يحدث في دهاليز التاريخ ما يتجاوز الخيال، حين تُجبَر أمةٌ بحجم مصر على دفع ضريبةٍ لإمبراطورية فقدت سلطانها، بينما تحتلّها قوة أخرى تنهب مواردها علنًا. يحدث أن يتحول الوطن إلى بند مالي في ميزانية من لا يملك عليه سيادة، وأن يتحوّل التاريخ نفسه إلى مظلّة لابتزاز سياسي واقتصادي متوارث، يتقاسم ثماره المستعمر والوريث معًا.

قبل ثورة يوليو 1952، كانت مصر - بثقلها الحضاري وثرواتها وأهلها - تدفع ما وصفه المؤرخون بـ "الجزية الحديثة" لتركيا، أربعة ملايين جنيه إسترليني سنويًا، رغم وقوعها تحت الاحتلال البريطاني. مشهدٌ عبثي يعكس كيف كانت القوى الكبرى تتناوب على استنزاف بلدٍ لم يتوقف يومًا عن دفع الثمن.

ومهمة الباحث اليوم ليست إعادة سرد التاريخ كما كُتب في كتب المدارس، بل إظهار ما غاب عمدًا، وما تم إخفاؤه، وما لم يُقَل بصراحة عن اقتصاد دولة كانت تُدار من وراء الستار.

الجذور.. من محمد علي إلى الباب العالي

بدأت القصة حين حصل محمد علي على حكم مصر وراثيًا وفق فرمانات عثمانية تلزمه بدفع مبلغ سنوي ثابت للباب العالي.

لم يكن الأمر "جزية" بالمفهوم التقليدي، بل كان أشبه بـ ضريبة سيادة: ثمن اعتراف إسطنبول بشرعية حكم الأسرة العلوية.

ومع مرور الزمن، تحولت تلك العلاقة إلى التزام مالي ثابت، بقي حتى بعد أن تضخمت قوة مصر عسكريًا واقتصاديًا إلى حدٍّ فاق الدولة العثمانية نفسها.

ومع ذلك ظلّت القاهرة ترسل الأموال، لا طاعةً، بل حفاظًا على شكلٍ سياسي هشّ صُمِّم أصلًا ليرضي السلطنة أكثر مما يخدم المصريين.

مصر تدفع.. والإنجليز يحكمون

حين وقع الاحتلال البريطاني عام 1882، حدث ما لم يعرفه العالم من قبل:

دولة تحتل مصر، ودولة أخرى تقبض منها "الخراج"!

لندن أخذت الأرض، وإسطنبول احتفظت بالورق، والمصريون وحدهم دفعوا الفاتورة.

لم يوقف البريطانيون هذا الدفع، لأنهم لم يكونوا يريدون استفزاز السلطنة العثمانية التي كانت تتحكم بطريق مهم نحو الهند.

فتحولت مصر إلى ساحة تتقاطع فيها مصالح قوتين، بينما أهلها يتحملون العبء الاقتصادي وحدهم.

قناة السويس.. دولة داخل الدولة

لم يكن هذا وحده. فقبل يوليو 1952، كانت قناة السويس نفسها دولة داخل دولة:

كيان اقتصادي مستقل تمامًا، محكوم باتفاقات دولية تعطي الامتياز لشركة فرنسية- بريطانية، تتعامل مع البنوك مباشرةً، وتُصدّر الأرباح إلى أوروبا، وتقبض الرسوم بعيدًا عن الخزانة المصرية، فيما تحصل مصر على الفتات.

المفارقة أن قناة السويس- التي حُفرت بدماء المصريين- لم تكن تدار من القاهرة، بل من مكاتب باريس ولندن.

كانت شركة القناة تمارس دورًا أشبه بـ مستعمرة اقتصادية:

منفصلة عن الدولة، فوق القانون، ولها نظام مالي مستقل، بل وشبه "حصانة" دولية.

هكذا كان يُدار اقتصاد مصر:

- مدفوعات سنوية لتركيا.

- احتلال بريطاني يسيطر على خيرات البلاد.

- قناة السويس خارج سلطة الحكومة.

- بنوك أجنبية تتحكم في المال العام.

- وطبقة قصر تعتمد على اتفاقات دولية تُقيّد إرادة البلاد.

إن ذكر هذه التفاصيل ليس سردًا تاريخيًا فقط، بل كشفٌ لآلية تفكيك سيادة الدولة قبل أن تولد الدولة الوطنية نفسها.

انهيار الخلافة.. وصعود الجمهورية التركية

مع الحرب العالمية الأولى توقفت المدفوعات اضطرارًا، ثم سقطت الخلافة عام 1924 وجاء كمال أتاتورك بجمهورية علمانية جديدة. ورغم التحول، لم تُلغِ تركيا القديمة التزامات مصر المالية رسميًا، فاستمرت بعض أشكال الدفع في صورة تفاوضية، بحجة إرث الاتفاقات العثمانية.

لم تكن مصر مستقلة تمامًا كي تمزق هذه الأوراق. الاحتلال البريطاني كان ما زال يمسك برقبتها، والملك فؤاد لم يكن يملك قوة سياسية تخوّله الإلغاء الكامل. فاستمر العبء السياسي والمالي بصورة أو بأخرى، حتى زمن الملك فاروق.

ثورة يوليو.. ولحظة القطع

حين جاءت ثورة يوليو، كان أول ما فعلته الدولة الجديدة هو تحطيم البنية التي سمحت بتحويل مصر إلى خزينة لآخرين.

انتهت كل الالتزامات القديمة، وتم تأميم قناة السويس، وبدأ مشروع بناء دولة ذات سيادة مالية، لا تدفع أحدًا ولا تنتظر اعترافًا من أحد.

-- كانت تلك اللحظة إعلانًا بأن الزمن الذي كانت مصر فيه تُدار من الخارج قد انتهى، وأن الدولة الوطنية الحديثة لا تدفع فواتير العصور الماضية.

قراءة فلسفية للمشهد من وجهة نظري كباحث:

إن قصة الجزية الحديثة ليست قصة مال، بل قصة غياب مشروع الدولة.

حين تغيب الدولة القوية، تصبح السيادة سلعة، والدستور ورقة، والاقتصاد طريقًا مفتوحًا لكل قوة أجنبية.

وحين تولد الدولة، تُغلق الفجوات، وينتهي زمن الدفع.

إن مهمة الباحث ليست تكرار ما كتبته المناهج، بل كشف ما خُبّئ منها:

كيف دارت أموال البلاد خارج يد أهلها، وكيف كانت القوى تتقاسم مصر كما لو كانت أرضًا بلا صاحب، وكيف استطاع المصريون لاحقًا - بمشروع وطني حقيقي - أن يقطعوا هذه الفواتير كلها دفعة واحدة.

لم تكن الأربعة ملايين جنيه إسترليني مجرد عبء مالي، بل كانت رمزًا لحقبة ضاعت فيها السيادة بين سلطان تلاشى ومستعمر تمدد.

وقناة السويس لم تكن مجرد ممر مائي، بل كانت عنوانًا لاقتصاد تُدار مفاتيحه خارج حدود الدولة.

ولأن التاريخ ليس أرقامًا فقط، بل وعيٌ وحكايةُ أمة، تبقى هذه اللحظات درسًا لا بد أن يُقال كما هو:

أن غياب المشروع الوطني يجعل من الوطن نفسه ضريبة يدفعها، وأن حضور المشروع يجعله سيدًا على ماضيه ومستقبله!!

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: تركيا الاحتلال الإنجليزي محمد علي إسطنبول السيادة المصرية ثورة 1952 الصراعات الدولية الجيوسياسية الجزية الباب العالي قناة السویس دار من لم تکن

إقرأ أيضاً:

عبور تاريخي للحوض العائم GREEN DOCK 3 عبر قناة السويس مع تدابير ملاحية خاصة

أعلن الفريق أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس، نجاح عملية عبور الحوض العائم  "GREEN DOCK 3"، مقطوراً بواسطة القاطرة persistence  في المقدمة وتوجيهه بواسطة أربع قاطرات تابعة للهيئة من الجانبين والخلف خلال رحلته عبر القناة ضمن قافلة الجنوب بعد عبوره بأمان بالبحر الأحمر وباب المندب، في رحلته قادماً من إندونيسيا ومتجهاً إلى تركيا.

يبلغ طول الحوض العائم 290متراً، وعرضه 57متراً، وغاطسه 8 أمتار، ويُعد من الوحدات البحرية المقطورة كبيرة الحجم حيث تبلغ حمولته الكلية 42 ألف طن.

استغرقت عملية عبور الحوض العائم  GREEN DOCK3
 مقطورا عبر القناة 24 ساعة، وتطلب عبوره اتخاذ تدابير ملاحية خاصة نظراً لكونه من الوحدات غير ذاتية الدفع، حيث تمت عملية التأمين الملاحي بواسطة 4 قاطرات تابعة للهيئة.

وأكد الفريق ربيع على أن نجاح عمليات العبور النوعية يعكس جاهزية قناة السويس لاستقبال مختلف أنواع وأحجام الوحدات البحرية غير التقليدية، كما يبرهن على كفاءة مرشدي القناة وما يتمتع به قباطنة القاطرات بالهيئة من خبرات متراكمة في التأمين الملاحي.

وأشار رئيس الهيئة إلى أن نجاح عبور الحوض العائم يبعث برسالة طمأنة للمجتمع الملاحي حول استقرار الأوضاع الملاحية في المنطقة، وخاصة بعد العبور الآمن للحوض العائم لمنطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب وصولاً إلى قناة السويس، مؤكداً أن قناة السويس ستظل الشريان الأكثر أماناً وكفاءة للتجارة العالمية.

وأوضح الفريق ربيع أن مشروعات التطوير المستمرة بالمجرى الملاحي ساهمت في زيادة الأمان الملاحي لعمليات العبور النوعية، لافتا في هذا الصدد إلى أن قناة السويس الجديدة تظل الخيار الملاحي الأمثل لاستقبال عمليات العبور الخاصة نظرا لاعتدالها وقلة انحناءاتها، كما نجح مشروع تطوير القطاع الجنوبي في تحقيق طفرة كبيرة على صعيد زيادة عامل الأمان الملاحي حيث سمح بزيادة عرض القناة في نطاقه بواقع ٤٠ مترا لتزداد معه قدرة القناة على استقبال وحدات بحرية نوعية لم تكن تعبر من قبل.

وأضاف رئيس الهيئة أن مقدار الوفر في المسافة الذي تحققه قناة السويس للرحلة بين إندونيسيا وتركيا، يصل إلى 6000 ميل بحري بما يمثل 48% وفراً في المسافة  مقارنة بطريق رأس الرجاء الصالح وهو ما ينعكس على اختصار زمن الرحلة وبالتالي تحقيق وفورات في اقتصاديات التشغيل واستهلاك الوقود وما يستتبعه من خفض لمستوى الانبعاثات الكربونية الضارة بنحو 996 طناً من ثاني أكسيد الكربون.

ووجه الفريق ربيع رسالة تحية وإعزاز وتقدير لكل من شارك في عملية عبور الحوض العائم بأمان عبر القناة من مختلف أقسام و قطاعات إدارة التحركات بالهيئة، مشددا على أن التنسيق والعمل المتكامل يمثل منظومة عمل احترافية قادرة على إدارة المواقف الملاحية المختلفة بكفاءة واقتدار.

من جانبه، أعرب الكابتن Viktor kishlian قبطان القاطرة persistence المسئولة عن قطر الحوض العائم خلال رحلته البحرية عن تقديره للجهود المبذولة من قبل  هيئة قناة السويس لضمان العبور الآمن.

وبسؤاله عن مسار رحلته، أشار إلى أن رحلته منذ بدايتها انطلاقا من إندونيسيا مرورا بالمحيط الهندي ثم منطقة البحر الأحمر وباب المندب كانت آمنة تماماً، مؤكدا 
أن قناة السويس نجحت في تحقيق معادلة النجاح باختصار زمن الرحلة وتقليل التكاليف التشغيلية للإبحار مقارنة بالطرق البديلة، بما يجعلها الاختيار الأمثل للعبور من الشرق إلى الغرب وركيزة رئيسية للاقتصاد العالمي والتجارة الدولية.


          

طباعة شارك اخبار الاسماعيلية اخبار قناة السويس اخبار هيئة قناة السويس

مقالات مشابهة

  • نجاح عملية عبور "الحوض العائم" GREEN DOCK 3 بقناة السويس
  • عبور تاريخي للحوض العائم GREEN DOCK 3 عبر قناة السويس مع تدابير ملاحية خاصة
  • أحمد عبد القادر ميدو: الدولة المصرية الحديثة اتبنت في عهد الرئيس السيسي بمشاريع عملاقة
  • أحمد عبد القادر ميدو: شباب مصر في الخارج درع يدافع عن الدولة المصرية
  • وكيل وزارة الحج: بطاقة «نسك العمرة» متاحة رقميا لمعتمري الداخل ومطبوعة للمعتمرين القادمين من الخارج
  • وفد مجلس الأمن الدولي: ندعم سيادة لبنان وتطبيق القرار 1701
  • أحترم ترامب ولكن.. هرتسوج ردا على العفو عن نتنياهو: إسرائيل دولة ذات سيادة
  • الرئيس السوري يؤكد على بناء الدولة والمؤسسات وتعزيز سيادة القانون
  • وزير الدفاع القبرصي: نؤمن بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة