الزيارات السامية إلى سنغافورة والهند: المستقبل حاضر
تاريخ النشر: 16th, December 2023 GMT
حملت زيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - أيده الله - إلى سنغافورة كأول دولة يزورها جلالته في جنوب شرق آسيا مضامين كثيرة؛ في بُعدها الرمزي (كونها زيارة دولة ولها دلالتها على مستوى رمزية العلاقات السياسية بين سلطنة عُمان وجمهورية سنغافورة)، وفي بعدها الاستراتيجي (كون أن أطر ومجالات التعاون الممكنة مع الطرف السنغافوري تمتد إلى عناصر عديدة سواء على مستوى إدارة الاقتصاد والموارد، أو في سياق التحول في الطاقة، أو في مجالات الثقافة والتعليم وإنتاج المعرفة).
وبالعروج إلى الهند، وهي المحطة الثانية في زيارة جلالته، فالعلاقات العُمانية الهندية يمتد تجذرها التاريخي في مجالات عديدة، وهو ما يتيح الاستفادة اليوم من اقتصاد صاعد بقوة في قيادة الاقتصاد العالمي. حيث تتوقع وكالة التصنيف S P Global Ratings أن اقتصاد الهند قد يصبح بحلول عام 2030 ثالث أكبر اقتصاد في العالم، فيما يتمركز الآن في المرتبة الخامسة بعد الولايات المتحدة، الصين، ألمانيا واليابان. يتشكل هذا الصعود وفق عدة عوامل تشكل البيئة التكاملية للاقتصاد الهندي، يأتي في مقدمتها «الاستثمار في فرصة العائد الديموغرافي» الهائلة، من خلال التركيز على التعليم النوعي، وحشد المهارات المهنية، وتكوين قاعدة ضخمة من القدرات الشابة في مختلف القطاعات، عوضًا عن التنمية المتكاملة والمركزة على استثمار عامل استقرار الأرياف وتنمية اقتصادياتها وعوامل الإنتاج لدى ساكنيها. ويعنينا هنا ما يقف خلف التجربة الهندية من مؤسسات لاستشراف المستقبل. حيث تمتلك الهند - على غرار سنغافورة - مؤسسات تقود التوجهات المستقبلية؛ فهناك (NITI Aayog) المؤسسة التي تعمل كـ (عقل للحكومة) في الهند، حيث تعمل على «تطوير رؤية مشتركة لأولويات التنمية الوطنية وقطاعاتها واستراتيجياتها»، بالإضافة إلى «تقديم المشورة وتشجيع الشراكات بين أصحاب المصلحة الرئيسيين ومراكز الفكر الوطنية والدولية ذات التفكير المماثل، وكذلك المؤسسات التعليمية وأبحاث السياسات». وهناك أيضًا (مركز أبحاث التكنولوجيا لحكومة الهند)، والذي يعمل على «إعداد تقارير الاستبصار التكنولوجي، وتطوير التكنولوجيا وإعداد تقارير الفرص التجارية المرتبطة بالتكنولوجيا، وتقييم أحدث التقنيات وتحديد الاتجاهات للتنمية التكنولوجية». إضافة إلى عدة مراكز أبحاث قطاعية يتشكل جزء من دورها في تقديم الاستبصار للحكومة الهندية فيما يرتبط بالسياسات، والتخطيط الاستراتيجي وفرص المستقبل.
إذن يُشكل العمل المستقبلي متمثلًا في: مسح الأفق، وتحديد الإشارات المستقبلية، ووضع سيناريوهات المستقبل، وتحديد العوامل الأكثر تأثيرًا على مساقات التخطيط الاستراتيجي عنصرًا حتميًا وضروريًا اليوم في نهج عمل الحكومات المستجيبة للمستقبل، والأكثر قدرة على التكيف مع متغيراته. بل وأصبحت منظومات بناء «الفكر المستقبلي» نموذجًا مركزيًا في قلب مؤسسات التعليم والتدريب وتطوير القوى العامة والمهارات. وهو أمر لا يمكن اكتسابه بمجرد دورات تدريبية وتأهيلية لاحقة في المسارات الوظيفية فحسب، بل ينبغي أن يتحول إلى أدوات تعليمية ومنهجيات ممارسة في قلب النظام التعليمي. ومما لا شك فيه أن الزيارتين الساميتين لهاتين الدولتين ذات الإرث في العمل المستقبلي تشكل دعامة لتبادل الخبرات والتجارب في هذا المجال تحديدًا، إضافة إلى غيرها من مجالات التعاون والتبادل المشترك. وفق الله سلطان البلاد وحفظه حلًا وترحالًا.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: استشراف المستقبل العمل المستقبلی السنغافوریة فی العمل الحکومی فی استشراف فی قلب
إقرأ أيضاً:
هل يخلق الذكاء الاصطناعي مجتمعا أميا في المستقبل؟
في نهاية عام 2022، كشفت شركة "أوبن إيه آي" عن أول روبوت دردشة "شات جي بي تي" يعتمد على نموذج الذكاء الاصطناعي الخاص بها، معلنة بذلك بداية عصر روبوتات الدردشة ونماذج الذكاء الاصطناعي المتوفرة للعامة.
وخلال الأشهر التالية، تمكّن "شات جي بي تي" من التغلغل في حياة المستخدمين بشكل كبير، إذ قام الكثيرون بإلقاء المهام المملة والمكررة على عاتقه، وشيئا فشيئا، ازداد عدد المهام التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي، خاصة عندما تعلّق الأمر بكتابة الأبحاث المطلوبة من التلاميذ أو بعض المستندات الرسمية في الشركات، مما أثار المخاوف من تدهور القدرات الكتابية لمستخدمي "شات جي بي تي".
ورغم المخاوف من تراجع المهارات الكتابية للأجيال الحديثة، سواء التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي في كتابة أبحاث الدراسة المطلوبة منها أو حتى الأعمال الكتابية في الشركات، فإن هذا الجانب ليس الأخطر كما يرى ليف ويذربي مدير مختبر النظرية الرقمية في جامعة "نيويورك"، حسب تقرير كتبه في صحيفة "ذا نيويورك تايمز".
ويرى ويذربي الخطر الأكبر في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لأداء مجموعة من المهام الأكثر تعقيدا وتطلبا، وتحديدا المهام المتعلقة بالحسابات وكتابة الأكواد البرمجية، إذ يخشى تحول المجتمع إلى مجتمع أمي غير قادر على أداء الحسابات أو كتابة الأكواد البرمجية، ولكن كيف هذا؟
ترك المهام للذكاء الاصطناعييشير ويذربي في تقريره إلى كون أحد تلاميذه يعتمد على كود برمجي يقوم بكتابته بنفسه، من أجل تحليل البيانات المختلفة التي تصل إليه من التجارب العلمية التي يقوم بها أو حتى التجارب الإحصائية من الاستطلاعات المختلفة، ويقوم هذا الكود بتيسير عملية تحليل البيانات والوصول إلى النتائج المطلوبة بشكل سريع.
ولكن، بعد انتشار نماذج الذكاء الاصطناعي، تخلى التلميذ عن هذا الأمر، معتمدا على "شات جي بي تي"، ليقوم بكتابة الكود وتحليل البيانات ثم تقديم النتيجة النهائية له، دون الحاجة لكتابة أي كود أو قراءة البيانات ومحاولة فهمها وتحليلها.
وتعزز تجربة أندريه كارباثي مهندس الذكاء الاصطناعي في موجة "فايب كودينج" (Vibe Coding)، لتكتب الأكواد البرمجية عبر توجيه مجموعة من الأوامر الصوتية لمساعدي الذكاء الاصطناعي، هذه النتيجة.
إعلانورغم انبهار العالم البرمجي بهذه الآلية الجديدة والنظر إليها كخطوة تسرّع من عمل المبرمجين في مختلف القطاعات حول العالم، فإن الأكواد الناتجة عنها تأتي معطوبة ومليئة بالأخطاء التي لا يمكن إصلاحها، ومنهم الكود الذي قام كارباثي بكتابته.
والأسوأ، فإن بعض المبرمجين الذين اعتمدوا على هذه الآلية ومنهم كارباثي قال إنهم أصبحوا غير قادرين على كتابة أكواد برمجية بالشكل المعتاد.
الذكاء الاصطناعي يقضي على وظائف مهندسي البرمجةلا تبدو موجة "فايب كودينج" قادرة على الإطاحة بوظائف مهندسي البرمجة، ولكن على الصعيد الآخر، فإن كبرى الشركات التقنية العالمية بدأت تعتمد على الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في عملياتها البرمجية.
وفي تصريح سابق، قالت "غوغل" إن أكثر من 25% من أكواد الشركة مكتوبة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، وكذلك الحال مع "مايكروسوفت" التي تتشارك النسبة ذاتها، وقامت بحملة إقالات تجاوزت الآلاف حول العالم، وبالمثل "أمازون" و"أوبن إيه آي".
ومن جانبها، تحاول "أوبن إيه آي" استثمار أكثر من 3 مليارات دولار للاستحواذ على شركة "ويند سيرف"، التي تملك أداة تساعد في كتابة الأكواد البرمجية بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، في خطوة لتقليل الاعتماد على المبرمجين البشر.
ويبدو أن هذا التوجه أصبح عالميا، إذ أشارت التقارير من مؤسسة "سيجنال فاير" (SignalFire) المختصة بمتابعة سوق العمل ومؤسسة "زيكي" (Zeki) للأبحاث، فإن الشركات توقفت عن تعيين مهندسي البرمجة للمبتدئين لينخفض إجمالي أعداد التوظيف في كبرى الشركات التقنية إلى صفر بعد أن كان يصل إلى الآلاف يوميا.
وفي حين ترى الشركات أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي ضرورة مستقبلية، فإن مثل هذا النفور من تعيين المبرمجين البشر قد يتسبب في اختفاء المؤسسات التعليمية المسؤولة عن تخريج المهندسين وعلماء الحاسب، في خطوة تماثل التخلي عن العمالة اليدوية البشرية تزامنا مع الثروة الصناعية.
الوصول إلى مجتمع أمي حسابيافي الماضي، كانت الأمية هي غياب القدرة على القراءة والكتابة، ولكن يبدو أننا على أعتاب مفهوم جديد للأمية، فرغم كون الشخص قادرا على القراءة والكتابة، فإنه لن يكون قادرا على الإبداع واستخدام المفاهيم الرياضية والحسابية المتوسطة.
إذ يشير العديد من الدراسات إلى أن الاعتماد المبالغ فيه على أدوات الذكاء الاصطناعي يفقد الإنسان قدرته الإبداع وقدرته على الكتابة والقراءة وتحليل البيانات بشكل ملائم وصحيح تماما، وهو ما يسرّع الوصول إلى المجتمع الأمي.