آنا بوفرو تكتب: قبر لحرياتنا فى أوروبا!.. هل سيكون قانون حماية الخدمات الرقمية الجديد ناقوس الموت لحرية التعبير على الإنترنت؟
تاريخ النشر: 21st, November 2023 GMT
بعد فرض قانون الخدمات الرقمية (DSA) الذى أثار كثيرا من الجدل والذى فرض على الدول الأوروبية من قبل الاتحاد الأوروبى فى أغسطس ٢٠٢٣ فإن حريتنا فى التعبير على وشك التقلص إلى حد كبير بعد التصويت على قانون SREN الذى تم اعتماده فى ١٧ أكتوبر ٢٠٢٣ فى الجمعية الوطنية (٣٦٠ صوتا مؤيدا، ٧٧ معارضا) وفى ٨ نوفمبر ٢٠٢٣ أعلن المفوض الأوروبى تييرى بريتون عن إطلاق هوية إلكترونية فى الاتحاد الأوروبي.
قانون منتقد
واجه مشروع القانون الذى يهدف إلى تأمين وتنظيم الفضاء الرقمى (SREN) لانتقادات حادة من قبل دعاة السيادة والتأمين المعلوماتي، ومن قبل جزء من اليسار وبعض نواب حزب التجمع الوطنى كما انتقده فلوريان فيليبو رئيس حزب الوطنيين السيادي. وقد ظل ناقوس الخطر يدق لعدة أشهر فقد حذر الفرنسيون من أن قانون SREN سيفرض قيودا حول الهوية الرقمية. وقد وصفه نيكولا دوبونت إيجنانت بأنه "خطر حقيقى على حرياتنا" إذ أنه سيفرض إمكانية تتبع جميع المواطنين بسبب الارتباط بالهوية الرقمية وقريبًا باليورو الرقمي، مع إمكانية قيام الحكومات فى نهاية المطاف بمنع الإنفاق الفردى على سبيل المثال من أجل الحد من استهلاك الطاقة أو السفر، وتحت ستار النوايا الحسنة وحماية مستخدمى الإنترنت فإن الرقابة التعسفية والواسعة النطاق على المحتوى المنشور على الإنترنت سوف تشكل الآن ذراعًا حقيقيًا وبوابة للائتمان الاجتماعى الصيني. علاوة على ذلك، فإن تعزيز الصلاحيات الممنوحة لـARCOM (هيئة تنظيم الاتصالات السمعية والبصرية والرقمية) وهى هيئة إدارية وأيضًا لعمالقة الإنترنت - GAFAM - على حساب السلطة القضائية يطرح مشكلة.
واعتبرت صحيفة "لا فرانس إنسوميز" أن الحكومة كانت تضع من خلال هذه الوسائل "الأدوات العملية للسيطرة الاجتماعية الجماهيرية". ومن المقرر أن تحيل منظمة LFI الأمر إلى المجلس الدستورى بعد إقرار القانون من قبل لجنة مشتركة فى ديسمبر المقبل. تمت الموافقة على مشروع القانون بالإجماع فى مجلس الشيوخ فى يوليو ٢٠٢٣.
لقد عمدت وسائل الإعلام الفرنسية إلى التعتيم على هذا الموضوع وهو موضوع لم تناقشه المعارضة فى البرلمان الفرنسى إلا فيما قل. ومع ذلك فهو "نسخة جديدة" من قانون أفيا الشهير (الذى سمى على اسم النائبة لاتيتيا أفيا) الذى اعتبر غير دستوري.
قانون SREN: صورة رمزية لقانون Avia الذى يعتبر غير دستوري
يهدف قانون Avia الذى صدر فى يونيو٢٠٢٠ رسميًا إلى السيطرة على "المحتوى الذى يحض على الكراهية" على الإنترنت. وطالبت الشبكات الاجتماعية ومحركات البحث بإزالة المحتوى غير المشروع "بشكل واضح" فى غضون ٢٤ ساعة بعد الإبلاغ عنه أو بعد ساعة واحدة فقط إذا جاء البلاغ من الشرطة. وللقيام بذلك نصت على تشكيل مرصد مسئوليته رصد وتحليل تطور محتوى الكراهية، بالتعاون مع الفاعلين والجمعيات والباحثين المعنيين”. وفى ذلك الوقت، كان أعضاء مجلس الشيوخ المعارضون قد أحالوا الأمر إلى المجلس الدستوري. وقد رأت هذه المؤسسة أن بعض الأحكام تنتهك بطريقة غير متناسبة وغير مناسبة وغير ضرورية حرية التعبير وتحمل خطر الإفراط فى الرقابة من جانب المنصات. وهكذا اعتبر النص مخالفًا للدستور الفرنسى وتم إلغاؤه.
وقد اعتبر المجلس الدستوري أن تحديد الطبيعة غير المشروعة للمحتوى الإرهابى أو المواد الإباحية المتعلقة بالأطفال لا يستند إلى طبيعتهما وهويتهما المحددة وقد كان هذا فى قانون أفيا، رهنًا بالتقييم الوحيد للإدارة، والوقت المسموح به للمشغل للامتثال دون السماح له بالحصول على قرار من القاضي.. بذلك أصبحت الرقابة إدارية بدلًا من أن تكون قضائية.
قانون الخدمة الرقمية الأوروبي
وبعيدًا عن الاعتراف بالهزيمة وتجاهل المؤسسات الوطنية فقد حمل المروجون لقانون أفيا مشروعهم إلى المفوضية الأوروبية. وكانت هذه هى الطريقة التى تم بها تضمين القانون الشهير بالكامل فى هذه الأحكام غير الدستورية فى DSA (قانون الخدمات الرقمية) أو الإطار التشريعى العام المتعلق بالخدمات الرقمية - وهى مجموعة من التوجيهات الأوروبية بشأن التجارة الرقمية والتى نظرًا لأن التجارة أصبحت اختصاصًا حصريًا للاتحاد الأوروبى فرضت نفسها على القانون الوطنى الفرنسى وبالتالى يتحايل على قرار المجلس الدستوري.
ويفرض قانون DSA الذى يدعمه المفوض الأوروبى تيرى بريتون، سيطرة الاتحاد الأوروبى على الشبكات الاجتماعية من خلال إنشاء التزامات جديدة للمنصات التى تضم أكثر من ٤٥ مليون مستخدم. ودخلت حيز التنفيذ فى ٢٥ أغسطس ٢٠٢٣ فى الاتحاد الأوروبي، كما أن المنصات الرقمية الكبيرة ومحركات البحث مثل جوجل، فيسبوك وتويتر وتيك توك يجب أن تكون تحت عيون الرقابة بما يفرض عليها تعديل محتواها إذا تضمن بعض العناصر غير القانونية! كل ذلك يدور فى تلك الذريعة التى تطالب ب "التحرك بشكل أكبر ضد المحتوى غير القانوني" على الإنترنت! وفى حالة عدم الامتثال لهذه الإجراءات تكون الغرامات رادعة. وينطوى ذلك على غرامات تصل إلى مخالفة تصل قيمتها إلى ٦٪ من حجم مبيعاتها وفى حالة تكرار المخالفة إلي الإغلاق الكامل لخدماتها على أراضى الاتحاد الأوروبي. وهنا يجدر الإشارة إلى أن تييرى بريتون كان الرئيس التنفيذى لشركة ATOS المتخصصة فى رموز QR من عام ٢٠٠٩ إلى عام ٢٠١٩.
ويدين معارضو قانون الأمن الرقمى تلك الطبيعة التعسفية للرقابة الخارجة عن أى إطار علمي، حيث سيتم تنفيذها من خلال عدد كبير من "المدققين" الجدد وغيرهم من "المراسلين الموثوق بهم"، الذين سيتم توظيفهم من قبل الاتحاد الأوروبى والذين سيكون لديهم سلطة غير متناسبة ويشير الخبير فلوريان فيليبو إلى أنه فى حالة حدوث أزمة يمكن تفعيل الرقابة مباشرة من السلطة التنفيذية الأوروبية من خلال آلية الاستجابة للأزمات. وفى ظل أزمات المناخ والأمن والصحة فمن المتوقع أن تكون الرقابة التى يتم تشغيلها من بروكسل على قدم وساق من أجل تحقيق "نظام عام رقمي" جديد.
فرض هوية الدولة الرقمية
لا شك أن قانون الحماية الرقمية الجديد SREN يعتبر تعبيرًا عن رغبة الحكومة فى كبح جماح الإنترنت والذى يفلت جزئيًا من سيطرة القوانين.. وسيكون ذلك ذريعة لفرض هوية الدولة الرقمية دفعة واحدة وإلى الأبد على جميع المواطنين. وفى مقال نشرته Konbini أكد أن مشروع قانون SREN يمكن أن يدمر حريات الإنترنت الأساسية دون أن ينجح فى ضبط التجاوزات على الإنترنت وتعزيز حماية مستخدميه وخاصة القاصرين. وتدرك الحكومة جيدا ان هناك إجراءات مماثلة للتصفية والتحقق من الهوية على الإنترنت قد تم اتخاذها بالفعل فى المملكة المتحدة وأستراليا ولكنها فشلت فى عام ٢٠١٩ بسبب استحالة تطبيقها من الناحية الفنية. وبالتالى فإن قانون SREN سيكون مجرد ذريعة.
وفى مقال نشر فى صحيفة "لاكوادراتور دو سيركل" بتاريخ ١٢ سبتمبر ٢٠٢٣ بعنوان: "مشروع قانون SREN: الحكومة لا تسمع أى أخبار عن واقع الإنترنت" يؤكد المقال أنه "بسبب الرغبة فى إنشاء رقابة استبدادية وخارجة عن نطاق القضاء وبسبب الرغبة فى وضع حد لإخفاء الهوية على الإنترنت وتكرار الأخطاء التى ارتكبت بالفعل مع قانون أفيا، فإن الحكومة تسير مرة أخرى على المسار الخطأ.
ويهدف قانون الحماية الرقمية إلى وضع حد لإخفاء الهوية عبر الإنترنت تحت غطاء حماية تعرض القاصرين للمواقع الإباحية (المادتان ١ و٢). سيفرض هذا الحكم فى الواقع استخدام الهوية الرقمية والرقابة الإدارية التى ستحل محل الرقابة القضائية حيث يقوم القاضى فقط بالتحقق من شرعية الإجراء ومن خلال قانون الحماية الرقمية الجديد SREN تسعى الحكومة بشكل إلى حجب مواقع مختلفة على الإنترنت وتتطلب المادة ٦ بشكل خاص من المطورين تثبيت الوظائف الفنية التى تسمح بذلك. وأثار هذا المقال انتقادات واسعة بين منشئى الصفحات الذين أدانوا هذا التوجه فى ذلك القانون لأنه "لا ينقض فقط عقود من المعايير الراسخة فيما يتعلق بالإشراف على المحتوى"، ولكنه أيضًا "سيوفر للحكومات الاستبدادية وسيلة لتقليل فعالية الأدوات؛ التى يمكن استخدامها للتحايل على الرقابة".
وفى هذا الصدد ينص القانون على حظر الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN) والتى تتيح إمكانية التحايل على الرقابة الموجودة بالفعل فى جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي. ويحضرنا هنا ما حدث فى فرنسا عندما اضطرت منصات مثل Rumble إلى وقف نشاطها بسبب حظر القنوات الروسية حيث تم حظر العديد من الشبكات الاجتماعية. ومن المثير للاهتمام أن نرى صحيفة لوموند تصف "Rumble" بأنها منصة لـ "اليمين المتطرف"، وبالتالى تسلط الضوء على ذاتية وتحيز الرقابة وتم التخلى أخيرًا عن مشروع حظر الشبكات الافتراضية الخاصة بعد أن أثار الكثر من الاحتجاجات والانتقادات.
هذا بالإضافة إلى إنه يتم تقديم قانون الحماية الرقمية الجديد SREN إلى البرلمانيين كوسيلة لمكافحة الاحتيال، فى حين أن هناك العديد من أدوات الحماية الموجودة بالفعل ضد البرامج الضارة والتصيد الاحتيالي. ووفقا لمقال نشر على مدونة موزيلا، فإن التدابير التى ينص عليها هذا القانون، مثل فرض الحكومة لقوائم الحظر من شأنها أن تؤدى إلى "إنشاء سابقة مثيرة للقلق وقدرات تقنية ستستغلها الأنظمة الأخرى فى المستقبل".. وأكد المقال أن "هذا الإجراء الذى يهدف إلى حجب المواقع مباشرة فى المتصفح سيكون بمثابة كارثة على الإنترنت المجانى ولن يتناسب مع أهداف مشروع القانون".
وبالتالى فإن قانون الحماية الرقمية الجديد الذى يتخفى وراء ستار مكافحة المحتوى الضار والاحتيال سوف يضع حتمًا المبلغين عن المخالفات فى المقعد الساخن وسوف يسحق أى إمكانية لمستخدمى الإنترنت لمواجهة الحقيقة ولن يكون من الممكن بعد الآن التشكيك فى أيديولوجيات أنصار نظرية "الووكيزم"، مثل إضفاء الطابع الجنسى على الأطفال، على وسائل التواصل الاجتماعى فى البلاد. ولكن من المؤكد أن الأمر نفسه ينطبق على فضائح الفساد، على سبيل المثال! وكما يؤكد الخبير فلوريان فيليبو هذا الأمر؛ فإن قانون SREN يفتح الباب أمام حكم التعسف، والذى قد يؤدى فى النهاية إلى تأسيس الاستبداد الرقمي.
قانون يذكرنا بالرقابة التى وضعها الحزب الشيوعى الصينى على الشبكات الاجتماعية
ويتأسس هذا القانون على الرغبة فى محاربة “الكراهية والتلاعب والتضليل”، وهى كلها مفاهيم غير قانونية وذاتية وتعتمد على "من يشرف على القانون".. وفى مقال بعنوان: "الإنترنت فى الصين بين الدولة والرأى العام"، يوضح الأكاديمى جوزيبى ريشيري، الخبير فى الإعلام الصيني، أنه فى عام ٢٠١٧، تم تقنين القواعد المتعلقة بالإنترنت فى شكل قانون وفقًا لإرادة الرئيس الصينى شى جين بينج وذلك بدافع حماية مستخدمى الإنترنت. وفى الحقيقة يشير القانون إلى المحتويات التى لا يمكن تداولها على الإنترنت والتى يجب مراقبتها من خلال سلسلة من الآليات التلقائية، ولكن أيضا من خلال التعاون المباشر مع الشركات التى تقدم الخدمات عبر الشبكات. يُطلب من هذه الشركات عدم السماح بالوصول إلى المواقع التى لا تحترم القواعد وإبلاغ السلطات عنها. ويحدث نفس الشيء للبريد الإلكتروني: فالرسائل التى تتضمن محتوى سياسى "خطير"، أو عنيف أو إباحى أو من أى نوع آخر، يتم حظرها تلقائيًا بفضل تطبيقات برمجية ومقدمى خدمات محددين. كما يجب أن تشير الخدمات إلى هوية الأشخاص الذين أرسلوها وهكذا لم تتمكن شركات فيسبوك وتويتر (X) ونيتفليكس وغيرها التى لم تقبل هذه القواعد القمعية من دخول الصين.
ويبدو أن نموذج الصين الشيوعية يغرى زعماءنا الأوروبيين، وهذا مؤسف للغاية! ولذلك ومن أجل إنقاذ ما تبقى من حرياتنا الفردية وروحنا النقدية فمن الأفضل للفرنسيين أن ينظروا عبر المحيط الأطلسي، حيث يوجد مشروع قانون بشأن حماية حرية التعبير من قبل أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين راند بول وجيم جوردان انطلاقا من فكرة مفادها أن الرقابة تشكل الآن تهديدًا كبيرًا اليوم حيث قال بول راند فى هذا الشأن "الأميركيون شعب حر ونحن لا نتعامل مع الهجمات على حرياتنا باستخفاف.. لقد حان الوقت للمقاومة واستعادة حقنا الذى منحه الله لنا فى حرية التعبير.. وبموجب قانون حماية حرية التعبير لن تتمكن الحكومة من الاختباء وراء "والحياة الشخصية والسرية" لتقويض حقوق الأمريكيين مع التعديل الأول للدستور.. وفى الحقيقة، الحريات الأساسية للفرنسيين تستحق أكثر من أى وقت مضى، الدفاع عنها من خلال قانون جديد لصالح حرية التعبير؛ فهل يتمكن الجماهير والمواطنون من إدراك حجم هذا التحدي؟
آنا بوفرو: متخصصة فى المجالين الروسى والتركى حاصلة على دكتوراة فى الدراسات السلافية من جامعة السوربون وتخرجت فى جامعة بوسطن فى العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، لها العديد من الكتب فى الجغرافيا السياسية وتعمل فى معهد دراسات الدفاع الوطنى المتقدمة.. تتناول قانون حماية الخدمات الرقمية الجديد فى دول الاتحاد الأوروبى، والذى تعتبره قيدًا على حرية التعبير على الإنترنت.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: أوروبا حرية التعبير الشبکات الاجتماعیة الاتحاد الأوروبى الاتحاد الأوروبی الخدمات الرقمیة حریة التعبیر على الإنترنت من خلال من قبل
إقرأ أيضاً:
مختصون: حماية الطفل في البيئة الرقمية مسؤولية تكاملية بين الأسرة والمدرسة
أوضح مختصون أن حماية الطفل في البيئة الرقمية مسؤولية تبدأ من الأسرة، وتتكامل مع المدرسة، وترتكز على وعي نفسي وتربوي عميق، وتؤكد رؤى هؤلاء المختصين في استطلاع أجرته "عُمان" أن الحل لا يكمن في المنع أو التدخل المتأخر، بل يبدأ من بناء علاقة قائمة على الثقة والتواصل، وتطوير مهارات الطفل والأسرة معًا لمواجهة عالم تتقاطع فيه الفرص مع المخاطر.
المحتوى العنيف
قالت فهيمة السعيدية عضوة جمعية الاجتماعيين العمانية: إن الاستخدام الواسع للتقنيات الرقمية دون تنظيم أو وعي يفرض تحديات مباشرة على سلوكيات الأطفال، خصوصًا عند تعرضهم المتكرر لمحتوى عنيف أو متطرف، مشيرة إلى أن هذا النوع من المحتوى ينعكس بوضوح على النمو الاجتماعي والنفسي والأخلاقي؛ إذ يتولد لدى الطفل ميل أكبر لاستخدام العنف اللفظي أو الجسدي في التعامل مع الآخرين باعتباره وسيلة لحل الخلافات أو التعبير عن الغضب.
وبيّنت أن مشاهدة الأطفال المستمرة للمحتوى العنيف تؤدي إلى ارتفاع مظاهر التنمر بأشكاله المختلفة، وإلى تراجع السلوكيات الاجتماعية الإيجابية مثل التعاون والمساعدة والتعاطف، وتنمية النزعات العدائية لديهم؛ حيث إن بعض الأطفال قد يتأثرون بالأفكار المتطرفة التي تظهر في بعض المنصات الرقمية، مما ينعكس على شعور الانتماء الوطني والديني، ويزيد من احتمالية الانخراط في سلوكيات غير مسؤولة أو مهددة للسلامة.
وحول تعرض الأطفال لتنمر إلكتروني، أوضحت السعيدية أنه يمكن رصد ذلك من خلال مجموعة من العلامات النفسية والسلوكية، من بينها القلق المفاجئ، والخوف عند تلقي رسائل على الهاتف، أو إظهار توتر ملحوظ عند اقتراب أحد أفراد الأسرة من الجهاز، وبيّنت أن بعض الأطفال يميلون إلى العزلة والانسحاب الاجتماعي، وقد تظهر عليهم أعراض جسدية كالإرهاق المستمر، وفقدان الشهية، أو آلام البطن والصداع دون سبب طبي واضح. كما أكدت أن التراجع المفاجئ في المستوى الدراسي يعد من المؤشرات المهمة، إذ يلجأ بعض الأطفال إلى التغيب عن المدرسة أو إهمال الواجبات الدراسية بسبب الضغط النفسي الذي يرافق تجربة التنمر الرقمي.
علاقة حوارية
وأشارت إلى أن الأسرة قادرة على بناء علاقة حوارية داعمة من خلال تبنّي أسلوب تواصل إيجابي يتيح للطفل التحدث بأريحية عن تجاربه في الإنترنت، وبيّنت أن مشاركة الوالدين لخبراتهم الرقمية، أو مناقشة المحتوى الذي يفضله الطفل، يعزز ثقته ويجعله يعتبر الأسرة خط الدفاع الأول في حال تعرضه لأي مشكلة، وأن الأنشطة الرقمية المشتركة مثل لعب ألعاب يحبها الطفل أو تصفح مواقع يفضلها تخلق مساحة آمنة للحوار، مضيفة إن إشراك الطفل في وضع قواعد الاستخدام الآمن للأجهزة يرسخ لديه الشعور بالمسؤولية ويقوي العلاقة التواصلية داخل الأسرة.
علامات الخطر الرقمية
أوضح الدكتور سالم بن راشد البوصافي مشرف إرشاد نفسي بتعليمية مسقط أن المدرسة تشكل خط حماية مهمًا بجانب الأسرة، إذ تتعامل مع حالات المحتوى غير الآمن أو التنمر الإلكتروني وفق منهجين متكاملين: الوقائي والعلاجي، مبيّنًا أن المنهج الوقائي يقوم على نشر ثقافة الوعي الرقمي بين الطلبة من خلال الحصص التوجيهية والبرامج الإرشادية والإذاعة المدرسية، بهدف ترسيخ قيم الاحترام والمسؤولية في التفاعل الإلكتروني، وتشجيع الطلبة على الإبلاغ عن أي تجربة ضارة.
وأشار إلى أن المنهج العلاجي يُفعّل فور رصد حالة تنمر، حيث يتم تقييم الوضع من حيث الخطورة النفسية والاجتماعية، وأن الأخصائي النفسي والاجتماعي في المدرسة يقدم الدعم العلاجي للطالب المتعرض للتنمر، من خلال الجلسات الإرشادية الفردية التي تسهم في تعزيز الشعور بالأمان واستعادة التوازن الانفعالي.
وبيّن البوصافي أن الطالب المتسبب في التنمر يخضع لبرامج تهدف إلى تعديل السلوك وتعزيز القدرة على ضبط الذات والانفعالات، إلى جانب رفع وعيه الرقمي وتأكيد احترامه لحقوق الآخرين، كما أن التعاون بين الأسرة والمدرسة يمثل ركيزة أساسية لضمان بيئة رقمية آمنة للطفل، وأن المتابعة المستمرة من الطرفين تعد أحد أهم ضمانات الحماية.
دور الإرشاد الأسري
تشير ابتسام الحبسية أخصائية نفسية بوزارة التنمية الاجتماعية إلى أن التغيرات التي فرضتها الثورة الرقمية دفعت الأسر لمواجهة تحديات غير مسبوقة، حيث لم يعد التعامل مع التكنولوجيا مقتصرًا على المنع أو الرقابة، بل أصبح ضروريًا أن تمتلك الأسرة فهمًا عميقًا لسلوك الطفل في العالم الرقمي، موضحة أن البرامج الإرشادية الحديثة في سلطنة عُمان باتت تركز على التنشئة الرقمية الواعية، وذلك ضمن مبادرة شملت جميع محافظات سلطنة عُمان بهدف تعزيز مهارات الوالدين في التعامل مع البيئة الرقمية.
وأوضحت الحبسية أن ردود فعل الوالدين تجاه سلوك الأبناء الرقمي غالبًا ما تكون نابعة من قلق طبيعي، لذلك يجب أن يتم تدريبهم على تقنيات تساعدهم على التهدئة وإعادة تأطير الموقف قبل معالجة سلوك الطفل، مؤكدة أن هذه المهارات تعزز وجود بيئة أسرية هادئة تقل فيها الصدامات الناتجة عن الغضب أو سوء الفهم.
وبيّنت أن تمكين الأسرة من التفكير التحليلي خلال التعامل مع المحتوى يعد أحد أقوى أدوات الحماية؛ إذ يساعد الوالدين والأبناء على التمييز بين الموثوق والمضلل، ويجب على الأسرة أن تُدرَّب على طرح أسئلة عند مشاهدة أي محتوى، من بينها: هل هذا المصدر موثوق؟ ما هدف الرسالة؟ هل ما يُعرض حقيقي أم مبالغ فيه؟ حيث إن هذه القدرة الذهنية ستسهم في حماية الجميع من الوقوع في التضليل أو الخوف المبالغ فيه.
التواصل الآمن
أوضحت الحبسية أن الأسرة تحتاج إلى قراءة "الإشارات الحمراء" التي قد تدل على تعرض الطفل لمحتوى ضار، لكن الأهم هو توفير قناة تواصل يشعر فيها الطفل بأنه مسموع وآمن، وبيّنت أن أسلوب الحديث هو العامل الفارق، فطرح الأسئلة بلهجة اتهامية يغلق أبواب الحوار، بينما الأسلوب الهادئ يبعث الطمأنينة ويشجع الطفل على الإفصاح.
وأشارت إلى أن التواصل الآمن يُبنى عبر تفاصيل صغيرة لكنها مؤثرة، مثل مشاركة الطفل محتوى يحبه، أو فتح نقاش حول لعبة جديدة، أو المرافقة الهادئة عند ملاحظة سلوك غير معتاد، مؤكدة أن بناء علاقة تقوم على الثقة يبدأ بالحضور العاطفي، بمعنى أن يشعر الطفل بأن والديه قريبان من عالمه الرقمي دون أن يمارسا دور الرقيب الصارم، وبيّنت أن مشاركته في وضع قواعد رقمية مشتركة مثل تحديد أوقات الاستخدام أو مراجعة التطبيقات يجعله شريكًا في القرار، مما يقلل من التوتر والتمرد.
كما أشارت إلى أن لحظة تعرض الطفل لموقف مزعج تعد اختبارًا حقيقيًا للعلاقة، إذ تمثل ردة فعل الوالدين العنصر الحاسم فيما إذا كان الطفل سيحكي أو سيخفي الأمر، وأكدت أن استخدام عبارات مثل "أشكرك على صراحتك" أو "دعنا نتحدث معًا عن كيفية منع تكرار ذلك" كفيل بطمأنة الطفل وتعزيز ثقته.
وبيّنت ابتسام الحبسية أن بناء علاقة تواصل آمنة ليست خطوة واحدة، بل هي ممارسات يومية تتشكل من نبرة لطيفة، وسؤال بسيط، وقواعد واضحة، لتقول للطفل في كل مرة كلمات بمعنى: "أنت محبوب حتى إذا أخطأت".