يني شفق: أوسين جيشو كادت أن تكون فلسطين أفريقيا
تاريخ النشر: 17th, January 2024 GMT
أعاد كاتب تركي إلى الأذهان أن الصهاينة، وقبل أن يبدؤوا استعمارهم لأراضي فلسطين في 14 مايو/أيار 1948، عرض عليهم الإمبرياليون البريطانيون العديد من خيارات الأراضي ومنها أراضي "أوسين جيشو" الواقعة حاليا داخل حدود كينيا.
وانطلق الكاتب من ذلك ليتحدث عن الوجود المصطنع لليهود في فلسطين، وعن الطبيعة الحقيقية للصهيونية كحركة استعمار استيطاني، داعيا إلى التضامن الدولي مع نضال الشعب الفلسطيني باعتباره حركة نضال في سياق المقاومة العالمية ضد الإمبريالية والاستعمار.
ويقول الكاتب كنان توبراك، في مقال بصحيفة "يني شفق" التركية، إن التاريخ الحديث شهد نوعين من الاستعمار: بدأ الأول في القرن الـ15 مع "الاكتشافات الكبرى" التي تطوّرت إلى حركة كبرى للاستعمار الأوروبي لقارات أخرى ودخلت التاريخ باسم "الاستعمار".
الاستعمار الاستيطانيوالنوع الثاني هو الاستعمار الاستيطاني، حيث استولت القوى الإمبريالية الغربية على أراضي السكان الأصليين وأجبرتهم على النزوح أو الخضوع، وغالبا ما استقرت أعداد كبيرة من الأوروبيين مما أدى إلى خلط ديموغرافي كبير. وقد حدث هذا النوع من الاستعمار في أميركا الشمالية وجنوب أفريقيا ونيوزيلندا وأستراليا. ويُعتبر الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين مثالا آخر على الاستعمار الاستيطاني.
وأشار إلى إن البريطانيين عرضوا على الحركة الصهيونية عددا من الخيارات في أجزاء مختلفة من العالم لتوطين اليهود فيها، وكان أحد هذه الخطط اقتراحا بإنشاء مستعمرة أو مستوطنة يهودية سموها "خطة أوغندا"، وتهدف إلى نقل مئات الآلاف من اليهود الشرقيّين إلى منطقة "أوسين جيشو" التي كانت آنذاك جزءا من محمية أوغندا، وتقع الآن داخل حدود كينيا، مضيفا أن المؤتمر الصهيوني الذي عُقد في 1905، رفض هذه الخطة.
الإبادة الجماعية ناتج طبيعي للصهيونيةوأعاد الكاتب إلى الأذهان أيضا تصريحا لـ(يسرائيل زانغويل)، أحد نواب الحركة الصهيونية قبل قرن، قال فيه "هناك حيوانات برية في شرق أفريقيا، لكن هناك مخلوقات أكثر وحشية في القدس، حيث يوجد متعصبون دينيون (مسلمون أعداء)"، وربطه بتصريح وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي يائير غالانت الذي قال "نحن نحارب حيوانات بشرية وسنتصرف وفقا لذلك"، ليقول إن التصريحين يؤكدان أن نظرة الصهاينة لم تتغير من الماضي إلى الحاضر، وإنهم، لو قبلوا بـ"خطة أوغندا" لنفذوا "إبادة جماعية" على شعب الماساي الكيني مماثلة للتي نشهدها حاليا في غزة.
التكرار المعاصر للاستعمارواستمر توبراك يتحدث عما نشهده في فلسطين اليوم ليقول إنه تكرار معاصر للاستعمار ومظاهره، ذلك أن إسرائيل في فلسطين اليوم مثل البريطانيين في كينيا والهند وزيمبابوي (المعروفة سابقا باسم روديسيا) وفي أجزاء أخرى من مستعمراتها السابقة، ومثل الولايات المتحدة في فيتنام، والألمان في ناميبيا، والبوير والبريطانيين في جنوب أفريقيا، والفرنسيين في الجزائر وهاييتي، والبلجيكيين في جمهورية الكونغو الديمقراطية (المعروفة سابقا باسم زائير)، والبرتغاليين والإسبان في أميركا اللاتينية.
وقال الكاتب إن الصهيونية تعود إلى عصر اعتاد فيه المستعمرون الأوروبيون تبرير إبادة البشر الذين رأوهم شعوبا أدنى و"متوحشين"، لذلك ليس من المستغرب أن يشهد العالم حاليا نفس وقائع العنف الاستعماري أمامهم في فلسطين.
وأوضح الكاتب أن الاستعمار الاستيطاني الأوروبي والصهيونية يتشاركان في إنتاج خطاب واحد يبرر استيطانهما ويخفي أسوأ أعمالهما الوحشية بادعاء نوع من الاستثناء.
فعلى سبيل المثال، أشار والتر إل هيكسون، مؤلف كتاب "الاستعمار الاستيطاني الأميركي: تاريخ"، إلى أن المستوطنين الأنجلو-أميركيين الأوائل منذ وصولهم إلى أميركا الشمالية كانوا يتخيلون أنفسهم مكتشفين مختارين إلهيا للأراضي "البكر" التي سيستولون عليها، وأنشؤوا فكرة "القدر المحتوم"، التي استمرت في التأكيد على الإيمان بالرسالة الإلهية للاستعمار. وبالمثل، أشارت الحركة الصهيونية إلى وضع اليهود كـ "الشعب المختار"، بينما سعت فرنسا إلى تبرير مبادراتها الاستعمارية بوعود رسالة "التنوير".
وأورد الكاتب أن الدولة الاستيطانية الصهيونية، من خلال سياساتها العنصرية في فلسطين، طبّقت جميع الدروس التي يمكن تعلمها من مختلف الأنظمة العنصرية التي أقامها المستوطنون البيض في آسيا وأفريقيا ومناطق أخرى.
وبشكل خاص، هناك العديد من أوجه التشابه بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي الحالي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الحرکة الصهیونیة فی فلسطین
إقرأ أيضاً:
إيران ومعركة السيادة
خالد بن سالم الغساني
لم تتغير ملامح الاستعمار عبر التاريخ إلا في أشكاله وأدواته، فبعد أن كانت البوارج الحربية والمدافع هي اللغة الوحيدة للتوسع والهيمنة، صارت العقوبات الاقتصادية والضغوط الدبلوماسية هي السلاح الجديد لفرض الإرادة والسيطرة.
وما تشهده إيران اليوم من هجمة سياسية وإعلامية واقتصادية ليس سوى امتداد لذلك النهج الاستعماري الذي يصر على التعامل مع الشعوب المستقلة وكأنها مجرد أطراف متمردة على "النظام العالمي" الذي صاغته القوى الكبرى بما يخدم مصالحها وحدها. إن عودة العقوبات على إيران تحت ما يسمى آلية الزناد تكشف بوضوح أن الهدف الحقيقي ليس منع الانتشار النووي، كما يدّعي الغرب ويروج، وإنما إخضاع دولة اختارت أن تسلك طريقها المستقل، وتصر على أن تمتلك قرارها السيادي بعيدًا عن الوصاية الخارجية.
لقد أوضح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في تصريحاته أن بلاده لن تنسحب من معاهدة حظر الانتشار النووي رغم كل الضغوط، وهو موقف عقلاني يعكس حرص إيران على البقاء في إطار الشرعية الدولية، وتفويت الفرصة على خصومها الذين يتربصون بها لإظهارها كمنفلتة من القوانين. غير أن هذا التمسك لا يعني قبول الانصياع، بل على العكس، فهو يوازيه إصرار على حق طهران في مواصلة تخصيب اليورانيوم واستخدام التكنولوجيا النووية بما يتوافق مع مصالحها وتطلعاتها، وهو حق سيادي لا يحق لأي قوة أن تحرمها منه.
فهل يُعقل أن تُترك دول تمتلك ترسانات نووية هائلة، مثل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، خارج أي مساءلة أو محاسبة، بينما تُحاصر إيران لأنها تريد استخدام التقنية ذاتها لأغراض سلمية وتنموية؟
إن جلسة مجلس الأمن الأخيرة، التي أسقطت المشروع الروسي- الصيني الرامي إلى تعطيل إعادة فرض العقوبات، عكست حقيقة المشهد الدولي؛ فقد صوّتت غالبية الدول الغربية ضد المشروع، لتؤكد مرة أخرى أن مجلس الأمن أداة في يد القوى المهيمنة أكثر مما هو منصة حيادية لحماية السلم والأمن الدوليين. لقد انكشفت ازدواجية المعايير بشكل صارخ، فعندما يتعلق الأمر بمصالح الغرب أو حلفائه، تغيب القرارات العقابية ويتبدل الخطاب، أما عندما يتعلق الأمر بدولة ترفض الخضوع للهيمنة، تتحول القوانين إلى قيود وأغلال. هذه الازدواجية هي جوهر السياسة الاستعمارية الجديدة، التي تستبدل الاحتلال المباشر بآليات اقتصادية وسياسية تضمن استمرار التبعية.
ولعل ما قاله نائب المندوب الروسي دميتري بوليانسكي من تحذير بأن إعادة فرض العقوبات قد تفضي إلى عواقب وخيمة هو قراءة واقعية لخطورة التصعيد. فإيران ليست دولة هامشية يمكن تهميشها أو إقصاؤها بسهولة، بل هي قوة إقليمية لها امتداداتها وتحالفاتها في المنطقة، وقدرتها على التأثير في معادلات الشرق الأوسط لا يمكن إنكارها. ومن الواضح أن استمرار سياسة الحصار والعقوبات لن يدفع طهران إلى الاستسلام، بل سيدفعها إلى مزيد من الصلابة والتحدي، وربما إلى تسريع خطواتها نحو الاقتراب أكثر من العتبة النووية. وهنا تكمن المفارقة الكبرى؛ فبدلًا من أن تؤدي العقوبات إلى احتواء الخطر كما يزعم الغرب، فإنها قد تفتح الباب لتفاقم التوتر ودخول المنطقة في سباق خطير نحو المجهول.
إن إصرار الدول الاستعمارية على إذلال العالم يتجلى اليوم بأوضح صوره في الملف الإيراني. فهذه القوى لا تحتمل أن ترى شعبًا ينهض بإرادته، أو دولة تحاول أن تكون مستقلة بقرارها. إيران تمثل نموذجًا لمجتمع يريد أن يمتلك العلم والتكنولوجيا وأن يستثمر ثرواته لصالح شعبه، لكن هذا الخيار يصطدم دومًا بجدار من العقوبات والحصار والتهديدات. وهكذا يتحول الحق المشروع في التنمية والاكتفاء الذاتي إلى خطر على الأمن الدولي، بينما يبقى الاحتلال الصهيوني لفلسطين، بكل ما يحمله من جرائم يومية، خارج أي محاسبة أو مساءلة. أي منطق هذا وأي عدالة؟
وليس من قبيل الصدفة أن تزامن هذا التصعيد مع تجاهل الغرب لنداءات الحوار الجاد، فقد أشار بزشكيان إلى أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم تُظهر أي جدية في المحادثات النووية، حتى قبل الهجوم الإسرائيلي على إيران، السلوك الذي يعكس أن واشنطن، ومن خلفها العواصم الغربية، لا تبحث عن حلول عادلة بقدر ما تبحث عن ذريعة لإبقاء المنطقة في حالة توتر دائم، بما يبرر وجودها العسكري ويخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية.
والحديث عن الأمن والاستقرار ليس سوى خطاب للاستهلاك الإعلامي، بينما الحقيقة أن الاستعمار يريد شرقًا أوسط مضطربًا، غارقًا في الأزمات، يسهل التحكم بمساراته وثرواته.
اليوم.. يقف العالم أمام لحظة فارقة، إما أن يُسمح لإيران أن تمارس حقها المشروع كدولة ذات سيادة، أو أن يستمر الغرب في غطرسته التي لن تجلب سوى مزيد من الفوضى. إن ما يُواجهه الشعب الإيراني ليس صراعاً حول برنامج نووي، إنه معركة حول حق الشعوب في أن تختار طريقها دون وصاية. الوقوف إلى جانب إيران في هذه المعركة هو وقوف إلى جانب مبدأ الحرية والسيادة والكرامة الإنسانية، وإذا كان الغرب يصر على إذلال العالم بوسائل جديدة، فإنَّ مقاومة هذا النهج هي مسؤولية كل من يؤمن بعدالة القضايا وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
إنَّ الاستعمار مهما غير من أدواته وأساليبه يبقى هو الاستعمار ذاته، يسعى دائمًا إلى السيطرة والإذلال. لكن الشعوب التي قاومت بالسلاح من قبل، قادرة اليوم أن تقاوم بالعزيمة والعلم والإصرار. وإيران، برفضها الانصياع، إنما تمثل طليعة هذه المقاومة في وجه منظومة استعمارية لم تتوقف يومًا عن محاولة إعادة رسم العالم وفق مقاساتها الخاصة. ومن هنا، فإن دعم موقفها ليس دفاعًا عن دولة بعينها؛ بل هو دفاع عن حق البشرية جمعاء في التحرر من قيود الهيمنة والوصاية الاستعمارية.
رابط مختصر