الحرب على الحقيقة.. لماذا تتعمد إسرائيل استهداف الصحفيين الفلسطينيين؟
تاريخ النشر: 4th, December 2023 GMT
إذا كنت مواطنا فلسطينيا، فأنت بالتأكيد مُعرَّض للخطر اليومي منذ لحظة ولادتك، أما لو كنت تعيش في غزة، فهذا يعني أنك تراوغ الموت في كل لحظة ما بين القصف والحصار ونقص المساعدات الطبية وشح الماء والغذاء. لكن إذا كنت صحفيا فلسطينيا في غزة، فالأمر يتحول إلى كابوس حقيقي، حيث تنال حصتك الكاملة من المخاطر بصفتك فلسطينيا، يعيش في غزة ويعمل في مهنة خطرة بطبيعتها، وبالإضافة إلى ذلك تصبح مستهدفا بشكل متعمد وبطريقة ممنهجة تتجاوز الخطورة الطبيعية التي تحملها مهنة الصحافة الميدانية.
وفقا لآخر حصيلة نشرتها نقابة الصحفيين الفلسطينيين قبل الهدنة في غزة، استشهد 70 صحفيا وعاملا في مجال الإعلام منذ انطلاق الحرب الدموية التي شنَّها الاحتلال في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. بدوره، وثَّق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان استشهاد أكثر من 60 صحفيا حتى 19 نوفمبر/تشرين الثاني، وهو ما يجعل هذه الفترة الأكثر دموية بالنسبة للصحفيين منذ عام 1992، إذ لم يتجاوز عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين وثَّقت لجنة حماية الصحفيين مقتلهم على مدار عقد كامل منذ 1992 وحتى مايو/أيار 2022 أقل من نصف هذا العدد (1) (2).
قتل متعمد بدم بارد، وترويع واعتقالات، واستهداف لأفراد العائلة والمنازل والممتلكات، هذه هي وقائع الحياة اليومية للصحفيين في قطاع غزة، هذا إلى جانب التهديدات والاعتقالات خارجها في بقية أنحاء فلسطين، في محاولات لا تنتهي من الاحتلال لإسكات صوت الحقيقة الذي يفضح ممارساته ويُعرّي مزاعمه أمام العالم.
القتل اليومي المتعمد
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة ونحن نشهد هذا الانحياز الغربي غير المسبوق في صف السردية الإسرائيلية، وهو ما حاربه الصحفيون والمراسلون الصحفيون الموجودون داخل قطاع غزة منذ اليوم الأول، بمحاولاتهم المستمرة لكشف جرائم الإبادة العِرقية التي تقوم بها قوات الاحتلال، وهو ما تواجهه الأخيرة بدرجة غير مسبوقة من التعمد الواضح لقتل الصحفيين وترويعهم سعيا وراء طمس واقع ما يحدث على الأرض ومنع وسائل الإعلام من نشر الحقيقة.
ولا تقتصر الاعتداءات الإسرائيلية على الصحفيين في الميدان، بل تمتد إلى قصف أفراد عائلاتهم في البيوت، وهو ما عبَّر عنه الزميل وائل الدحدوح، مدير مكتب الجزيرة في غزة، بعبارته: "بينتقموا منا في الولاد". وكان الدحدوح قد تلقى على الهواء مباشرة، أثناء تغطيته للقصف المتواصل على قطاع غزة في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نبأ استشهاد زوجته وأبنائه وعدد من أفراد عائلته في غارة جوية إسرائيلية، إثر قصف الاحتلال منزلهم في مخيم النصيرات وسط غزة، وهو المنزل الذي لجأوا إليه بعد قصف حيّهم وعقب دعوة قوات الاحتلال الإسرائيلية للمدنيين إلى التحرك باتجاه جنوب قطاع غزة.
هذا القصف لم يأتِ مصادفة، فقد علَّق محرر الشؤون الفلسطينية في القناة 13 الإسرائيلية تسفي يحزقيلي قائلا إن عائلة مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة وائل الدحدوح كانت هدفا لقصف جيش الاحتلال، مؤكدا أن قوات الجيش تعرف ما تضربه بالضبط.
ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي يستهدف فيها الاحتلال الصحفيين عمدا، إذ واصلت إسرائيل استهدافها المتعمد لمنازل الصحفيين الفلسطينيين، واتسعت قائمة الجرائم لتشمل على سبيل المثال لا الحصر استهداف منزل محمد أبو حطب، مراسل التلفزيون الفلسطيني، ليستشهد مع 11 فردا من أسرته. وهناك أيضا استشهاد الصحفي في "وكالة وفا" محمد أبو حصيرة مع أكثر من أربعين فردا من أفراد عائلته، وإصابة زميله محمد حمودة في قصف استهدف منزليهما (3).
لا يقتصر الأمر على الصحفيين أفرادا فقط، ولا على عائلاتهم، فقد قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلية أكثر من 50 مقرا إعلاميا أجنبيا ومحليا داخل قطاع غزة خلال الفترة الماضية، من بينها مكاتب عدد من المؤسسات الإعلامية في برج الغفري في غزة، الذي يضم وكالة الأنباء الفرنسية، وقناة الجزيرة، وقناة الشرق، والمجموعة الإعلامية الفلسطينية. كما تعطلت الإذاعات الأربعة والعشرون في قطاع غزة وتوقفت عن البث بسبب نفاد مصادر الطاقة.
وقد حذرت قوات الاحتلال بشكل مباشر بعض وكالات الأنباء العالمية من عدم قدرتها على ضمان سلامة موظفيها أثناء القصف، من بينها وكالة رويترز التي علقت على هذا التحذير بأنه "يهدد قدرة موظفيها على إيصال الأخبار حول الصراع دون خوف من الإصابة أو القتل" (4).
وخارج غزة أيضا
لا يقتصر الترويع ومحاولات تكميم الأفواه على الصحفيين في غزة، حيث شهدت الضفة الغربية موجة واسعة من الاعتقالات والمضايقات التي طالت عشرات الصحفيين الفلسطينيين. على سبيل المثال، تعرض الصحفيان مهند توتونجي وهيثم أبو دياب من فريق "بي بي سي" للاحتجاز تحت تهديد السلاح بينما كانا في سيارتهما التي تحمل علامة الصحافة.
كما اقتحمت قوات الاحتلال منازل عشرات الصحفيين في الضفة واحتجزتهم وعرَّضتهم للتنكيل والتهديد، من بين أبرزهم أمير أبو عرام، الصحفي في شبكة الإرسال، والصحفي المستقل محمد أحمد عبيد، والصحفي مصعب إبراهيم سعيد، كما ألقت قوات الاحتلال أيضا القبض على الصحفية سمية جوابرة رغم كونها حاملا في شهرها السابع، واقتحمت السلطات الإسرائيلية عددا من المطابع في مدينة الخليل وصادرت محتوياتها وأغلقتها (5).
ولا يقتصر الترويع وتقييد حرية الصحافة على الصحفيين الفلسطينيين فقط، بل يمتد أيضا إلى الصحفيين الإسرائيليين أنفسهم، وإلى كل صوت يجرؤ على أن يطرح سردية بديلة عن السردية الرسمية الإسرائيلية، فقد اعتقلت السلطات الإسرائيلية الصحفي الإسرائيلي اليساري يسرائيل فراي واستجوبته، مع توجيه التحذيرات له بعد كتابته لتغريدات يشيد فيها بالمقاومة الفلسطينية، لاستهدافها أهدافا عسكرية وليست مدنية، وحققت معه بتهمة التحريض على الإرهاب والعنف، وهو ما وصفته محامية فراي باعتباره اعتقالا سياسيا يهدف إلى الترهيب والإسكات والردع (6).
شيرين أبو عاقلة.. نمط يكشف عن غياب العدالة
ربما يُعَدُّ مشهد استشهاد مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة واحدا من أبرز المواقف الشاهدة على مدى تعمد الجيش الإسرائيلي لاستهداف الصحفيين، وغياب آليات المحاسبة والتحقيق الناجعة. سجلت الكاميرات مشهد القتل الدموي بتفاصيله ليُذاع في مختلف الشبكات الإخبارية حول العالم، ورغم ذلك امتلكت سلطات الاحتلال الإسرائيلي من الوقاحة ما مكَّنها من إنكار ارتكابها لجريمة متعمدة، قبل أن تُواجَه بمجموعة من الأدلة الدامغة، من بينها تقرير الهيئة التابعة للأمم المتحدة بأن القوات الإسرائيلية استخدمت "القوة المميتة دون مبرر" في استهدافها شيرين أبو عاقلة، بالإضافة إلى التحقيقات التي نشرتها شبكة "سي إن إن" وصحيفة "نيويورك تايمز" حول الواقعة، وتأكيدات شهود العيان والمحللين الجنائيين أن مقتل شيرين أبو عاقلة كان استهدافا متعمدا وليس عشوائيا (7) (8).
ورغم بشاعة الجريمة، لم تمضِ سوى أشهر قليلة على اغتيال أبو عاقلة قبل أن تقتل قوات الاحتلال الصحفية والأسيرة المحررة غفران وراسنة بطلقات استهدفت الجزء العلوي من الجسد. وفيما يبدو، تحظى عمليات الاغتيال الإسرائيلية للصحفيين بقبول ودعم سياسي، فقد صرح عضو الكنيست الإسرائيلي (ووزير الأمن القومي حاليا) إيتمار بن غفير في تغريدة نشرها في اليوم نفسه الذي قُتلت فيه شيرين أبو عاقلة بأنه يؤيد إطلاق النار على الصحفيين الذين يعيقون عمل الجنود، على حد زعمه.
تُعَدُّ قضية استهداف شيرين أبو عاقلة كذلك تطبيقا عمليا يوضح النمط الذي تتعامل به إسرائيل مع الأدلة في مثل تلك القضايا، وترتبط الدرجة التي تحقق بها إسرائيل في عمليات اغتيال الصحفيين بحجم الضغوط الخارجية، حيث تقل احتمالية إجراء التحقيقات في حالات الصحفيين الفلسطينيين، عدا حالات قليلة ومعدودة تعرضت فيها قوات الاحتلال لضغوط دولية قوية، مثل حالة شيرين أبو عاقلة التي تحمل جوازَ سفرٍ أميركيا، وحتى في هذه الحالات أشارت لجنة حماية الصحفيين إلى وجود نمط متكرر للتهرب والإفلات من المحاسبة.
في مايو/أيار الماضي، وفي حوار لـ"روبرت ماهوني" من لجنة حماية الصحفيين مع شبكة "NPR"، وصف ماهوني نظام التحقيق الذي أنشأه جيش الاحتلال الإسرائيلي بأنه مُصمَّم من أجل التهرب من المسؤولية وحماية جنوده من الملاحقة القضائية، حيث تعمد السلطات الإسرائيلية عند فتح أي تحقيق لأن يستغرق الأمر وقتا طويلا بحيث تضيع الأدلة، أو تتعرض للإتلاف العمدي، وتسقط التفاصيل وتتلاشى من رؤوس الشهود، ولذلك برأيه لا يخضع أحد للمساءلة أو المحاسبة.
وهكذا تستمر التحقيقات لأشهر أو لسنوات وتنتهي بتبرئة المجرمين، وغالبا ما تُستبعد إفادات الشهود أو التقارير المستقلة. وطبقا لتصريح غيوم لا فاليه، رئيس جمعية الصحافة الأجنبية في إسرائيل: "إذا كان من الممكن قتل مراسل يحمل جوازَ سفرٍ أميركيا دون عواقب قانونية، فإن الصحفيين يخشون من مصير مماثل يمكن أن ينتظرهم بسهولة في المستقبل" (9).
انبثق نظام التحقيق العسكري الإسرائيلي الحالي من لجنة تيركل، وهي اللجنة التي شكَّلتها الحكومة الإسرائيلية عام 2010 لدراسة جوانب القانون الدولي الخاصة بعملية فرض الحصار البحري على قطاع غزة، وللتحقيق فيما إذا كانت تحترم التزامات دولة إسرائيل عملا بقواعد القانون الدولي. وقد شُكِّلت اللجنة وسط مخاوف من احتمال اعتقال مسؤولين إسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ومن أجل تجنب المحكمة الجنائية الدولية.
ومنذ عام 2014، فتح الجيش الإسرائيلي تحقيقات لتقصي الحقائق في مقتل خمسة صحفيين فقط، بمَن فيهم شيرين أبو عاقلة، كما فتح تقييما لتقصي الحقائق في قصف واسع النطاق أسفر عن مقتل ثلاثة صحفيين آخرين خلال عملية "الجرف الصامد" الإسرائيلية في غزة عام 2014، وهو ما يطرح تساؤلات حول إمكانية وجود صحافة حرة بينما لا يشعر الصحفيون بالأمان (10).
أن تتحول حياتك إلى قصة أخرى دامية
"نحن ضحايا على الهواء مباشرة، هذه الدروع والقبعات التي نرتديها هي شعارات لا تحمينا على الإطلاق"، هكذا ردد مراسل "تلفزيون فلسطين" وهو يخلع الدرع والخوذة اللتين تحملان كلمة "صحافة" ويلقي بهما على الأرض، وقد كفر بإمكانية أن توفر له أو لزملائه أي حماية من أي نوع.
المعنى نفسه عبَّرت عنه الصحافية بلستيا العقاد مؤخرا، وقد نشرت على حسابها بموقع إنستغرام صورة لدرع وخوذة الصحافة وعلقت عليها قائلة: "اعتدت دائما ارتداء درع وخوذة الصحافة، لكن مؤخرا توقفت عن ارتدائهما، لا أشعر بالأمان في غزة، وخاصة وأنا أرتدي درع وخوذة الصحافة، أتمنى أن ينتهي الكابوس قريبا وألا نفقد المزيد من الصحفيين".
يوميا، يتحول الصحفيون الفلسطينيون وعائلاتهم إلى قصص مؤلمة ودامية يضطر زملاؤهم لتغطيتها على الهواء، دون أفق لنهاية الاستهداف المُمنهج للصحفيين في ظل استمرار الوحشية الإسرائيلية والتواطؤ الغربي.
———————————————————————————————-
المصادر:1-Explore CPJ’s database of attacks on the press
2- Data on casualties
3-Palestinian journalist Mohammad Abu Hasira killed in Israeli strike on Gaza | Israel-Palestine conflict News | Al Jazeera
4- Israeli military says it can’t guarantee journalists’ safety in Gaza
5-مدى: القيود المفروضة على الصحفيين في فلسطين والعالم لن تسكت أصواتهم الحرة (madacenter.org)
6-اعتقال صحفي يساري بسبب تغريدات تشيد بمنفذي الهجمات الفلسطينيين – تايمز أوف إسرائيل (timesofisrael.com)
7-They were shooting directly at the journalists’: New evidence suggests Shireen Abu Akleh was killed in targeted attack by Israeli forces
8- The Killing of Shireen Abu Akleh: Tracing a Bullet to an Israeli Convoy
9- Attacks, arrests, threats, censorship: The high risks of reporting the Israel-Gaza war
10- الجيش الإسرائيلي لم يحاسب على الصحفيين الذين قتلهم على مدى السنوات ال 20 الماضية، حسب منظمة حرية الصحافة | سي (cnn.com)
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الصحفیین الفلسطینیین الاحتلال الإسرائیلی الجیش الإسرائیلی شیرین أبو عاقلة قوات الاحتلال على الصحفیین الصحفیین فی قطاع غزة فی غزة وهو ما
إقرأ أيضاً:
إبادة بلا ضجيج.. اغتيال الأدباء والمفكرين في غزة
في منزله بحي النصر بمدينة غزة، استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي الشاعر والروائي الفلسطيني سليم النفار، عبر قصف منزله بصاروخ من طائرة حربية، فبقي تحت ركام بيته شهورا طويلة قبل أن ينتشل مع زوجته وبناته وابنه الوحيد مصطفى، وأخته وزوجها وأولادهما.
كان استهداف النفار في السابع من ديسمبر/كانون الأول 2023، وجاء مباشرا في إطار عملية اغتيال محددة نفذها الاحتلال الإسرائيلي ضد روائي فلسطيني وعضو الأمانة العامة السابق للاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين.
لم تجد "الجزيرة نت" أحدا من أفراد عائلته الصغيرة على قيد الحياة للحديث معهم وسرد ما جرى، إذ استشهد جميعهم في القصف الإسرائيلي الذي استهدف المنزل.
تحمل السيرة الأدبية للشهيد النفار مسيرة حافلة بالعطاء الثقافي؛ فقد درس الأدب العربي في جامعة تشرين بسوريا، وأسس هناك ملتقى "أبو سلمى" السنوي للمبدعين الشباب عام 1986، ثم ساهم في تأسيس جمعية الإبداع الثقافي في غزة عام 1997.
شغل النفار منصب مدير في وزارة الثقافة الفلسطينية، كما عمل محررا أدبيا في مجلات نضال الشعب والزيتونة والأفق.
وأقرت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية قصيدته الشهيرة "يا أحبائي" ضمن منهاج الصف الثالث الإعدادي.
أصدر الشهيد عدة مجموعات شعرية بارزة، منها تداعيات على شرفة الماء، سور لها، بياض الأسئلة، شرف على ذلك المطر، حالة وطن وقصائد أخرى، الأعمال الشعرية الناجزة، وحارس الانتظار، كما ألّف كتابين: هذا ما أعنيه وذاكرة ضيقة على الفرج، إضافة إلى روايتيه: فوانيس المخيم وليالي اللاذقية.
خارج فلسطين، ترجمت قصيدته الشهيرة "تحت الحصار" ونشرت في مجموعة "الطائر ليس حجرا" التي صدرت في أسكتلندا عام 2014، وضمت مختارات لـ25 شاعرا وشاعرة فلسطينيين، كما مثل بلاده في مهرجانات شعرية في بغداد وجرش والدوحة وأسكتلندا.
إعلانيعد النفار واحدا من ثلة المثقفين الذين نفذت "إسرائيل" عمليات اغتيال بحقهم ضمن سياسة ممنهجة لطمس الثقافة وسلب الهوية الفلسطينية، إلى جانب تدمير المراكز الثقافية والفنية والتعليمية والمعالم الأثرية والدينية.
رفعت العرعيركان الشاعر ومدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية بقطاع غزة رفعت العرعير من بين أهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي في بداية عدوانه على القطاع.
اغتال الجيش العرعير في السادس من ديسمبر/كانون الأول 2023، قبل يوم واحد من اغتياله للروائي سليم النفار، من خلال استهداف منزل شقيقته في شمال مدينة غزة.
درس رفعت لسنوات طويلة الشعر والأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية بغزة، حيث شرح أعمال شكسبير وتوماس وايت وجون دون وويلفريد أوين وغيرهم، كما حرر كتابي "غزة لا تصمت" و"غزة تكتب مرة أخرى"، واستشهد في القصف أيضا شقيقه وشقيقته وأطفالها الأربعة.
في حي الرمال وسط مدينة غزة، تجلس أم هاني العرعير في بيتها الذي غمره الصمت بعد أن رحل عنه صوت ابنها عمر، الأديب والمثقف الغزي البارز.
تروي أم هاني لـ"الجزيرة نت" تفاصيل الأيام الأخيرة في حياة ابنها، وتقول: "كان عمر يسكن في حي تل الهوى، وحين اشتد القصف هناك، قرر النزوح إلى حي الدرج شرق غزة عند بيت شقيقته، بينما بقينا نحن في منزلنا في حي الرمال، وكنت أطلب منه أن يأتي إلينا، لكن عدم توفر المياه دفعه للبقاء في مكانه".
في السادس من ديسمبر/كانون الأول 2023، استهدفت طائرات الاحتلال منزل شقيقته في حي الدرج بشكل مباشر، وفي تلك اللحظة انطفأ نور بيت العائلة؛ إذ استشهد عمر (44 عاما) مع شقيقه صلاح وزوجته وابنه محمد، وشقيقته أسماء وأطفالها علاء ومحمد وندى.
تقول الأم: "ما حدث لم يكن مصادفة، كان اغتيالا مقصودا، أرادوا أن يقتلوا صوته".
ولم تكتفِ "إسرائيل" بذلك؛ ففي أبريل/نيسان 2024 استشهدت شيماء، ابنة عمر البكر، مع زوجها وطفلها عبد الرحمن (3 أشهر)، لتضيف الأم فصلا جديدا من الحزن إلى روايتها الطويلة مع الفقد.
View this post on Instagram نور الدين حجاجأما الهدف الآخر من عمليات الإبادة الثقافية، فكان الكاتب والشاعر والروائي نور الدين حجاج، الذي قتل في قصف مباشر نفذه جيش الاحتلال على منزله في حي الشجاعية شرق مدينة غزة في الثالث من ديسمبر/كانون الأول 2023.
الشهيد حجاج من أعلام قطاع غزة في الرواية، حيث صدرت له روايتان "غريب وغريبة" عام 2018 و"أجنحة لا تطير"، ومؤلف مسرحية "الرماديون"، كما كان ناشطا في مبادرة شغف الثقافية وتجمع قرطبة وأيام المسرح.
كان الشهيد نور الدين حجاج من أبرز أعلام الرواية في قطاع غزة؛ إذ صدرت له روايتان هما "غريب وغريبة" عام 2018 و"أجنحة لا تطير"، إضافة إلى تأليفه مسرحية "الرماديون"، كما كان ناشطا في مبادرة شغف الثقافية، وعضوا في تجمّع قرطبة وأيام المسرح، حيث عرف بدوره الفاعل في المشهد الثقافي الفلسطيني.
قضى الشاعر الفلسطيني عمر أبو شاويش في الساعات الأولى من الحرب على قطاع غزة، إثر استهداف إسرائيلي مباشر أثناء خروجه من منزله في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
إعلانيمتلك أبو شاويش سيرة أدبية حافلة بالمساهمات، من أبرزها رواية "الكل على قيد الموت"، وقصيدته الملحمية "ملحمة الطريق الساحلي".
نال جائزة الشباب العربي المتميز على مستوى الوطن العربي من مجلس الشباب العربي للتنمية المتكاملة التابع لجامعة الدول العربية.
شارك أبو شاويش في معرض تورينو الدولي للكتاب، لكنه انسحب احتجاجا على مشاركة حكومة الاحتلال ضمن فعاليات المعرض، كما شارك في مهرجان أوسلو للصداقة الدولي الثقافي والرياضي بصفته كاتبا، وفي المؤتمر العربي العالمي لقضايا الشباب في الفكر والثقافة بالقاهرة.
هبة أبو ندىنزحت الكاتبة والأديبة الفلسطينية هبة أبو ندى من منزلها في مدينة غزة إلى خان يونس جنوب القطاع بحثا عن الأمان، إلا أن الصاروخ الإسرائيلي أدركها هناك، فاستشهدت في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024، بعد أن أصاب القصف المنزل الذي لجأت إليه مع عائلتها، مما أدى إلى استشهادها فورا.
تركت الشهيدة هبة أبو ندى بصمة أدبية واضحة في المشهد الثقافي الفلسطيني؛ من أبرز أعمالها رواية "الأكسجين ليس للموتى"، التي فازت بالمرتبة الثانية في مسابقة الشارقة الثقافية عام 2017، كما كتبت 3 دواوين شعرية هي: "العصف المأكول"، و"شاعر غزة"، و"أبجدية القيد الأخير".
تبين أن جيش الاحتلال الإسرائيلي نفذ عمليات اغتيال ممنهجة ضد عدد من الأدباء والشعراء والكتاب الفلسطينيين، إضافة إلى تدمير المتاحف وسرقة الآثار، في إطار سياسة استهدفت الثقافة الفلسطينية خلال حرب الإبادة الجماعية.
ووثقت "الجزيرة نت"، استنادا إلى بيانات وزارة الثقافة الفلسطينية ورصدٍ ميداني، استشهاد 118 كاتبا ومثقفا، وتدمير جيش الاحتلال خلال عدوانه على قطاع غزة 25 مركزا وجمعية ثقافية، و30 مؤسسة ثقافية، و87 مكتبة، و8 دور نشر ومطابع، و200 موقع أثري وتراثي، إضافة إلى 2100 ثوب وقطعة مطرزة من مقتنيات المتاحف.
كما وثقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) أضرارا لحقت بـ 110 مواقع ثقافية في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شملت 13 موقعا دينيا، و77 مبنى ذا أهمية تاريخية أو فنية، و3 مستودعات للممتلكات الثقافية المنقولة، و9 صروح أثرية، ومتحفا واحدا، و7 مواقع أثرية أخرى.
المدير العام لوزارة الثقافة، عارف بكر، أكد أن ما جرى في قطاع غزة من استهداف للمبدعين والمثقفين والشعراء والأدباء، والمراكز والمنشآت الثقافية ومكونات المشهد الثقافي الفلسطيني يعد جريمة مزدوجة، لأنها ليست مجرد اعتداء على الأرواح والمباني، بل هجوم مباشر على الذاكرة والهوية الفلسطينية.
وفي حديثه لـ"الجزيرة نت"، أوضح بكر أن استهداف المراكز الثقافية، المكتبات، المسارح، المتاحف، والعقول المبدعة من شعراء ورسامين وموسيقيين ومسرحيين، يمثل محاولة ممنهجة لطمس الرواية الفلسطينية وكسر أدوات التعبير والوعي.
وبين أن الاحتلال استهدف وقتل المئات من المثقفين والمبدعين الأدباء والشعراء والكتاب والفنانين والمصورين والمخرجين والمسرحيين الذين كانوا ينقلون صورة غزة وفلسطين إلى العالم.
وأشار بكر إلى أن العمل جارٍ على تنظيم قاعدة بيانات شاملة لتوثيق الجرائم التي استهدفت المبدعين والمؤسسات الثقافية في غزة، بهدف حصر أعداد المثقفين والأدباء والفنانين الذين طالتهم الاعتداءات المباشرة أو غير المباشرة، مؤكدا أن التوثيق سيتم بأعلى درجات الدقة والمصداقية بالتعاون مع جهات محلية ودولية.
أبرز المواقع الأثرية المدمّرة في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023#الجزيرة pic.twitter.com/K2XlHqatyj
— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) September 18, 2025
وبين أن استهداف البنية الثقافية في غزة لا يمكن اعتباره ضررا جانبيا، بل هو شكل من أشكال الإبادة الثقافية، وفق المفهوم الدولي، حتى وإن لم يدرج بعد في بعض الأطر القانونية.
إعلانوأضاف أن تدمير المراكز الثقافية والمكتبات والمتاحف والجامعات واستهداف المبدعين والكتّاب لم يكن عرضيا، بل جاء ضمن نمطٍ متكررٍ ومقصودٍ يضرب عصب المجتمع الفلسطيني ويهدف إلى إسكات الفكر وتجفيف منابع الوعي.
وأكد بكر أن تدمير مكونات الثقافة الفلسطينية يمثل استهدافا ممنهجا للروح الفلسطينية، موضحا أن الإبادة الثقافية أخطر على المدى البعيد من القصف أو القتل، لأنها تحاول القضاء على سؤال من يكون الفلسطيني؟ وليس فقط: أين يعيش؟
وقال: "منظمة اليونسكو تعد تدمير المواقع الثقافية أثناء النزاعات خرقا فاضحا للقانون الدولي، وقد تم تصنيف أعمال مماثلة في سوريا والعراق كجرائم حرب".
وشدد على ضرورة إدراج المجتمع الدولي استهداف الرموز الثقافية ضمن جرائم الحرب، معتبرا أن الهوية والوعي الجمعي يجب أن يعد جريمة موصوفة، استنادا إلى القانون الدولي الإنساني واتفاقيات لاهاي وجنيف ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تجرّم بوضوح الاعتداء على الموروث الثقافي الفلسطيني المادي والمعنوي.
كي الوعيالروائي والقاص يسري الغول يؤكد أن استهداف المؤسسات الفكرية والثقافية والأدباء والشعراء لا يمكن أن يتم بشكلٍ اعتباطي، بل هو فعل ممنهج تمارسه إسرائيل ضمن إطار الإبادة الثقافية.
يقول الغول في حديثه لـ"الجزيرة نت": "نعم، (إسرائيل) تحاول بشكل ممنهج، غير أن هناك في غزة طفلا يحلم بالحياة، وآخر يحلم بأن يرقص الدبكة الفلسطينية، وفتاة تغني، وشابا يعزف على آلة اليرغول ليعيد الاعتبار للتراث والهوية الفلسطينية".
وتهدف سلطات الاحتلال، حسب الغول، إلى محو الذاكرة الفلسطينية، لكنها لم تدرك أن الوعي الجمعي العالمي بدأ يستوعب أهمية فلسطين وقضيتها، مشيرا إلى أن العدوان الإسرائيلي نفسه على المدى البعيد أعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية من خلال الدم، إذ أيقظ الوعي العالمي تجاه عدالة هذه القضية.
وفي ما يتعلق بالخسارة الثقافية، يبين الغول أنها كبيرة جدا، شأنها شأن الخسائر البشرية والمادية، موضحا أن إسرائيل عمدت إلى تدمير البنية الثقافية بشكل شبه كامل، فدمرت المكتبات العامة، وحولت بعضها إلى مراكز إيواء، ودمرت الأماكن الأثرية والتراثية والمساجد والمكتبة الوطنية ومعهد إدوارد سعيد للموسيقى، إضافة إلى مراكز ثقافية عدة مثل مركز رشاد الشوّا ومكتبة ديانا ماري صباغ ومكتبة الأحمر وغيرها.
ويلفت إلى أن الاستهداف جاء لأن دولة تحارب الهوية الفلسطينية فكرا وجسدا ومادة، موضحا سياق الإبادة الثقافية في جوهره هو إبادة لكل ما هو فلسطيني، تهدف إلى كي وعي المواطن ومحو هويته، سواء عبر تدمير المكان من مواقع أثرية وتراثية ومكتبات ومعاهد ثقافية وموسيقية ومدارس ونوادٍ أو عبر استهداف الذاكرة الجمعية.
ورغم الاستهداف الإسرائيلي الكبير للقطاع الأدبي والثقافي الفلسطيني، يبين الغول أن الحركة الأدبية لا تتأثر كثيرا باغتيال أو استشهاد الأدباء، بل تزيد عزيمة الكتاب والفنانين على الإبداع، بالأغنية والفيلم والمسرحية والكلمة، في مواجهة آلة الاحتلال.
ويوضح أن سلطات الاحتلال قضت على مئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني ودمرت القطاعات الصحية والثقافية والتعليمية وسائر البنى التحتية، لكنها لن تستطيع تدمير الإنسان الفلسطيني ولا إيمانه بعدالة قضيته في مواجهة آلة الإبادة التي يمارسها الاحتلال.
وشدد الغول على أن الفلسطيني سينبعث من جديد، لأنه "لا شعب يرزح تحت نير الاحتلال يمكن أن يستسلم"، مؤكدا أن الفلسطينيين سيواصلون النضال حتى آخر رمق حفاظا على الكينونة والجسد والهوية الفلسطينية، معربا عن أمله في أن يتصدى العالم لهذا الاحتلال الغاشم الدموي الذي يقتل أبناءهم.
محاولات لتحرك دولييرى يسري درويش، رئيس اتحاد العام للمراكز الثقافية في فلسطين، ما جرى من استهداف للمبدعين والمراكز الثقافية في قطاع غزة هو "استهداف سياسي ممنهج ومقصود من قِبل الاحتلال الإسرائيلي".
وطال الاستهداف الإسرائيلي المباشر، حسب حديث درويش لـ"الجزيرة نت"، الشعراء والكتاب والفنانين والمبدعين، بل إن بعضهم حرم من السفر للعلاج واستشهد داخل القطاع.
وأضاف درويش: "ما حدث هو سياسة إسرائيلية تهدف إلى اقتلاع الذاكرة والتراث والتاريخ الفلسطيني من خلال استهداف المبدعين ومحاولة القضاء على الرواية الفلسطينية، سواء عبر قصف المراكز الثقافية أو استهداف الشعراء والكتّاب والفنانين والعلماء والصحفيين وأساتذة الجامعات وغيرهم".
إعلانوأكد أن ما يجري يعد إبادة ثقافية بكل المقاييس، والاستهداف المباشر لكل المعالم الأثرية والتراثية في القطاع يمثل محاولة واضحة لطمس التاريخ الفلسطيني، موضحا أن الاحتلال يظن أنه بهذه الاعتداءات قادر على القضاء على الإرث الحضاري الفلسطيني الممتد في عمق التاريخ.
وبين أن الخسائر كانت فادحة للغاية، والهدف الإسرائيلي من وراء ذلك هو طمس الوعي الفلسطيني، وخلق جيل لا يعرف تاريخه ولا يرى موقعا أثريا في قطاع غزة".
وأضاف: "لدينا قصر الباشا الذي بني في القرن الـ13، والمسجد العمري الكبير، وقلعة خان يونس، والعديد من المواقع الأثرية التي دمرها الاحتلال ظنا منه أنه قادر على القضاء على الرواية الفلسطينية والإرث الثقافي، لكنه واهم، لأن هذا الإرث سيبقى حيا في نفوس الناس وذاكرتهم".
وكشف عن أن ملفات عدة أدرجت في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية حول اقتلاع ذاكرة وثقافة الشعب الفلسطيني، ومن خلال هذه الملفات، وبالتعاون مع وزارتي الثقافة والسياحة والعاملين في القطاع الثقافي، يمكن إعداد ملفات متكاملة تدين الاحتلال على جرائمه بحق الثقافة والموروث الإنساني.