لجريدة عمان:
2025-05-12@19:06:40 GMT

الروائي الباحث «1»

تاريخ النشر: 19th, December 2023 GMT

هل يفلح الباحث الجامعي، «المتكلّسُ» في أغلب حالاتنا العربية، المعتصم بحَرفيّة التدريس «مهنة شُؤم»، تُذكّرنا بمعلم الصبيان الذي تحدث عنه الجاحظ، وشدد على عدم قبول شهادته لمخالطته الصبية وتأثّره بقلة عقولهم، ونصّص على جهله بسبب تكراره معلومات ظل رهينها يأكل منها طعامه ويكسب منها قوته أن يُوجِد فضاءً إبداعيا يتحقق فيه؟ الأستذةُ مرض عُضَال ومُعطِّل ذهني لا دواء له، إن قنع المُعلم بأنه مصدر معرفة يقينية لا يدخلها الشك ولا يمسها الريب.

حال الأستاذ الجامعي في بلادنا العربية لا يختلف عن حال معلم ابن الجوزي الذي أدخله في باب المغفلين ووسمه متأثرا بالجاحظ بقوله: «وهذا شيء قل أن يخطئ ونراه مطَّردًا ولا نظن السبب في ذلك إلا معاشرة الصبيان، وقد بلغني أن بعض المؤدبين للمأمون أساء أدبه على المأمون وكان صغيرًا فقال المأمون: ما ظنك بمن يجلو عقولنا بأدبه ويصدأ عقلُه بجهلنا، ويوقرنا بزكانته ونستخفه بطيشنا، ويشحذ أذهاننا بفوائده ويكل ذهنه بغَيِّنَا، فلا يزال يعارض بعلمه جهلنا وبيقظته غفلتنا وبكماله نقصنا، حتى نستغرق محمود خصاله ويستغرق مذموم خصالنا، فإذا برعنا في الاستفادة برع هو في البلادة، وإذا تحلينا بأوفر الآداب تعطل من جميع الأسباب، فنحن الدهرَ ننزع منه آدابه المكتسبة فنستفيدها دونه، ونثبت فيه أخلاقنا الغريزية فينفرد بها دوننا، فهو طول عمره يُكسِبُنَا عقلًا ويكتسب منَّا جهلًا فهو كذبالة السراج ودودة القزّ»، وعليه، تصديقا للجاحظ ولابن الجوزي، فإنّ صاحب التعليم يحتاج دوما إلى شحذ معارفه، وتكثيف زاده العلمي، حتّى لا يُنْهي ما به تزوّد من قليل المعارف في تعليم الصبية وأن يظلّ دوما مرجعا في مجاله. يقيني الشخصيّ أنّ الأستاذ الجامعي المتخصّص في الأدب إذا ما تحوّل إلى كتابة الرواية -وهو الأمر الشائع في أيّامنا- فإنّ ذلك ينتهي به حتما إلى الفشل الذريع، ولكن العكس سليم، يعني أن المبدع الروائي قد يتحول إلى جامعي فتكون الفائدة الجليلة، والتجربة الوفيرة.

فعدد مهم ممّن برعوا في كتابة الرواية في العالم أو في منطقتنا العربيّة لا يُتقِنون من اللّغة إلاّ الحدّ الذي به تُجْرَى، ولا يعلمون من فنون السرد والقصص إلاّ ما يُشكّل أذهانهم ممّا يحلو لهم أن يطّلعوا عليه من أعمال يُعجَبُون بها أو أعمال يُتابعونها، ويُسايرون إنتاجها، وعلى ذلك فإن أستاذنا نجيب محفوظ أعرَض عن الدكْترة، وأضرب عن تدريس الفلسفة، واختار طوعا التفرّغ للكتابة، ولو سألتَه آنذاك عن فلاديمير بروب أو عن رولان بارط لفتح فاه متعجّبا، وكذا كان الساردُ العربي الأجل والأقدر -في نظري- عبد الرحمن منيف الذي كانت دراسته بعيدة عن مجال الأدب، ولكن فهمه في الاقتصاديات النفطية والتسويق مكناه من أن يستشرف واقع العرب، وأن ينظر للقصص الآتية في مقبل زمانه وكأنّه يراها تحدث أمامه، فقص علينا ما سيكون دون أن يُشعرنا بثِقَل الدرس السردي ولا بوطأة الدرس النقدي، ولا بحِمْل معلم الصبية، وكذا الأمر مع يوسف إدريس الطبيب، ومع حنّا مينه العصاميّ، وغيرهم كُثر.

بطبيعة الحال هذا الرأي لا يفضي إلى التعميم، فعدد من المدرّسين، وخاصّة منهم من اختصّ بالآداب الأجنبيّة قد برعوا في كتابة الرواية، منهم هاني الراهب وجبرا إبراهيم جبرا، ولكن -كما سلف أن ذكرتُ- فإن ذلك يرجع بالأساس إلى أن طبعهم الأصلي هو ميلهم إلى القصص لا ميلهم إلى التعليم، ولذلك، فإنّ من درّس منهم، ونصّب نفسه مُعلّما، لم يُفوّت أوّل فُرصَة تُسمح له بالتخلي عن جبّة المُعلم حتى ينضوها عنه.

يُضرَبُ لي عندما أتحدّث في هذا الموضوع مثالان مُفزعان، يعتقد جالبهما أنّهما المثال الدامغ لإسقاط ما أذهبُ إليه من رأي في حجْب الإبداع عن الجامعيين الذين يُصدّقون أن دورهم هو زرع اليقين، وهما عبد الفتاح كيليطو في روايته التي لا أعتبرها رواية «أنبئوني بالرؤيا»، ذلك أنّها داخلة في ما يُمكن أن أسميه السردية النقدية التي يبرع فيها كيليطو، وكذلك الأمر بالنسبة إلى «روايته» الأخيرة التي ألحّ في عنوانها على أنها «واللّه إن هذه الحكاية لحكايتي»، فهما سيرةٌ نقدية يُظهرُ فيهما كيليطو الذي كان له الدور الرئيس والأهم في إعادة تسريد التراث النثري أساسا وفق رؤية يُعْمِل فيها النقد الحديث صُحبة القراءة التفاعلية، ولم ينجح كيليطو في كتابة الرواية على الهيئة التي ابتدعها «إمبرتو إيكو» في «اسم الوردة» حيث اجتماع شغف الحكاية مع هيكل النقد، وإنما نجح في أن يبدو صوته قارئا فاعلا متفاعلا مع التراث الأدبي العربي، وهو صاحب اللسانين والقلم الواحد.

وعودا إلى روايته الأخيرة «واللّه إن هذه الحكاية لحكايتي» التي يبدو أن كيليطو قد أراد كتابتها باللغة العربية وهو صاحب اللسان والقلم الفرنسي، فقد تخير لها الكاتب عُنوانا يريد أن يجبّ به ما يُمكن أن يلحقه من تُهَم ممارسة النقد لا كتابة الحكاية، فعبّأ العنوان بأدواتِ توكيد تُظهر تمثّله لقارئ رافض، منكر أن تكون هذه حكاية أولا وحكاية الكاتب ثانيا، فلاحظنا على غير عادة كُتّاب الرواية شحنا للعبارة، بالقسم والإعادة ولام التوكيد. أما بالنسبة إلى المُعلم الثاني وهو الروائي شكري المبخوت الذي احتل منزلة مهمة في الرواية العربية في العشرية الأخيرة، فإن لي في شأنه رأيا وقولا.

فهو أولا توجّه إلى الرواية وهو في طريقه إلى التقاعد من الجامعة التونسية، وقد بدأ في خلع جبّة معلّم الصبية التي تُظهر كتابته بعد ذلك أنّ بقاياها ما زالت عالقة به، وهو ثانيا -في ظنّي- ليس روائيّا مرموقا، وإنّما هو كاتب روايةٍ كألفٍ، صنعتهُ جائزة البوكر العربية التي بها تحقق (يُمكن النظر مثلا في منْح جائزة البوكر العربية لمحمد النعسان الكاتب الليبي الذي كانت روايته هي الرواية الفريدة، الوحيدة، وكان الكاتب مؤمنا بفشل مشروعه الروائي، مؤمنا أيضا بأنّه كتب تجربة عاشها وانتهى الأمر)، وقد كتبتُ سابقا في هذا الشأن الذي تصنع فيه الجوائز الكُتّاب والأدباء.

الخلاصة، أنّ كتابة الرواية بالنسبة إلى الروائيّ الأصيل تتفارق مع البنية المعرفيّة للمعلّمين، ومن ضمنهم الأساتذة الجامعيون، إلاّ من رحم ربّك، فلصاحب التعليم بنية فكرية قائمة على الاستعادة والإعادة تؤدي إلى الكراهة، وفي أفق المبدع بنية فكرية ريبية قائمة على الاستبصار ورؤية الحكاية، وفي الأساس قائمة على حُسن الإنصات وليس على حُسن التكلّم، فالروائي منصت جيد للآخرين، والمعلم باث جيد، ومتكلم مهيمن على فضائه الخطابي، وينبغي أن تبقى حكايته هي الأصلح. هذه مقدمة طويلة الغرضُ منها الحديث عن كتاب صدر حديثا لكاتبة رواية عُرِفت روايتها باللّغة العربيّة ثمّ نُقلت إلى لغات العالم، والكتاب يسير بطريقة عكسية، فقد كتبته صاحبته باللغة الإنجليزية ولاقى قبولين في أرضِ الفرنجة، ثمّ عاد إلى اللّسان العربيّ ترجمة، فكأن الكاتبة تُنْقَل إلى لغة العرب في البحث والدراسة، وتُنْقَل إلى لغة العرب في الإبداع والرواية، فهي -وهي التي تُتقن الكتابة بألسنتهم- لا ترتضي أو لا تقدر أن تُبدع إلاّ بلسانها، الإبداع بلسان أصلي والبحث بلسان أهل المعرفة هو موضوع فشلت في إثارته في هذا المقال، وقد أنجح في مباشرته بشكل مباشر في مقالي القادم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کتابة الروایة

إقرأ أيضاً:

سلطنة عُمان.. الودق الذي يُطفئ الحروب

 

 

د. أحمد بن علي العمري

 

سلطنة عُمان… بلد الأمن والأمان والسلام والإسلام والاعتدال والحياد والأعراف والعادات والتقاليد وحسن التعامل والتسامح، حيث إن الأعراف والتقاليد لدى العُماني أقوى من أي قانون؛ الأمر الذي جعلها محل ثقة وتقدير واحترام العالم أجمع دون استثناء.
ومع ذلك؛ فالرأي مفتوح للجميع، وسقف الحرية مرتفع بحكم القانون العُماني. ولقد لفت انتباهي الانطباع الذي خرج به المشاركون في معرض مسقط الدولي للكتاب من زوار ومؤلفين وناشرين؛ حيث عبّروا عن الحرية التي وجدوها؛ فهناك الكثير من الكتب التي يُمنع نشرها في العديد من الدول وجدت حريتها في عُمان تنتظرها، وأكدوا أن في عُمان مجالًا رحبًا للرأي والرأي الآخر، وأفقًا للرأي الواسع، كما أشاروا إلى حفظ الحقوق واحترام وتقدير الآخرين.
لقد وجدوا التطبيق الفعلي لعدم مصادرة الفكر؛ بل حمايته وتهيئة الجو المناسب له، فقد قالها السلطان الراحل قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه -: "إننا لا نصادر الفكر.. أبدًا"، وأتت النهضة المتجددة لتؤكد على استمرارها ونموها وتوسعها؛ فأضحت عُمان بلا منازع محل تقدير ومركز تسامح وموقعًا لثقة الجميع.
المعروف أن الودق هو المطر الذي يُنهي الجفاف ويحيي الأرض، وفي السياق الأدبي أو الثقافي يُستخدم كرمز للخير والسلام، وعندما نقول إنه يطفئ الحروب، فهو تعبير مجازي عن دور عُمان التاريخيّ في إخماد النزاعات بالحكمة والدبلوماسية، كما فعلت عبر تاريخها في الوساطة بين الأطراف المتنازعة.
إن سلطنة عُمان معروفة بسياسة الاعتدال والحوار؛ سواء كان ذلك في محيطها الخليجي أو العربي أو على المستوى الدولي، مما جعلها صانعة للسلام بامتياز. وهكذا فإن الودق العُماني ليس مجرد مطر مادي، وإنما هو إشارة للغيث الأخلاقي في البوتقة السياسية الذي تقدمه عُمان لتهدئة الصراعات ومسبباتها ووأد الفتنة في مهدها.
لقد وقفت السلطنة كعادتها الدائمة والثابتة والراسخة على الحياد؛ فلم تقطع العلاقات مع جمهورية مصر العربية إبان اتفاقية كامب ديفيد، وكذلك الحياد في اتفاقيات مدريد وأوسلو ووادي عربة، وبقيت محايدة في الحرب العراقية الإيرانية، ولم تتدخل في الحروب التي تستعر هنا وهناك من حينٍ لآخر؛ فلم تتدخل في حرب ليبيا، ولا الصومال، ولا اليمن، ولا السودان؛ بل أغلقت أجواءها أمام الاستخدام العسكري لأي من الطرفين المتنازعين.
وقد كانت الوسيط لإطلاق عدد كبير من المحتجزين للعديد من الدول، كما إنها كانت وسيط الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، وحاليًا تقوم بالوساطة ذاتها بين أمريكا وإيران للوصول إلى اتفاقية ثابتة وملزمة ومحكمة.
ومؤخرًا تدخلت السلطنة لإطفاء الحرب الملتهبة بين أمريكا واليمن، والتوصل للاتفاق على وقف إطلاق النار بين الطرفين، وهي حرب بالغة في التعقيد، لكن الدبلوماسية العُمانية المعهودة كان لها التأثير السلس الذي يتواصل مع الفرقاء برقة النسيم، وعذوبة الودق، وشذى الياسمين.
كل ذلك بهدوء ودون صخب إعلامي أو ضجيج القنوات الفضائية أو جعجعة الحناجر، كعادتها عُمان تبتعد عن المنّ والأذى.
إن الطائر الميمون الذي يقلّ المقام السامي لحضرة مولانا صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - بين العديد من عواصم العالم بين الحين والآخر، إنما يحمل على جناحيه غصن الزيتون ومرتكزاته وأهدافه، هو نشر السلام والتسامح؛ فعُمان تلتقي ولا تودع، وتجمع ولا تفرّق، وتلمّ ولا تشتّت، وتمُدّ يد السلام والوئام والتسامح والأُلفة للجميع.
حفظ الله عُمان وسلطانها وشعبها.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • باحث: زيارة ترامب إلى المملكة تضع علاقات الرياض وواشنطن بمكانة تستحقها
  • كورال "سلام" يحيي حفل القومي لثقافة الطفل لتوزيع جوائز مسابقتي "الرواية والتأليف المسرحي" بالهناجر.. غدًا الثلاثاء
  • من صفحات الرواية إلى غرفة العناية.. صنع الله إبراهيم سطور الإبداع تتوقف قليلًا في حضرة الألم
  • السوداني يطلع على فندق ” قلب العالم” في بغداد الذي سيستضيف وفود القمة العربية
  • باحث علاقات دولية: المملكة تتحدث دائمًا عن الحلول الشاملة للأزمات الدولية
  • سلطنة عُمان.. الودق الذي يُطفئ الحروب
  • " ناصر" الذي لَمْ يَمُتْ.. !! (٢-٢)
  • باحث سياسي: المملكة لها دور رائد في إصلاح الأوضاع العالمية على مختلف الأصعدة
  • وفد برئاسة نقيب الكتاب يزور الروائي الكبير صنع الله إبراهيم في مستشفى معهد ناصر
  • الأمراض التي قد يشير إليها الطفح الذي يصيب أكبر عضو في الجسم