قضى غسان أبو ستة، وهو طبيب فلسطيني بريطاني، 43 يوما في رعاية الجرحى في مدينة غزة قبل مغادرته لها منهكا ويحمل شعورا بالذنب لأنه كان بإمكانه فعل المزيد، وقال إن هذه الفترة كانت الأكثر تحديا وفظاعة في مسيرته الطبية الطويلة، مع أنها اتسمت بمشاهد الإنسانية والحب ولحظات خفّة غير متوقعة.

بهذه الجمل افتتحت صحيفة "واشنطن بوست" مقابلة أجرتها مع أبو ستة، وصف فيها الأحداث التي عاشها خلال وجوده في مستشفى الشفاء ومستشفى الأهلي بغزة، وقال "كل ما فعلته في حياتي كان يقودني إلى هذه النقطة، وهذا هو المكان الذي ينبغي أن أكون فيه.

في عدة ليال ذهبت إلى النوم معتقدا أنها ستكون نهايتي".

وأوضحت الصحيفة -في تقرير بقلم سارة دعدوش- أن جرّاح التجميل الترميمي وصل متطوعا مع منظمة أطباء بلا حدود في غزة في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعيد هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على إسرائيل وقبل الغزو الإسرائيلي، في وقت كانت فيه الغارات الجوية الإسرائيلية تضرب غزة، ومئات الجرحى ينقلون إلى مستشفيي الأهلي والشفاء، حيث كان أبو ستة يعمل على مدار الساعة، وحيث كان القصف يقترب أكثر فأكثر.

أيام من اليأس

وصف أبو ستة شعوره في بعض الأحيان بأنه مثل شخص تأتي موجة وتغطيه، ولا يستطيع أن يرفع رأسه فوق الماء لأن الموجة أعلى منه، وذلك عندما يجري عملية جراحية ويعتقد أنه قام بعمل جيد وعالج 12 مريضا، ولكنه يعلم أن غارة جوية أدت إلى إصابة 70 أو 80 آخرين، وكأنه بالتالي فعل القليل جدا.

وتحدث أبو ستة عما خامره من شعور عندما كان يعالج فتاة صغيرة فقدت نصف وجهها، وبقيت وحدها بعد مقتل أمها الطبيبة وأخويها، وذلك عندما رأى ضفائرها وربطة شعرها على شكل زهرة، مشيرا إلى أن الناس يبدؤون في مقاومة عالم الموت من خلال أعمال الحب.

واستشهد الجراح على ذلك بطفل صغير عمره 3 سنوات، لم يعرف اسمه قد بترت ساقه وذراعه، ولما عاد إليه في الغد للاطمئنان عليه، كانت المرأة التي أصيب ابنها في السرير المجاور له، تضعه في حضنها وتطعمه هو وابنها لأنه ليس لديه عائلة، وأوضح أن هذه هي أعمال الحب، حيث الناس يستقبلون الناس ويسمحون لهم بالبقاء في منازلهم طوال الحرب لأنهم فقدوا مساكنهم.

كان هناك نوع من انحلال الفردية والعودة إلى الحياة الجماعية القديمة -كما يقول أبو ستة- حيث يتم تقاسم كل شيء، تقاسم الطعام والدواء والمنازل، وهناك أيضا ترى الطفل البالغ من العمر 12 عاما يتحول إلى رجل المنزل، ولأنه أكبر إخوته وأمه مصابة، يقوم بالمهمات ويحافظ عليهم ويأخذهم إلى الحمام ويتحدث إلينا للمساعدة في إحضار الأشياء لهم.

وفي لحظات خفّة غير متوقعة، يتذكر أبو ستة يوم جاءهم حلاق قريب من المستشفى، وقال إنه يريد أن يحلق ذقون الجميع لأنهم أصبحوا يشبهون رجال الكهوف، "ذهبنا إلى إحدى الغرف المدمرة جزئيا في الطابق العلوي من مبنى الأهلي، جلسنا ننتظر دورنا أمام المرآة، فقص شعرنا وحلق لحانا. وفجأة، يتغير مزاج الجميع بسبب هذا الكرم الكبير، وعدنا للحياة العادية والنكات".

أبو ستة: صادفت طبيبا كان كل همه إزالة الطين عن وجه طفل حتى يتمكن من تبيّن ملامحه (الجزيرة) الجرحى من عائلات الأطباء

يتذكر أبو ستة طفلا كان وجهه مغطى بالطين ويعاني من إصابات وكسور مفتوحة في ساقيه، وكان هناك طبيب كل همه هو إزالة الطين عن وجه الطفل حتى يتمكن من تبيّن ملامحه لأن المنطقة التي ضربت هي منطقتهم، وفجأة سقط الطبيب على ركبتيه عندما عرفه، وقال "لقد ضربوا منزلنا"، ثم غادر لأنه أدرك أن وجود ابن أخيه هنا يعني وجود آخرين من العائلة.

وكانت هناك امرأة أصيبت بشظية نافذة في بطنها وهي حامل -كما يقول أبو ستة- "تمكنا من العثور على طبيب توليد وعمل لها عملية قيصرية، وفجأة بعد كل هذا الموت، تسمع طفلا يصرخ، تشعر وكأنك تسمع صوت الحياة لأول مرة منذ 40 يوما من الموت. تشعر بصوت الحياة".

وفي إحدى الليالي المميزة حقا -كما يقول الجراح- كان القصف قريبا جدا وكان المبنى يهتز بعنف شديد، "كانت تلك الليلة التي جلست فيها بمفردي وتصالحت مع فكرة أنني لن أتمكن من البقاء على قيد الحياة. لم أعد قلقا، كنت في سلام مع نفسي ومع خياراتي في الحياة. كان هناك حزن بسبب ابني الأصغر. أود أن أرسل رسائل صوتية إلى أولادي للتأكد من أنهم سمعوا صوتي في اليوم الذي أموت فيه، وهذا أمر كئيب ولكنها كانت مجرد رسائل ممتعة: أفتقدك! أحبك!".

وأخيرا اتخذ الجراح قرارا بالخروج من غزة بعد أن أنهى العمليات وأخبره طبيب التخدير أنه لم يعد هناك أي مخدر ولا شيء آخر يمكنه القيام به، "وخرجنا في الساعة التاسعة"، ولكن مع ذلك "هناك أيام تعتقد فيها أنك يجب أن تكون هناك".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: أبو ستة

إقرأ أيضاً:

تقرير :خبير ألماني: الناتو تراجع خطوة للخلف وحاول إرضاء واشنطن

كولونيا "د. ب. أ": يرى خبير ألماني في النزاعات المسلحة أن قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي انعقدت أمس في لاهاي لم تحقق الكثير من النتائج المنتظرة.

وقال كارلو ماسالا، وهو أستاذ في كلية العلوم السياسية والاجتماعية بجامعة الجيش الألماني في ميونخ، في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية في كولونيا: "لم تكن بالتأكيد قمة حيث يمكن القول إن الناتو خرج منها قويا"، مشيرا إلى أن قضية أوكرانيا لم يكن لها دور خلال القمة ولم يتم الإشارة إلى التهديد الروسي بوضوح كاف، موضحا أن الناتو بذلك تراجع خطوة إلى الوراء في محاولة منه الى ارضاء واشنطن، وقال: "أرى حاليا الناتو في مرحلة غير مستقرة للغاية".

وذكر ماسالا أن رغبة دول الناتو في إنفاق 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2035 هي في المقام الأول جزءا من استراتيجية إرضاء الرئيس الأمريكي، وقال: "هذه الـ5% لم تكن نتاج نقاش أوروبي، بل نتاج خشية من سحب الولايات المتحدة ضماناتها الأمنية حال عدم التنفيذ"، مضيفا أنه سيتعين الانتظار لمعرفة ما إذا كانت الدول الأعضاء ستلتزم حقا بالاتفاق على مبدأ الـ5%، الذي عارضته إسبانيا وسلوفاكيا بكل وضوح ولم تكن إيطاليا سعيدة به أيضا، على حد تعبيره.

وأشار ماسالا إلى أنه من المنطقي التشكك في إمكانية الاعتماد على الولايات المتحدة في تقديم الدعم المشترك حال تعرض دولة في الحلف لهجوم، وقال: "هذا هو الحال مع ترامب، حتى لو قال اليوم إنه ملتزم بذلك، فقد يكون الأمر مختلفا تماما غدا"، مضيفا أن شركاء الناتو يعولون في هذا السياق تماما على تملق ترامب، وقال: "قد يجدي ذلك نفعا أو لا - من يدري؟".

ووجه ماسالا انتقادات لاذعة للأمين العام للناتو، مارك روته، الذي أرسل لترامب رسالة نصية متملقة، والتي نشرها الأخير على أحد مواقع التواصل الاجتماعي. وقال ماسالا: "ما فعله روته، أيضا خلال مؤتمره الصحفي مع ترامب، لم يعد من الممكن مجاوزته من حيث الإحراج... أستطيع تفهم بذل الكثير من الجهود للحفاظ على الأمريكيين في أوروبا، ولكن عبر الخضوع الذي يمارسه روته، هذا ليس مناسبا تماما لأمين عام للناتو".

وذكر ماسالا أن المشكلة تكمن في ضرورة افتراض أن روسيا يمكنها مهاجمة دولة عضوة في الناتو بحلول نهاية هذا العقد لاختبار ما إذا كان الحلف سيأتي حقا لمساعدة هذا البلد، مضيفا أن هذا يعني أنه لم يتبق الكثير من الوقت، وقال: "السرعة، السرعة، السرعة. نحن بحاجة إلى استراتيجية أوروبية تحدد كيف يمكننا استبدال ما تقدمه الولايات المتحدة حتى الآن... من المهم للغاية هنا إيجاد حل لمشكلة تعداد أفراد الجيش، إذا لم يتم ذلك عبر مبدأ الطوعية، فيجب فرض التجنيد الإلزامي بسرعة".

تجدر الإشارة إلى أن وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس يعد مشروع قانون يهدف إلى جعل الخدمة العسكرية أكثر جاذبية، ويتضمن أيضا آليات لإعادة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية في حال نقص أعداد المتطوعين.

ومن المقرر أن يستعرض ماسالا كتابه "إذا فازت روسيا. سيناريو" خلال مهرجان الفلسفة في كولونيا غدا السبت.

مقالات مشابهة

  • تقرير :خبير ألماني: الناتو تراجع خطوة للخلف وحاول إرضاء واشنطن
  • صحيفة تكشف آخر تطوّرات وجهود مفاوضات وقف إطلاق النار بغزة
  • واشنطن بوست: لماذا كان ترامب واثقا من أن إيران تطوّر قنبلة نووية؟
  • مدينة الخليج العربي وضحكات الأطفال تُنبت الحياة في أرضٍ كانت جرداء
  • ويتكوف: ترامب يتطلع إلى اتفاق سلام شامل مع إيران
  • إسرائيليون يتحدثون الفارسية.. الكشف عن مهمة سرية لترهيب كبار القادة في إيران
  • الجزيرة 360 تشارك في مهرجان شفيلد للفيلم الوثائقي بـغزة.. صوت الحياة والموت
  • واشنطن بوست: تسجيل صوتي يكشف تهديد الموساد لـ20 ضابطًا في الحرس الثوري الإيراني
  • ترامب: الهجمات الإيرانية على قاعدة "العديد" في قطر كانت ضعيفة
  • واشنطن بوست: حملة إسرائيلية سرية لترهيب قادة إيران العسكريين