحات في سياق جهود حكومية لتقريب المكونات الدينية، من بينها تشكيل المجلس الإسلامي الأعلى الذي اعتُبر خطوة لإنهاء سنوات من التوتر بين الدولة وممثلي المسلمين في البلاد.

وعلى امتداد قرون ظل علماء الإسلام في البلاد ركيزة أساسية في صون الهوية الإسلامية ونشر العلم والدعوة، في مواجهة تحديات سياسية وثقافية متراكمة، من زمن الإمبراطوريات إلى الدولة الحديثة.

منليك الثاني وتحديات الريف المسلم

مع نهاية القرن الـ19 دخلت إثيوبيا مرحلة توسع سياسي بقيادة الإمبراطور منليك الثاني (1889-1913)، والذي ضم مناطق ذات أغلبية مسلمة مثل وُلّو وهرر وبالي وعرسي إلى الدولة المركزية.

أبرز حكام إثيوبيا في القرن الـ19 (مواقع التواصل الاجتماعي)

هذا التوسع رسّخ سلطة الكنيسة الأرثوذكسية، وفرض هيمنة ثقافية رسمية جعلت المجتمعات المسلمة الريفية تعيش كأقليات داخل دولة تصف نفسها بأنها "جزيرة مسيحية في بحر من الإسلام".

مسجد الصحابة المعروف باسم مسجد النجاشي في قرية النجاشي شمال إثيوبيا (الجزيرة)

في هذه المرحلة برز علماء الأرياف كخط الدفاع الأول عن الإسلام، معتمدين على التكافل الشعبي وحلقات التعليم في المساجد والمزارع.

إعلان

كانوا يعلّمون القرآن في الخفاء أحيانا، ويقيمون دروس العلم في البيوت، ليحافظوا على جذوة الإيمان مشتعلة رغم غياب الدعم الرسمي.

هرر أزهر الحبشة

في شرق البلاد كانت مدينة هرر -التي تبعد عن العاصمة أديس أبابا 525 كيلومترا- تمثل القلب العلمي للإسلام الإثيوبي منذ القرن العاشر الميلادي.

الشيخ عبد الله علي شريف دأب على جمع المخطوطات التي حفظتها العائلات في مدينة هرر الإثيوبية على مدى أجيال (الجزيرة)

فقد عُرفت المدينة بمدارسها وزواياها التي خرّجت أجيالا من العلماء والدعاة، وانتشر تأثيرها في أوروميا وعفر والصومال الإثيوبي، وهي تضم أكثر 80 مسجدا منها 3 تعود للقرن العاشر الهجري.

وقد أدرجت منظمة اليونسكو المدينة ضمن قائمة التراث العالمي تقديرا لإرثها الثقافي والديني، باعتبارها نموذجا حيا للحضارة الإسلامية في أفريقيا.

مقابر الصحابة داخل قرية النجاشي التاريخية شمال إثيوبيا (الجزيرة)

ومن أبرز رموزها الشيخ عبد الله علي شريف الذي كرس حياته لجمع المخطوطات الإسلامية وحفظ التراث المالكي والصوفي، ولا يزال يُعد من أعلام التعليم التقليدي في شرق البلاد.

مدارس الريف.. جامعات مصغرة

في مناطق مثل ولو وبالي وعرسي تحولت الحلقات التعليمية إلى نسيج علمي متين حافظ على الإسلام في محيط متنوع دينيا وثقافيا.

كان العلماء يدرّسون نحو 12 مادة تشمل الفقه والتفسير والنحو والمنطق، ويدربون الطلاب على الإفتاء والإرشاد، مما جعل الريف الإثيوبي مصنعا للعلماء والدعاة.

غلاف كتاب يعاد ترميمه في ورشة متحف الشريف (الجزيرة)

ومن بين هؤلاء الشيخ فقيه هاشم الهرري والشيخ أحمد بن صالح أرغوبا والشيخ الزبير والشيخ جمال الدين والشيخ محمد زين، وغيرهم ممن تركوا وراءهم مئات التلاميذ المنتشرين في القرى.

وكان مركز دانا العلمي من أبرز معاقل تكوين العلماء، حيث تخرّج فيه العديد من الفقهاء الذين واصلوا حمل رسالة التعليم الديني جيلا بعد جيل.

رموز الدعوة والتعليم في العصر الحديث

في العاصمة أديس أبابا برز الشيخ محمد حسين باعتباره أحد دعاة التعايش، مؤسسا مدارس تجمع بين التعليم الديني والمدني، ومشاركا في لقاءات إقليمية لتعزيز التعاون الإسلامي.

رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بإثيوبيا الشيخ إبراهيم توفا (الجزيرة)

أما الشيخ إبراهيم توفا فقد قاد أول انتخابات حرة للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية عام 2025 بمشاركة أكثر من 13 مليون ناخب من 49 ألف مسجد، ساعيا إلى توحيد الصف الإسلامي وتعزيز التمثيل السياسي للمسلمين.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2025 ودعت إثيوبيا المفتي العام السابق الشيخ الحاج عمر إدريس أحد أبرز وجوه الدعوة والاعتدال، والذي شُيّعت جنازته في مراسم رسمية وشعبية واسعة عبّرت عن مكانته في وجدان الإثيوبيين.

التعليم أداة مقاومة

في قلب المشهد الإثيوبي شكّل التعليم الديني الإسلامي وسيلة فعالة للمقاومة الثقافية والاجتماعية، خاصة في ظل التهميش السياسي الذي واجهته المجتمعات المسلمة لعقود.

واعتمد العلماء على نظام الحلقات التقليدي لتدريس الفقه والتفسير والحديث، مع تركيز واضح على المذهب الشافعي الذي ترسخ في مناطق واسعة من البلاد بفعل جهود العلماء المحليين والرحالة الدعاة.

المفتي العام لإثيوبيا الراحل الحاج عمر إدريس (الجزيرة)

ولم يقتصر دورهم على التعليم الشرعي، بل امتد إلى ترجمة النصوص الدينية إلى لغات محلية مثل الأورومو والأمهرية والصومالية، مما ساهم في توطين المعرفة الإسلامية وجعلها أكثر التصاقا بالحياة اليومية للناس.

إعلان

هذه الترجمات لم تكن مجرد أدوات تعليمية، بل كانت فعلا ثقافيا مقاوما يسعى إلى تثبيت الهوية الإسلامية في بيئة متعددة الأعراق والديانات.

ورغم ضعف التمويل وغياب الدعم الرسمي فإن العلماء حافظوا على شبكة واسعة من المدارس القرآنية والزوايا والمراكز الدعوية التي أصبحت بمثابة حصون للهوية الإسلامية وفضاءات للتنشئة الروحية والاجتماعية.

صلاة العيد في مدينة هرر بإثيوبيا (الجزيرة)

هذه المؤسسات -التي غالبا ما كانت قائمة على الجهد الأهلي والتكافل المجتمعي- لعبت دورا محوريا في حفظ اللغة العربية وتعزيز قيم الانتماء ومواجهة محاولات الطمس أو الإقصاء.

واليوم، تُعد هذه الشبكات التعليمية والدعوية صمام أمان للهوية الإسلامية في إثيوبيا ومصدرا مستمرا لإنتاج المعرفة الدينية وتشكيل الوعي الجمعي في مواجهة التحديات السياسية والثقافية.

جذوة لا تنطفئ

علماء الإسلام في إثيوبيا ليسوا مجرد رجال دين يؤدون وظائف تقليدية، بل هم حملة رسالة حضارية وقادة اجتماعيون ومصلحون يتجاوز دورهم حدود المنابر إلى ميادين التعليم والتماسك المجتمعي.

لقد شكّلوا عبر القرون شبكة من التأثير الروحي والمعرفي ساهمت في ترسيخ القيم الإسلامية وبناء جسور التعايش بين المكونات الدينية والعرقية في بلد متعدد الهويات.

ورغم التحديات السياسية والتهميش المؤسسي فإن هؤلاء العلماء ظلوا أوفياء لرسالتهم، يعملون بصبر على إحياء الوعي الديني، وتغذية الروح الإسلامية في المجتمعات الريفية والحضرية على حد سواء.

ولم يكن الريف الإثيوبي هامشا في هذا المشهد، بل كان القلب النابض الذي حفظ جذور الإسلام، واحتضن المدارس القرآنية والزوايا والمجالس العلمية، بعيدا عن ضجيج المركز وتقلبات السلطة.

في أرض الحبشة حيث تداخلت الحضارات وتصارعت الرؤى بقيت جذوة الإسلام مشتعلة في صدور العلماء تنير دروب الناس بالعلم والرحمة، وتؤكد أن الدين ليس فقط عقيدة، بل بنية مقاومة ثقافية تحفظ الهوية وتصون الكرامة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: شفافية غوث حريات دراسات الإسلامیة فی

إقرأ أيضاً:

تحركات إثيوبيا لمنفذ بحري تدفع مصر وإريتريا لتحالف إستراتيجي

عندما استقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نظيره الإريتري أسياس أفورقي في القاهرة هذا الأسبوع، بدت أجندة اللقاء وكأنها قائمة أولويات إقليمية: القرن الأفريقي، وأزمة السودان، وأمن البحر الأحمر.

لقاء سابق للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (يمين) مع نظيره الإريتري أسياس أفورقي في القاهرة (المصري اليوم)

وتقول أفريكا ريبورت إن الرسالة غير المعلنة كانت واضحة: "إلى أي مدى يمكن لإثيوبيا أن تذهب في سعيها لاستعادة منفذها البحري المفقود منذ زمن طويل؟".

خطاب آبي أحمد المثير للجدل

جاءت الزيارة بعد أقل من 24 ساعة من خطاب ناري ألقاه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أمام البرلمان، وصف فيه افتقار إثيوبيا إلى منفذ بحري بأنه "قضية وجودية".

وشكك في شرعية عدم وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر بعد استقلال إريتريا عام 1993، قائلا: "لا حكومة ولا برلمان ولا استفتاء شعبي قرر ذلك".

خطاب رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد أمام البرلمان عن أحقية بلاده في الوصول للبحر الأحمر (رويترز)

ورغم تأكيده أن أديس أبابا تسعى لحل دبلوماسي وسلمي، فإن تحذيره من امتلاك إثيوبيا "قدرات موثوقة" في حال نشوب صراع أثار قلقا إقليميا.

قضية إثيوبيا البحرية

في خطابه، قال آبي أحمد إن النمو السكاني والاقتصادي يجعل الوصول إلى البحر "مسألة بقاء".

وعلّق المحلل الأمني أبراهام ميسيلو -لأفريكا ريبورت- بالقول إن "كل إثيوبي يدرك أهمية الوصول إلى البحر، لكن توقيت الخطاب ونبرته وسط اضطرابات داخلية يجعلان القضية تبدو أمنية".

وأضاف أن الطرح القانوني للحكومة قد يلقى قبولا داخليا، لكنه يثير قلق الجيران الذين يخشون طموحات أديس أبابا.

رد إريتريا السريع

في المقابل، ردت إريتريا سريعا، إذ اتهم وزير الإعلام يماني جبرمسكل حزب الازدهار الإثيوبي بالوقوع في "وهم الازدهار"، واعتبر تصريحات آبي أحمد "هذيانا سياسيا".

أسياس أفورقي شكك في نية إثيوبيا بحديثها عن ميناء عصب الإريتري (غيتي)

وأكدت أسمرا أن قضية ميناء عصب غير قابلة للنقاش، وأن أي محاولة لإعادة فتح ملف السيادة الإريترية تمثل انتهاكا للقانون الدولي.

إعلان

ورغم ذلك، فإن آبي أحمد شدد على أن "إثيوبيا لا تسعى لحرب مع إريتريا"، ودعا المجتمع الدولي -بما في ذلك الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأفريقي– للتوسط في حل سلمي وقانوني.

احتضان إستراتيجي من مصر

في هذا السياق، تقول أفريكا ريبورت إن لقاءات السيسي وأفورقي بدت بعيدة عن كونها مصادفة، إذ وصفت الرئاسة المصرية اللقاء بأنه لتعزيز "التنسيق الإستراتيجي" بشأن استقرار المنطقة وأمن البحر الأحمر، كذلك أشاد السيسي "بالعلاقات الراسخة بين القاهرة وأسمرا"، لكن محللين رأوا في اللقاء حسابات إستراتيجية.

موضوع مياه النيل من نقاط الخلاف الرئيسة بين مصر وإثيوبيا خاصة بعد تشغيل سد النهضة (رويترز)

يقول المحلل الإثيوبي تيريفي بشاني لموقع أفريكا ريبورت إن "مصر ترى طموحات إثيوبيا البحرية تهديدا لنفوذها التاريخي، ودعم إريتريا -ولو رمزيا- يساعد في احتواء هذا التهديد".

وأشار إلى أن إعلان قمة أسمرا بين مصر وإريتريا والصومال في أكتوبر/تشرين الأول 2024، الذي شدد على "احترام سيادة ووحدة أراضي الدول"، كان بمنزلة رد غير مباشر على طموحات أديس أبابا.

توازن دقيق في المنطقة

مع تصاعد الصراعات في السودان وتوتر العلاقات بين إثيوبيا والصومال، عاد البحر الأحمر ليكون من أكثر النقاط الإستراتيجية حساسية في أفريقيا.

مظاهرات شعبية لدعم القوات العسكرية الإثيوبية خلال حرب تيغراي (غيتي)

فالقوة البحرية المصرية، والموقع الساحلي لإريتريا، والثقل السكاني والاقتصادي لإثيوبيا، كلها عوامل تجعل التوازن الإقليمي هشا.

ويرى المحللون أن التعاون بين القاهرة وأسمرا تكتيكي وليس طويل الأمد، فكل منهما يواجه تحديات داخلية: مصر تعاني من ضغوط اقتصادية، وإريتريا من عزلة دولية.

مستقبل البحر الأحمر

ويضيف تيريفي -في حديثه مع أفريكا ريبورت- أن "القرن الأفريقي يدخل مرحلة إعادة تموضع إستراتيجي؛ إثيوبيا تفرض نفسها، ومصر تحمي مصالحها، وإريتريا تبحث عن دور"، مشيرا إلى أن طريقة تعاملهم مع القضية ستحدد مستقبل البحر الأحمر.

أما أبراهام، فيرى أن إعادة فتح ملف البحر الأحمر من قبل آبي أحمد قد يكون خطوة محفوفة بالمخاطر لكنها تعبّئ الرأي العام داخليا. ودعوته للوساطة الدولية تشير إلى محاولة لتأطير القضية ضمن مسار قانوني ودبلوماسي، من دون عزل إثيوبيا.

ويختم بالقول إن "الجميع يتفق على أن إثيوبيا تحتاج إلى منفذ بحري، لكن السؤال هو: كيف؟ وبأي ثمن على استقرار المنطقة؟".

مقالات مشابهة

  • رئيس جامعة الأزهر للطلاب الوافدين: كل علمٍ يوصل إلى معرفة الله وخشيته محمود في الإسلام
  • الشيخ أيمن عبد الغني: الطلاب الوافدون سفراء الأزهر في نشر قيم الإسلام السمحة ووسطيته
  • مفتي الجمهورية: منظومة القيم الإسلامية تحفظ للإنسان كرامته وتصون للمجتمع استقراره
  • بين 1364 - 1375هـ.. وثيقة تاريخية تكشف بدايات التعليم في السعودية
  • إعلام القليوبية ينظم ندوة بعنوان «التعليم الفني وسوق العمل»
  • ندوة حول التعليم الفني وتيسير الانتقال لسوق العمل بمجمع إعلام القليوبية
  • طارق الهوبي: المتحف المصري الكبير يجسد ريادة مصر في صون الهوية وبناء المستقبل
  • تحركات إثيوبيا لمنفذ بحري تدفع مصر وإريتريا لتحالف إستراتيجي
  • اتحاد السرعة: افتتاح المتحف يتوج جهود الدولة في الحفاظ على الهوية الوطنية