الفيلسوف طه عبد الرحمن: المقاومة الفلسطينية انتصرت على عقل الاحتلال وأخلاقه
تاريخ النشر: 15th, December 2023 GMT
قال الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبد الرحمن إن عملية "طوفان الأقصى" أظهرت أن المقاومة الفلسطينية انتصرت على عقل الاحتلال الإسرائيلي كما انتصرت على أخلاقه، وأن "هزيمة العدو السياسية مجرد تابع لهزيمته العقلية وهزيمته الأخلاقية"، وذلك على خلاف ما ترسخ في الأذهان من أن المقاومة توجب أولا وقبل كل شيء إيقاع الهزيمة السياسية بالعدو.
وأوضح -أستاذ المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق ومؤلف كتاب "روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية"- في حوار سينشر كاملا غدا السبت، أنه "لما كان العقل والخُلُق هما الصفتان المحددتان لكلية الإنسان، كانت هزيمة العدو فيهما هزيمة لذاته بأسرها، ومثلُ هذه الهزيمة لذات العدو لا يمكن أن تُمحى من ذاكرته، فلا يستقيم له بعدها أمر، فيأخذ في دوام الانهزام، حتى الانقراض الكلي".
وفي المقابل، فإن "انتصار المقاومة الفلسطينية عقليا وأخلاقيا هو انتصار لكلية ذاتها، ومثلُ هذا الانتصار لا يمكن، هو الآخر، أن يمحى من ذاكرة الأمة، فلا يَعوجّ لها بعده طريق، فتأخذ في دوام الانتصار، حتى الانبعاث الكلي"، وفق تعبير صاحب كتاب "ثُـغور المُرابَطة. مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية" (2018).
وأشار -الأكاديمي الذي درس الفلسفة واللغة في جامعة محمد الخامس والسوربون- إلى أن الطوفان يفيد معنى "التجريف الذي لا يترك وراءه شيئا، وأن حديث الطائفة المنصورة الذي أُشربت به قلوب رجال المقاومة الفلسطينية كان له تأثير في تسمية المقاومة لعمليتها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول بطوفان الأقصى"، موضحا أن المقاومة لم تحمل فقط أمانة تجريف الاحتلال ولا حتى مجرَّد الظلم، بل تجريف "الشر المطلق".
وأوضح أن "الناس كانوا يتصورون الشر المطلق مفهوما بعيدا، ولا يعتقدون تحققه، فإذا بهم اليوم يرونه رأي العين، واقعا حيا، فقد شاهدوا الصلاة في بيوت الله تُقصف، والبراءة في الطفولة تُزهق، والعافية من المستشفيات تُطرَد، واللجوء إلى المآوِي يُرهَب، وقس على ذلك ما شابَهه، رأوا بأمّ أعينهم احتضار كل قيم الخير التي خُلق الإنسان من أجلها، وليس الشر المطلق إلا مَشاهِد الموت الذي يأتي على كل القيم".
وأشار مؤلف "العمل الديني وتجديد العقل" (1989) إلى أن أبعاد "طوفان الأقصى" تتخطى الحدود الجغرافية والثقافية للأمة إلى العالم كله، لأن الفعل المقاوِم بات يتطلب في زمن ما بعد الطوفان الانتماء إلى العالم، و"أن يُنظر إلى الفعل المقاوم على أنه فعل عالمي صريح مُلزِم لكل فرد من أفراد البشرية، حيثما حصل من بقاع الأرض وكيفما كانت الشرور التي يتصدى لها، وأنه يتعين على المقاوم العربي خاصة أن يعي ويوقن بأنه يتصدى لشرور لا تقتصر آثارها على وطنه، وإنما تطال أقطار العالم كلها".
السياسة والأخلاقوأوضح الفيلسوف المغربي أنه "لما كان المقاوم الطوفاني إنسانا عالميا بحق، فقد نزل منزلة المنقِذ للعالم من هذا السقوط الأخلاقي غير المسبوق الذي ينزل به، ذلك أن العالَم لا بد أن يجد في هذا المقاوم المعلّم الأمثل الذي يعينه على استرجاع الصلة المفقودة عنده بين الطرفين: السياسة والأخلاق".
وتابع أنه لما ظهر أن الطوفان، من حيث كونه تجريفا للشر المطلق، هو السبيل الذي يوصّل إلى التحرر الأمثل، فقد لزم أن تكون "المقاومة الطوفانية" حركة تحرر للإنسان عامة أو حركة تحرير للعالم كله، حتى ولو بدت في الظاهر حركة تحرر لشعب مخصوص أو حركة تحرير لأرض مخصوصة، وفق تعبيره.
ولا يرجع هذا الالتفاف، كما شاع بين السياسيين، إلى تعاطي العالم للرواية الفلسطينية للأحداث، بقدر ما يرجع إلى كون هذه المقاومة أعادت بقوة الإنسان، حيثما كان، إلى فطرته الأولى، أي أعادته إلى القيم الأصيلة التي تنطوي عليها روحه، بدليل سرعة هذا الالتفاف حول قضيته وانخراط الفتيان فيه بكثرة، إذ الفتى يكون أقرب من سواه إلى الفطرة، فيسهل إحياؤها فيه، بحسب مؤلف كتاب "سؤال المنهج.. في أفق التأسيس لأُنموذج فكري جديد".
لكنه بيّن أن "النظام العربي، في جملته، أضحى مانعا للفعل المقاوم إلى حد أن هذا المنع أشبَه المنع الذي يقع من المحتل، حتى كأن هذا النظام "احتلال داخلي"، مشيرا إلى وجود أسباب عدة تجعل النظام العربي مانعا للفعل المقاوم، من ذلك: "الهوة السياسية بين الحاكم والمحكوم"، و"النخبة العسكرية المستولية على السلطة بالقوة والمشتركة في المصالح مع الجهات الاستعمارية"، و"النخبة المدنية التي استُلبت بقيم الثقافة الأجنبية والتي أُسندت إليها إدارة المؤسسات بتوجيه من هذه الجهات الاستعمارية"، وأخيرا، "مسلسل التطبيع" الذي أنهى البقية الباقية من الأمة، وفق تعبيره.
ودعا المفكر العربي من سماهم "مثقفي العهد الجديد الذي فتحه طوفان الأقصى إلى إعادة التفكير في مفهوم المقاومة، وأن يؤسسوه على أصول جديدة، وأن يُنشئوا من المفاهيم ما يعضّده، ويستخرجوا من حقائقه ما لم يكن يخطر على البال، ويبنوا من النظريات والأنساق الفكرية والسياسية ما يكون على قدره".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: المقاومة الفلسطینیة
إقرأ أيضاً:
في تعطيل المهام الفلسطينية العاجلة
الانتظار ولا شيء غيره أمام الفلسطينيين لاستشراف مستقبلهم، ففي حالة التأمل العميق لواقعهم المعقد والقاسي، في ظل التشتت وانعدام المواقف والقرارات والخطوات اللازمة لمواجهة هذه الحالة، يجد الشعب الفلسطيني نفسه في مواجهة عارية لصد العدوان عليه وعلى أرضه. ومما يزيد من شهية المؤسسة الصهيونية التكريس الفعلي لنظام الفصل العنصري، افتقار السياسة الفلسطينية لعوامل الكبح والمواجهة بالمعنى السياسي والنضالي المطلوب، رغم المعرفة بضرورات كثيرة، أصبح تكرارها ممجوجا، وبلا أثر وفعل وصدى في الشارع الفلسطيني المثقل بعوامل حرب الإبادة الجماعية في غزة وفي مدن الضفة الفلسطينية والقدس.
فقد أصبحت أفكار ودعوات إنهاء الانقسام الفلسطيني، أو التفكير والعمل خارج بوتقة مؤسسات السلطة المشلولة، رنانة في إطلاقها ومعيبة ومخزية في الفشل الذي تصاب به، من كثرة إعادة صياغتها وترويجها. ولأن السلطة الفلسطينية منشغلة بشكل أبدي بإدارة ذاتها، للحفاظ على نفسها ودورها ومهامها، ومشلولة بالاهتمام بمصالح وحقوق الشعب الفلسطيني، ولا يمكن لها أن تكون كذلك بحكم الدور والوظيفة، فهي تبقى مسئولة عن تعطيل كافة برامج حشد الطاقات والمواجهة لترتيب الأوضاع الداخلية، لأن منظومة المبادئ المتعلقة بذلك قائمة على عدم المساومة على مواجهة عدوان المستوطنين، وقضم مزيد من الأراضي وخطط بناء جدران عزل وفصل عنصري، والتفرج اليومي على جرائم الإبادة الجماعية والعدوان والقتل والتهجير ونسف المنازل وغيرها، وهي مسائل يفترض أنه لا مساومة فيها ولا تقصير.
كل ذلك وغيره، خلق حالة من الشعور بالسلبية والهزيمة في الشارع الفلسطيني، والذي تساهم السلطة مع الاحتلال في فرضه كأمرٍ واقع يفرض على الفلسطينيين خضوعا للإملاءات الأمريكية الغربية والإسرائيلية، فلا خيارات ولا بدائل أمامه سوى ما تنتجه آلة العجز الفلسطيني في الرد على الاحتلال وعدوانه نيابة عن الشعب.
الجميع يترقب الآن تنفيذ الاحتلال للمرحلة الثانية في غزة، ويراهن على الكلام الأمريكي ورغبته بأن تلتزم الحكومة الإسرائيلية ذلك، مع أنها مستمرة في جرائم الإبادة ومواقف رسم حدود جديدة لخنق القطاع وتهجير سكانه، فضلا عن المضي المتسارع في إجراءات الضم للأرض في الضفة، أي أنه لا يمكن الادعاء أن هناك التزاما إسرائيليا بأي بند أو شرط أو قانون يلجم الهجمة الصهيونية، ولا يمكن الادعاء بأن وقف إطلاق النار المزعوم في غزة وتنفيذ "المقاومة" فيها لتعهدات الخطة الأمريكية سيبني مستقبلا أفضل لغزة، أو للقضية الفلسطينية ومشروع السلام وحل الدولتين، وهذا أصبح عرفا ثابتا في المراوغات الأمريكية الإسرائيلية وبديهيا بعدم التعويل عليه.
ما يحيط بالفلسطينيين وقضيتهم، وعلى مدار الوقت، كان يشير دوما على تصاعد العدوان، وتآكل فرص وتبديد كل الأوهام لعقود طويلة، مع اتضاح استراتيجية إسرائيلية لتعزيز السيطرة على الأرض، تمنع قيام أي كيان فلسطيني جغرافي وديمغرافي متصل أو متحد، وتفشل معه سياسة النفاق الغربي الأمريكي وردود فعلها في ثني حكومة فاشية ويمينية متطرفة عن الالتزام بأي معيار أخلاقي وسياسي وقانوني، بينما يتلقى الفلسطينيون وسلطتهم قائمة لا تنتهي من الاشتراطات الإسرائيلية والغربية، والتجاوب معها لتلبية احتياجات تؤمن المضي الإسرائيلي بسياسات الفصل العنصري.
هذه الحقائق شكلت واقعا مختلف تماما عن الافتراض السائد بمسؤولية "عنف" شعب واقع تحت الاحتلال ومسؤوليته عن تدهور أوضاع عملية "السلام" التي يتشدق بها للآن معظم ساسة الغرب والولايات المتحدة، وباعتبار الشعب الفلسطيني هو الجانب الأضعف ضمن هذه الحقائق، ومطلوب منه افتراضا استغلال مهارات مختلفة عما ظهر عليه أداء قيادته في السلطة طيلة المرحلة الماضية، واستغلال كل الفرص والتجربة مع جملة الإخفاقات التي مني بها رهانهم الخاسر على أدوار غربية ونيات أمريكية ودور عربي عاجز ومفضوح حتى العظم، والميل إلى افتراضات بالغة السخف والتضخيم؛ إذا تخلى شعب تحت الاحتلال عن مجابهة محتله وعن كل وسائله النضالية بما فيها الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية.
النتيجة التي حصل عليها الشعب الفلسطيني، بهذه التجربة القاسية، لم تقتصر فقط على تقزيم الحالة الفلسطينية لمستويات الانحدار الكلي فقط أمام المحتل، ولا في تغول وعربدة قادة الفاشية في حكومة نتنياهو، لكن في الهوس في إبقاء العطب متسيّدا ساحة العمل الوطني الفلسطيني، وتعطيل كل المهام العاجلة التي تتطلبها مخاطر تعج بها القضية الفلسطينية من كل جوانبها، فالانسياق المستمر إلى أحابيل الكذب الصهيوني الأمريكي بتشجيع عربي، نتائجه هذا الخنوع السائد الذي يراد تعميمه وتكريسه كبديل يُسقط كل البدائل التي يطالب بها الشعب الفلسطيني في وطنه ومنافيه.
المهانة المستمرة في تعطيل دور الشارع الفلسطيني ودور كل مؤسساته الوطنية، فيها من التخاذل واللا مسؤولية الأخلاقية، بحيث تُبقي حالة الإذعان الرسمي الفلسطيني والعربي للعدوان أمرا بديهيا، يزوّر بديهيات إرادة شعب، ولا يمكن مواجهة هذه المهمة الصعبة والملحة بتحدٍ كلامي مستمر عنها لا يسمن ولا يغني من جوع، وما لم يحدث تغيير في ما هو سائد من عطب، وما لم يكن هناك حيز من فعلٍ حقيقي تبادر له كل القوى الفلسطينية مجتمعة، للخروج من خندق الخطاب والشعارات والعجز ولوم الظروف الى رحاب فعلٍ وممارسة يتلمسها الشارع الفلسطيني، فإننا سنبقى نتداول أخبار ومشاهد بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ونتنياهو وبقية الطبقة الفاشية في إسرائيل تبرهن لنا بطريقة أكثر شدة وإرهابا وسفكا للدماء لتحجيم حقوقنا. فالحاجة الملحة المؤجلة بشكل كارثي للقيام بالتغيير المطلوب على الساحة الفلسطينية، هي آخر الأسلحة المتبقية لدى الفلسطينيين، ويجب استعمالها الآن وعلى نطاق واسع، من قبل من بقي يؤمن ويعتقد بضرورة إنجاز مهام وأجندة فلسطينية عاجلة.
x.com/nizar_sahli