يقول أهلنا في مصر بلهجتهم الدارجة: "كُتر الحِزن يِعَلِّم البُكا"، ولا أظن المقولة تحتاج ترجمة إلى الفصحى!
هذا هو حال المصريين اليوم.. الكل حزين.. الكل يبكي.. الكل يتكلم في جزع، وغضب، وفُحش أحيانا، حتى أولئك الذين اعتادوا "الفُرجَة"، و"أدمنوا" السكوت!
تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أعتقد جازما أنها "بفعل فاعل" والفاعلون معروفون، بات المصريون، على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية، حتى الأميون منهم، يتكلمون في الاقتصاد، ويطرحون حلولا للأزمة الاقتصادية التي تجلت في انهيار القيمة الشرائية للجنيه المصري، والارتفاع الجنوني في أسعار السلع، وانخفاض المداخيل الدولارية، والتوسع في الاقتراض، والعجز عن سداد الديون الهائلة، واستنزاف أو "تبديد" أموال المودعين في البنوك، وتوقف المصانع عن الإنتاج، وزيادة نسبة البطالة، وغياب تام للرقابة على الأسواق، الأمر الذي جعل طبقات المجتمع كافة تصرخ في هلع، وتئن في يأس، وتلعن الساعة التي رأوا فيها سِحنة الجنرال المنقلب ياسر جلال، وسمعوه يقول لهم: "إنتو مش عارفين إنكو نور عينينا وللا إيه؟".
ولا معنى لأن تكون مصر "أد الدنيا" ما دامت هي "أم الدنيا".. إلا أن طبيب الفلاسفة يجوز له قول ما لا يُستساغ من القول!
وقتذاك، هللت شريحة لا يُستهان بها من المصريين لزوال "حكم المرشد"، وإفشال مشروع "أخونة الدولة"، حتى أن إحداهن (محجبة) حمدت الله؛ "لأنه خلصها من بتوع قال الله وقال الرسول"! وأكاد أجزم أن هذه السيدة وملايين غيرها استفادوا أيما استفادة من مشاريع الإخوان المسلمين الخيرية مثل: المستشفيات والعيادات الاقتصادية، ومعامل التحاليل شبه المجانية.. الصيدليات التي تصرف الدواء (مجانا) لمعدومي الدخل.. معارِض العودة إلى المدارس بأسعار زهيدة.. معارض السلع المعمرة بأقساط مريحة.. توفير اللحوم في الأعياد بأسعار في متناول الفقراء، وغير ذلك من الخدمات التي كان يقدمها الإخوان للطبقتين الفقيرة والمتوسطة..
أحسب أن حسني مبارك كان يعي تماما أهمية الدور الذي يلعبه الإخوان، في التخفيف من أعباء الحكومة، فوضع سقفا لعداوتهم واضطهادهم، فلم يفجُر في الخصومة معهم، رغم بغضه لكل ما هو إسلامي!
وأحسب أن حسني مبارك كان يعي تماما أهمية الدور الذي يلعبه الإخوان، في التخفيف من أعباء الحكومة، فوضع سقفا لعداوتهم واضطهادهم، فلم يفجُر في الخصومة معهم، رغم بغضه لكل ما هو إسلامي!
صور من حلول المصريين للأزمة الاقتصادية
الحلول التي يطرحها المصريون لأزمتهم الاقتصادية المزلزلة متباينة كتباينهم فكريا، واجتماعيا، وثقافيا، ودينيا أيضا..
فمنهم من بات يتمنى الموت لينقطع عن هذا العالم الظالم أهله، فيكُف عن التفكير في كيفية توفير الضرورات التي لم يعد دخله يكفي لتأمين رُبعها.. يأس فوقه يأس، تحته يأس، ولا حل يلوح في الأفق!
ومنهم من يفكر في الانتحار منفردا، أو مع أولاده، وقد حدث؛ للخلاص من هذا الغم الذي لا يعرف متى يزول ولا كيف.. قمة الضعف، وقلة الحيلة، وفقدان الأمل!
ومنهم من يتمنى الاعتقال؛ للحصول على "اللقمة" التي يسد بها رمَقه، حتى لو كانت حريته هي المقابل.. عدمية وإحباط!
ومنهم من يجأر بالشكوى لـ"الرئيس" الذي "انتخبه" ثلاث مرات، اعتقادا منه أنه المنقذ والمخلِّص، ولا يزال يراه جديرا بـ"الرئاسة"، فيرجوه ويستعطفه أن يجد حلا لمشكلته التي تتفاقم كل ساعة.. خيبة ما بعدها خيبة، وعمَى ما بعده عمَى!
ومنهم من يمسك براتبه الشهري الذي يساوي خمسين دولارا، ويطلب (في ذل ومسكنة) إلى "رئيسه" الذي يحبه ويقسم على ذلك أن يضع نفسه مكانه، ويريه كيف سيعيش هو وأسرته 30 يوما بخمسين دولارا.. يا مستني السمنة من بطن النملة!
ومنهم من يقدم على طلاق زوجته؛ ظنا منه أن الطلاق سيعفيه من أعباء أسرته، فيكتشف أن هذا ليس حلا، بل هو إجراء أحمق، ضاعف مشكلته، وفاقم أزمته.. إنه فقدان القدرة على التفكير، والهروب من المسؤولية من أي طريق، حتى لو كان مسدودا!
ومنهم من يلعن ياسر جلال "ع السبحة" كما يقولون، في غير خوف ولا وجل.. إذ لم يعد لديه ما يخاف عليه، فهو في نظر زوجته وأبنائه "وجوده زي عدمه".. لا فائدة تُرجى منه ما دام عاجزا عن توفير لقمة العيش لهم.. ليست شجاعة.. إنه نوع من اليأس فاق معنى اليأس!
ومنهم من تظهر على وجهه بقايا آثار النعمة التي زالت، بسبب التضخم الذي ابتلع راتبه، فإذا هو عاجز عن توفير "أساسيات" الحياة، أو فقد وظيفته؛ بسبب إغلاق الشركة التي يعمل بها، أو توقف نشاطه التجاري؛ لعجزه عن توفير الدولار لاستيراد مستلزمات الإنتاج..
هؤلاء يتكلمون (في أسى وغيظ وتوبيخ وتهكم) عن المشاريع الفنكوش، وتدني كفاءة الحكومة، وعدم اكتراثها بمشاكل المواطن، وفشلها في ترتيب الأولويات.. إلخ..
عقلانية وانضباط في الطرح لا أظنهما سيستمران طويلا إذا طالت الأزمة، ساعتها سيفكر هذا النموذج "العاقل" كما يفكر النماذج الثلاثة الأولى.. تمني الموت، أو دخول السجن، أو الإقدام على الانتحار، إلا أن يكون مؤمنا قوي الإيمان، فيرى فيما يمر به ابتلاءً سيزول يوما بحول الله، وما عليه سوى الصبر والتسليم بقضاء الله وقدره..
ومنهم خبراء اقتصاد ناصحون مخلصون (في مصر وخارجها) يقدمون حلولا اقتصادية علمية باتت من البديهيات، يستحيل تحقيقها للأسف الشديد؛ لأن البيئة المصرية قد ضرب في أطنابها الظلم، والفساد، والخيانة.. ذلك الثالوث الدنس الذي ينخر وينهش في لحم مصر، وعظامها، وأحشائها.. فأنَّى لبذور الإصلاح أن تنمو في بيئة كهذه البيئة؟.. نفخٌ في "قربة مخرومة"!
إن من البلاهة والعَتَه أن يؤمل أحدٌ خيرا، أو ينتظر إصلاحا لهذا الحال، ما بقي هذه الثالوث الشيطاني يحكم ويتحكم، بغض النظر عمن يدير هذه المنظومة الظالمة الفاسدة، الغارقة في وحل الخيانة، بكل أجنحتها!
أزمة مصر بدأت أمس وتفاقمت اليوم!
لا أعرف دولة تقدمت وازدهرت، ووفرت احتياجات مواطنيها، وحققت لهم الرفاه والأمن، وصانت كرامتهم وإنسانيتهم، إلا وقد توفرت لدى إدارتها السياسية الإرادة والعزم على تحقيق ذلك، وهذا أمر لم تعرفه مصر منذ انقلاب يوليو 1952.. ويوم جاء رئيس منتخب (لأول مرة) ووضع نصب عينيه إنجاز كل ذلك وتحقيقه، متسلحا بالنزاهة والزهد والتفاني، تم الانقلاب عليه
لا أعرف دولة تقدمت وازدهرت، ووفرت احتياجات مواطنيها، وحققت لهم الرفاه والأمن، وصانت كرامتهم وإنسانيتهم، إلا وقد توفرت لدى إدارتها السياسية الإرادة والعزم على تحقيق ذلك، وهذا أمر لم تعرفه مصر منذ انقلاب يوليو 1952.. ويوم جاء رئيس منتخب (لأول مرة) ووضع نصب عينيه إنجاز كل ذلك وتحقيقه، متسلحا بالنزاهة والزهد والتفاني، تم الانقلاب عليه؛ حتى يبقى الشعب المصري في حالة "موت سريري"، بين الحياة والموت، لصالح الكيان الصهيوني أولا، ولصالح دول الخليج التي دعمت الانقلاب على الرئيس المنتخب ثانيا؛ بهدف "الاستيلاء" على مكانة مصر ودورها في الإقليم!
لننظر إلى الدول التي خرجت مهدَّمة من الحرب العالمية الثانية، في وقت كان الجنيه المصري أقوى من الدولار.. أين أصبحت هذه الدول وأين أصبحت مصر؟
لقد توفرت إرادة النهوض والتقدم والازدهار لدى الإدارة السياسية في تلك البلاد، بينما كان حكام مصر الجُدد (انقلابيو يوليو 1952) مشغولون بالاستحواذ على السلطة، واستعباد الشعب، ونهب مصر..
إن ما تعانيه مصر اليوم من تدهور وتحلل وعجز هو النتيجة الحتمية الذي استغرق ظهورها واستفحالها اثنين وسبعين سنة من العبث والنهب والفساد والخيانة، مع التسليم بأن ما شهدته مصر (من كل ذلك) خلال السنوات العشر الأخيرة، يساوي ما تم ارتكابه في عهد عبد الناصر والسادات ومبارك مجتمعين!
نموذج لتوفر الإرادة
مرت تركيا (تحت حكم العسكر برضه) بظروف اقتصادية أسوأ مليون مرة من التي تمر بها مصر حاليا، ومليون مرة ليست من باب المبالغة، ولكنها من باب التأكيد على كونها حقيقة!
ففي عام 1999، أي قبل 25 سنة فقط، أصدرت تركيا ورقة نقدية بقيمة 10,000,000 (عشرة ملايين ليرة)!
كانت قيمة العشرة ملايين ليرة الشرائية تساوي "عشر ليرات" فقط (10 ليرات) أي "ثلث دولار" بسعر اليوم (0,33 دولار) أي أن الليرة كانت تساوي "عُشر الثلث" من الدولار، يعني (0,033).. يعني ولا حاجة!
ثم جاءت حكومة العدالة والتنمية برئاسة أردوغان في عام 2002، فأعادت ترتيب الأولويات، وأغلقت صنابير الفساد، وأحدثت طفرة اقتصادية، كان أساسها الإنتاج، والتصنيع، والاكتفاء الذاتي، والتصدير، فاستطاعت في عام 2004 حذف "ستة أصفار" من عملتها، أي بعد سنتين فقط من انتخابها. وأصبحت تركيا (اليوم) في مصاف الدول الكبرى، وبين "العشرين الكبار" رغم ما تعرضت له عملتها المحلية من حراب شعواء (على مدى سنوات) بغية إضعافها.. ولكن وجود إدارة وطنية مخلصة لبلادها وشعبها، لديها إرادة للنهوض، والازدهار، وتوفير حياة كريمة لمواطنيها، حالت دون تفاقم الأزمة الاقتصادية في تركيا، رغم انخفاض الليرة أمام الدولار..
فالسلع كافة متوفرة، والإنتاج يكفي الاستهلاك المحلي ويفيض منه للتصدير، والحد الأدنى للأجور يرتفع باضطراد، بالتشاور مع النقابات العمالية والمهنية، بالقدر الذي يعين المواطن التركي البسيط على توفير حاجاته الأساسية، بجودة عالية..
الحل الجذري للمشكلة
إذن علاج المشكلة المصرية (التي لم تتفاقم بعد) معروف ومدروس ومُجرَّب ولا يحتاج (في تقديري) إلا إلى:
(1) قيادة سياسية راشدة كفؤة، زاهدة في السلطة والمال، لا تحركها سوى المصلحة الوطنية، تضع خطة شاملة لإنقاذ مصر، الأمر الذي يعني (بالضرورة) إزالة هذا النظام بالكلية لاستحالة إصلاحه.
(2) حكومة كفاءات وطنية ترعى مصالح الشعب بحق، ولا تعطي لنفسها أي امتيازات غير التي من شأنها أن تسهل أعمالها..
(3) وقف نزيف أصول البلاد التي تؤول (بالبيع) إلى الأجانب (عن عمد) بهدف الاستحواذ على القرار الوطني، وليس بهدف الاستثمار.
العمل بصبر وأناة على إصلاح ما أفسده العسكر طوال اثنين وسبعين عاما، كانت العشر الأخيرة منها هي الأسوأ على الإطلاق، فحجم الدمار الذي لحق بمصر على يد الجنرال المنقلب ياسر جلال لم يُحدثه عبد الناصر والسادات ومبارك مجتمعين
(4) وضع "خريطة اقتصادية" لمصر، كأساس لخطة طموحة تهدف إلى الاستفادة القصوى من موارد مصر الظاهرة والباطنة..
(5) غلق صنابير الفساد، وردم قنوات "التسرب المالي" الذي يشكل رقما ضخما في ميزانية الدولة.
(6) ضم ميزانيات الصناديق الخاصة والسيادية واقتصاد الجيش إلى ميزانية الدولة، ومن المعروف أن ميزانيات هذه "البلاعات" مجتمعة تفوق ميزانية الدولة.
(7) استعادة الأموال المنهوبة المكدسة في البنوك الأجنبية.
(8) بتنفيذ البنود (5) و(6) و(7) سيتوفر لدى الحكومة السيولة الكافية؛ لسداد الديون كافة، وإنشاء مشاريع إنتاجية، وإعادة تشغيل المشاريع التي توقفت، بما يكفي الاستهلاك المحلي، ويفيض للتصدير.
(9) خروج المؤسستين العسكرية والأمنية (بكل فروعهما وأجنحتهما) من السياسة والاقتصاد.
(10) إعادة صياغة علاقات مصر الخارجية بما يحقق مصالح الشعب المصري.
(11) العمل بصبر وأناة على إصلاح ما أفسده العسكر طوال اثنين وسبعين عاما، كانت العشر الأخيرة منها هي الأسوأ على الإطلاق، فحجم الدمار الذي لحق بمصر على يد الجنرال المنقلب ياسر جلال لم يُحدثه عبد الناصر والسادات ومبارك مجتمعين!
(12) قبل كل ذلك وبعده، إطلاق سراح معتقلي الرأي، وتعويضهم ماديا وأدبيا، ورد الاعتبار إليهم، ومحاكمة المفسدين، والقصاص من القتلة، وتعويض ضحايا الانقلاب، وفتح المجال العام.
اللهم هيء لمصر من أمرها رَشَدا، وولي عليها من ينهض بها ويصونها، ويحنو على أهلها بحق.
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مصر الاقتصادية مصر اقتصاد السيسي أزمات معيشة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة یاسر جلال ومنهم من کل ذلک
إقرأ أيضاً:
سلطان باشا الأطرش.. الزعيم الدرزي الذي واجه الاحتلال
أوائل مارس/آذار الماضي، قال الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط إن "الذين وحدوا سوريا أيام سلطان باشا الأطرش لن يستجيبوا لدعوات نتنياهو.. إسرائيل تريد استخدام الطوائف والمذاهب لمصلحتها وتفتيت المنطقة".
يأخذنا هذا التصريح إلى الوراء قبل قرن من الزمان، وتحديدا عام 1925 حين انطلقت شرارة الثورة السورية الكبرى من جبل العرب -معقل الدروز– بقيادة سلطان باشا الأطرش حينئذ في مواجهة حامية وقاسية أمام المحتل الفرنسي.
بدأت شرارتها من السويداء، لكنها سرعان ما امتدت إلى دمشق وحماة ودير الزور وحلب، وجمّعت تحت جناحها كبار القادة الوطنيين السوريين يومئذ، مثل الشهبندر والقاوقجي وهنانو والعلي وغيرهم ممن وقفوا -مع اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية والطائفية- في صف واحد ضد الاحتلال الفرنسي الذي عامل الجميع بعنجهية واضحة هدفت إلى تقسيم البلاد على أسس من الجهوية والطائفية.
فمن سلطان باشا الأطرش؟ وكيف نهض بقيادة الثورة السورية الكبرى جنوبي البلاد؟ وما الذي ميز مواقفه السياسية بعد خروج المحتل الفرنسي وحتى وفاته؟
ولد سلطان باشا الأطرش عام 1888 في قرية القريّا بمحافظة السويداء جنوب سوريا، ونشأ في كنف عائلة الأطرش الدرزية الشهيرة، إذ كان والده ذوقان الأطرش زعيما محليا ومؤسس المشيخة الطرشانية بها منذ عام 1869.
إعلانخدم سلطان الأطرش في صفوف الجيش العثماني خلال حروب الأناضول وحملات البلقان، حيث نال لقب "باشا" من السلطات العثمانية تقديرا لأدائه العسكري، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى عاد إلى بلاد الشام وقد تشكّل لديه وعي سياسي واضح برفض الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، فانخرط في الحركة الوطنية العربية الناشئة وقتها، ووطد صلاته بالعاصمة دمشق، مما جعل قريته "القريا" ملاذا للمناضلين ومعقلا للثوار في الجنوب السوري.
وكان الأطرش أول من رفع علم الثورة العربية الكبرى التي كان يقودها الأمير فيصل بن الحسين فوق أرض الشام، حيث رفعه على منزله بالقريا قبل دخول جيش الملك فيصل، وشارك في دخول دمشق عام 1918، حيث رفع العلم العربي فوق دار الحكومة بساحة المرجة، الأمر الذي نال إثره لقب "باشا" مجددا من الملك فيصل الأول تقديرا لشجاعته في صفوف الجيش العربي.
ومع ترسيم الحدود وتفكيك بلاد الشام إلى كيانات سياسية متعددة، عرضت عليه سلطات الانتداب الفرنسي تولي إدارة منطقة جبل الدروز بصفته الزعيم الأبرز للطائفة الدرزية، غير أنه رفض العرض رفضا قاطعا، متمسكا بمبادئ الوحدة العربية ورافضا مشروع التقسيم.
وقد أثر عنه قوله: "إن نصيب سوريا البائسة أضعف الحصص، إذ قطّعت إربا إربا، وحكمت حكما استعماريا محضا جعل السوريين يترحمون على زمن الأتراك، ويأسفون على ما كان منهم نحوهم"، في رسالة له نقلها حسن أمين البعيني في كتابه "سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى".
في صيف عام 1920 ومع اقتراب القوات الفرنسية القادمة من لبنان إلى دمشق لاحتلالها، أعدّ سلطان باشا الأطرش قوة كبيرة من الفرسان لمؤازرة الجيش العربي بقيادة وزير الدفاع يوسف العظمة في معركة ميسلون، وانطلق باتجاه الجنوب الدمشقي حتى وصل إلى بلدة براق، لكن الأنباء التي تلقاها هناك عن هزيمة الجيش العربي واستشهاد العظمة أوقفت تحرّكه، وعمّقت شعوره بفداحة الخسارة الوطنية.
إعلانولم يكتف الأطرش بالحزن، بل واصل رفضه الصريح للانتداب الفرنسي ومعارضته القاطعة لفكرة إقامة دولة درزية منفصلة عام 1921، معتبرا أن هذا المشروع يناقض تطلعات الوحدة والاستقلال العربي.
وفي إطار سعيه للحفاظ على حلم الدولة العربية، أوفد الأطرش أحد رفاقه -وهو حمد البربور- برسالة شفهية عاجلة إلى الملك فيصل الأول، الذي كان يستعد لمغادرة فلسطين عبر الطراد البريطاني في ميناء حيفا، وتضمنت الرسالة دعوة للملك إلى القدوم إلى جبل العرب في السويداء، ليواصل النضال من هناك ويقيم الدولة العربية المنشودة.
غير أن جواب فيصل جاء حاسما ومؤلما: "قل لسلطان، لقد فات الأوان"، في إشارة إلى أن لحظة الفعل قد ضاعت. وقد ظلّ هذا الردّ عالقا في وجدان الأطرش، ليقول بعد ذلك بأسى: "مات الفيصل"، تعبيرا عن نهاية حلم الدولة العربية الموحّدة.
في محاولة لعزل جبل العرب عن محيطه الوطني، أرسل الجنرال غورو القائد العام الفرنسي الكولونيل كاترو عام 1921 للتفاوض مع زعماء الدروز، إذ أبرمت معاهدة قضت بإنشاء وحدة إدارية خاصة للجبل مستقلة عن دولة دمشق، يعين لها حاكم ومجلس تمثيلي منتخبان، مقابل اعتراف الدروز بالانتداب الفرنسي، وعيِّن سليم الأطرش حاكما للجبل بموجب هذا الاتفاق.
بيد أن العلاقة مع الفرنسيين سرعان ما توترت، خاصة بعد اعتقال الفرنسيين أدهم خنجر أحد كبار مقاومي الجنوب اللبناني عام 1922 خلال توجهه إلى سلطان الأطرش برسالة، واتهامه بمحاولة اغتيال الجنرال غورو.
وقد حاول سلطان الأطرش التدخل لإطلاق سراحه، لكن الفرنسيين نقلوه إلى بيروت وأعدموه هناك في مايو/أيار 1923، مما أثار موجة غضب شديدة في صفوف أهالي الجبل.
وردّا على العمليات التي شنها الأطرش ضد قوات الانتداب، أقدمت فرنسا على تدمير منزله في القريا، مما دفعه إلى قيادة حرب عصابات استمرت لعام كامل قبل أن يلجأ إلى الأردن ويضطر لاحقا لتسليم نفسه للفرنسيين عام 1923 بوساطة بريطانية في إطار هدنة مؤقتة.
إعلانوحسبما يذكر محمد طربية في كتابه "تاريخ ومؤرخون"، فإن الأوضاع لم تهدأ، فبعد وفاة سليم الأطرش مسموما في دمشق عام 1924، خالف الفرنسيون اتفاقهم السابق وعيّنوا الكابتن كاربييه حاكما للجبل، ليمارس سياسة قمعية ضد الأهالي تضمنت السخرة والاعتقالات والتفرقة الاجتماعية، وتأليب الفلاحين ضد العائلات الكبرى، وعلى رأسها آل الأطرش.
وقد فجّرت هذه السياسات القمعية الغضب الشعبي، ليتحول إلى مظاهرات حاشدة في السويداء أسهمت في تسريع اندلاع الثورة السورية الكبرى.
تراكمت الانتهاكات الفرنسية بحق أهالي جبل العرب على يد الكابتن كاربييه، ما دفع الدروز إلى إرسال وفد رسمي إلى بيروت في 6 يونيو/حزيران 1925، مطالبين المفوض السامي موريس بول ساراي باستبداله بحاكم درزي.
وقد وثّق السياسي السوري عبد الرحمن الشهبندر -وهو العقل المدبر للثورة السورية الكبرى- في مذكراته سلسلة من الممارسات المهينة التي ارتكبها كاربييه ورجاله من الاعتقالات التعسفية والضرب دون محاكمة، إلى فرض الغرامات والإهانات العلنية لأعيان الجبل في السويداء، بل حتى ضرب قائمقام صلخد فهد بك الأطرش دون تحقيق.
وكان رفض ساراي استقبال الوفد، وتهديده لهم بالنفي إلى تدمر هي القشة التي قصمت ظهر العلاقة بين الأهالي والسلطة الفرنسية، ومهدت لانطلاق الثورة السورية الكبرى، فقد دعا سلطان باشا الأطرش إلى اجتماع موسع في السويداء، تزامن مع مظاهرات غاضبة اجتاحت القرى والمدن، وبدأ التنسيق الفعلي مع الزعماء السياسيين في دمشق، وفي مقدمتهم الدكتور الشهبندر.
أدرك الشهبندر أن البلاد على أعتاب انتفاضة واسعة، فتحرك لتوسيع رقعة الكفاح المسلح؛ ساعيا إلى إشعال الثورة في مختلف أقاليم سوريا لتشتيت الجهد العسكري الفرنسي، وبدأ بتكثيف اتصالاته مع وجهاء المدن، محرضا على العمل المسلح، ومشجعا على رفض الاحتلال.
إعلانومن أبرز خطواته في هذا السياق؛ التواصل مع الزعيم إبراهيم هنانو الذي كان قد بادر بمقاومة الفرنسيين منذ عام 1920 في شمال البلاد، واستمر النشاط الثوري في تلك المنطقة حتى أبريل/ نيسان 1926، حيث شكّلت معركة تل عمار في ربيع 1925 واحدة من أبرز المواجهات المسلحة وأواخر معارك الثورة في الشمال، ضمن خطة وطنية هدفت إلى تحرير سوريا وتحقيق وحدتها واستقلالها الكامل.
في إطار توسيع نطاق الثورة السورية الكبرى، نسّق الدكتور عبد الرحمن الشهبندر مع وجهاء المناطق السورية لنقل شرارتها إلى الشرق والشمال، وكما يذكر المؤرخ ستيفن لونغريغ في كتابه "تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب" فقد أعلن هؤلاء الثوار من السويداء عن حكومة وطنية سورية جامعة وذلك "من قِبل زعماء العشائر الدروز والوطنيين النازحين من المدن معا، وكان ذلك بمثابة تقارب فعّال بين دمشق والسويداء، وكانت تلك ظاهرة جديدة تاريخيا، وقد أعطت الثورة طابعها".
وردا على ذلك شنّت الطائرات الفرنسية قصفا عنيفا دمّر القرى وقتل المدنيين، ما أدى إلى محاكمة الثوار في حلب، في تلك الأثناء تواصل الشهبندر مع فوزي القاوقجي الذي أعلن الثورة في حماة، احتجاجا على سياسة الفرنسيين القمعية وتقسيم البلاد، وحقق انتصارات ميدانية في البادية، ما دفع قيادة الثورة إلى منحه صلاحيات أوسع في منطقة الغوطة.
وكما يرصد حسن أمين البعيني في كتابه السابق، ففي الجبل كشف سلطان باشا الأطرش عن مؤامرة فرنسية لنفي الزعماء المحليين إلى تدمر والحسكة، ما عجّل بإعلانه الثورة في 21 يوليو/ تموز 1925 عبر بيان تاريخي دعا فيه السوريين إلى مقاومة الاحتلال، حيث بدأت العمليات الثورية بحرق دار المفوضية في صلخد، وتمكن من الانتصار في معركة الكفر، تلتها معركة المزرعة التي كبدت القوات الفرنسية خسائر فادحة، وأجبرت باريس على إرسال حملة عسكرية ضخمة بقيادة الجنرال ميشو.
ومع تزايد زخم الثورة تواصل حزب الشعب مع سلطان الأطرش للتنسيق بشأن توسيع الانتفاضة نحو دمشق، لكن خطة الهجوم فشلت بسبب ضعف الحشد، وبدلا من ذلك توجّه الثوار إلى التصدي للحملة الفرنسية في المسيفرة، حيث ألحقوا خسائر كبيرة بالعدو قبل انسحابهم تحت نيران الطائرات.
إعلانكما ساهمت ثورة حماة بقيادة القاوقجي في تخفيف الضغط عن السويداء، ما اضطر الفرنسيين للانسحاب منها مؤقتا، وسط اتساع رقعة المواجهة الوطنية ضد الانتداب الفرنسي في مختلف مناطق سوريا.
امتدت الثورة السورية الكبرى إلى غوطة دمشق بقيادة المجاهد حسن الخراط، واندلعت معارك شرسة أبرزها "معركة الزور الأولى" في المليحة، تبعتها انتفاضة داخل العاصمة دمشق في أكتوبر/تشرين الأول 1925 حيث سيطر الثوار لأيام على أحياء الشاغور والميدان، وقد ردّت فرنسا بقصف مدفعي عنيف من القلعة، أسفر عن تدمير مئات المنازل.
كما تكررت الاشتباكات لاحقا في معارك الزور الثانية، ويلدا، والنبك، وفي الجنوب توسعت العمليات الثورية من جبل العرب إلى حاصبيا وراشيا، واحتل الثوار القلعة بعد معركة ضارية، لكنهم سرعان ما دخلوا مرحلة استنزاف بسبب نقص السلاح والمؤن.
وأمام هذا الضعف وقلة السلاح اضطر ثوار الجنوب بقيادة سلطان باشا الأطرش إلى النزوح نحو الأردن وشمال الجزيرة العربية، وقد أصدر الفرنسيون حكم إعدام بحق سلطان باشا الأطرش، الأمر الذي اضطره للبقاء في المنفى حتى عودته مع رفاقه عام 1937 بعد العفو الفرنسي الذي أعقب توقيع معاهدة 1936 التي نصت على استقلال سوريا، وخروجها من دائرة الانتداب الفرنسية، ليستقبل الأطرش لدى عودته استقبال الأبطال في دمشق.
وكما يقول محمد نذير سنان في كتابه "لماذا سوريا" ففي مرحلة ما بعد الاستقلال، وعندما سئل سلطان باشا الأطرش من قبل صحفية ألمانية عن إمكانية تلخيص بطولات الثورة، فأجاب قائلا: "لا يوجد على هذه الأرض حجر إلا وقلّبته حوافر خيلنا، ولا حفنة تراب إلا وسقيت بدمائنا"، مشيرا إلى أن لكل مجاهد عشرات القصص من البطولة والفداء.
إعلانوفي روايته للأحداث، يذكر الأطرش في مذكراته "أحداث الثورة السورية الكبرى"، أن الثوار من الجبل والغوطة تمكنوا من فك أسر عدد كبير من المدنيين من أهالي الجولان الذين كانت المليشيات الموالية للفرنسيين قد اقتادوهم إلى منطقة موحلة تعرف بـ"نقعة جمرا"، وأعاد هذا المشهد المأساوي الحماسة إلى قلوب الثوار، الذين استبسلوا في القتال.
ويصف الأطرش مشهدا مؤلما لأطفال ونساء غارقين في الوحل، وجروح ملوثة بالطين، وأمٍّ قتلت برصاص الفرنسيين بينما كان طفلها يرضع منها، فحمل أحد أقربائها الطفل وهو يصيح: "يرضع حليبا ممزوجا بالدم"، في نداء يهزّ الضمائر ويجسد معاناة المدنيين من جرائم الاحتلال وقتئذ.
لم يتوقف نضال سلطان الأطرش بانتهاء الثورة السورية الكبرى، بل استمر في الدفاع عن السيادة الوطنية خلال مراحل متعددة من تاريخ سوريا الحديث، ففي عام 1945 وقبل الجلاء الفرنسي بعام، أدى دورا حاسما في طرد القوات الفرنسية من جبل العرب، حين قاد الأمير حسن الأطرش أبناء المنطقة لمحاصرة المراكز الفرنسية وطردها، مما جعل السويداء من أولى المدن السورية المحررة.
في المقابل، ردّت فرنسا على هذا التمرد بقصف دموي استهدف دمشق والسويداء وعددا من المناطق في 29 مايو/أيار، في ما اعتبر بداية النهاية للوجود الفرنسي في سوريا.
وبعد خروج المحتل الفرنسي، كان سلطان الأطرش من أوائل من دعوا عام 1948 إلى تشكيل جيش عربي موحد لتحرير فلسطين.
وبفضل تشجيعه تطوع المئات من أبناء الجبل، وسقط منهم نحو 80 شابا في ميادين القتال في فلسطين، كما يروي في مذكراته التي صححها وقدّم لها ابنه منصور، والمنشورة عام 2008.
وخلال حكم أديب الشيشكلي، واجه الأطرش تضييقا بسبب موقفه الرافض للدكتاتورية، مما اضطره إلى مغادرة البلاد نحو الأردن مطلع عام 1954 على خلفية تصاعد الاحتجاجات الطلابية والاعتقالات التي طالت ابنه منصور الأطرش، وأدت إلى اشتباك مسلح قصف فيه الشيشكلي جبل العرب كما يذكر محمد علوان في كتابه "مشكلات الشرق الأوسط"، وبعد سقوط الشيشكلي عاد الأطرش إلى البلاد.
إعلانوبعد الانقلاب العسكري في ديسمبر/كانون الأول 1966 بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد، واعتقال عدد من الضباط والسياسيين الدروز وتصفية آخرين، على رأسهم سليم حاطوم الذي فشل في انقلابه على حافظ وجديد، وجّه سلطان باشا الأطرش برقية شديدة اللهجة إلى القيادة الجديدة، محذرا من عواقب هذه السياسة.
وقد جاء فيها: "أولادنا في السجون مضربون نحملكم مسؤولية النتائج، لقد اعتاد الجبل -ولا يزال- أن يقوم بالثورات.. نقتصر مبدئيا على التفاوض"، وذلك بحسب ما جاء في تقرير لجريدة النهار اللبنانية آنذاك.
في ما بعد كرّس الأطرش سنواته الأخيرة للعمل الاجتماعي والتنموي في جبل العرب، مبتعدا عن المناصب السياسية رغم العروض التي قدمت له بعد الاستقلال، متمسكا بدوره الرمزي بوصفه قائدا حرا، وقد نال احترام الجميع، وظل على ذلك حتى وفاته في مارس/آذار 1982.