يقول أهلنا في مصر بلهجتهم الدارجة: "كُتر الحِزن يِعَلِّم البُكا"، ولا أظن المقولة تحتاج ترجمة إلى الفصحى!
هذا هو حال المصريين اليوم.. الكل حزين.. الكل يبكي.. الكل يتكلم في جزع، وغضب، وفُحش أحيانا، حتى أولئك الذين اعتادوا "الفُرجَة"، و"أدمنوا" السكوت!
تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أعتقد جازما أنها "بفعل فاعل" والفاعلون معروفون، بات المصريون، على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية، حتى الأميون منهم، يتكلمون في الاقتصاد، ويطرحون حلولا للأزمة الاقتصادية التي تجلت في انهيار القيمة الشرائية للجنيه المصري، والارتفاع الجنوني في أسعار السلع، وانخفاض المداخيل الدولارية، والتوسع في الاقتراض، والعجز عن سداد الديون الهائلة، واستنزاف أو "تبديد" أموال المودعين في البنوك، وتوقف المصانع عن الإنتاج، وزيادة نسبة البطالة، وغياب تام للرقابة على الأسواق، الأمر الذي جعل طبقات المجتمع كافة تصرخ في هلع، وتئن في يأس، وتلعن الساعة التي رأوا فيها سِحنة الجنرال المنقلب ياسر جلال، وسمعوه يقول لهم: "إنتو مش عارفين إنكو نور عينينا وللا إيه؟".
ولا معنى لأن تكون مصر "أد الدنيا" ما دامت هي "أم الدنيا".. إلا أن طبيب الفلاسفة يجوز له قول ما لا يُستساغ من القول!
وقتذاك، هللت شريحة لا يُستهان بها من المصريين لزوال "حكم المرشد"، وإفشال مشروع "أخونة الدولة"، حتى أن إحداهن (محجبة) حمدت الله؛ "لأنه خلصها من بتوع قال الله وقال الرسول"! وأكاد أجزم أن هذه السيدة وملايين غيرها استفادوا أيما استفادة من مشاريع الإخوان المسلمين الخيرية مثل: المستشفيات والعيادات الاقتصادية، ومعامل التحاليل شبه المجانية.. الصيدليات التي تصرف الدواء (مجانا) لمعدومي الدخل.. معارِض العودة إلى المدارس بأسعار زهيدة.. معارض السلع المعمرة بأقساط مريحة.. توفير اللحوم في الأعياد بأسعار في متناول الفقراء، وغير ذلك من الخدمات التي كان يقدمها الإخوان للطبقتين الفقيرة والمتوسطة..
أحسب أن حسني مبارك كان يعي تماما أهمية الدور الذي يلعبه الإخوان، في التخفيف من أعباء الحكومة، فوضع سقفا لعداوتهم واضطهادهم، فلم يفجُر في الخصومة معهم، رغم بغضه لكل ما هو إسلامي!
وأحسب أن حسني مبارك كان يعي تماما أهمية الدور الذي يلعبه الإخوان، في التخفيف من أعباء الحكومة، فوضع سقفا لعداوتهم واضطهادهم، فلم يفجُر في الخصومة معهم، رغم بغضه لكل ما هو إسلامي!
صور من حلول المصريين للأزمة الاقتصادية
الحلول التي يطرحها المصريون لأزمتهم الاقتصادية المزلزلة متباينة كتباينهم فكريا، واجتماعيا، وثقافيا، ودينيا أيضا..
فمنهم من بات يتمنى الموت لينقطع عن هذا العالم الظالم أهله، فيكُف عن التفكير في كيفية توفير الضرورات التي لم يعد دخله يكفي لتأمين رُبعها.. يأس فوقه يأس، تحته يأس، ولا حل يلوح في الأفق!
ومنهم من يفكر في الانتحار منفردا، أو مع أولاده، وقد حدث؛ للخلاص من هذا الغم الذي لا يعرف متى يزول ولا كيف.. قمة الضعف، وقلة الحيلة، وفقدان الأمل!
ومنهم من يتمنى الاعتقال؛ للحصول على "اللقمة" التي يسد بها رمَقه، حتى لو كانت حريته هي المقابل.. عدمية وإحباط!
ومنهم من يجأر بالشكوى لـ"الرئيس" الذي "انتخبه" ثلاث مرات، اعتقادا منه أنه المنقذ والمخلِّص، ولا يزال يراه جديرا بـ"الرئاسة"، فيرجوه ويستعطفه أن يجد حلا لمشكلته التي تتفاقم كل ساعة.. خيبة ما بعدها خيبة، وعمَى ما بعده عمَى!
ومنهم من يمسك براتبه الشهري الذي يساوي خمسين دولارا، ويطلب (في ذل ومسكنة) إلى "رئيسه" الذي يحبه ويقسم على ذلك أن يضع نفسه مكانه، ويريه كيف سيعيش هو وأسرته 30 يوما بخمسين دولارا.. يا مستني السمنة من بطن النملة!
ومنهم من يقدم على طلاق زوجته؛ ظنا منه أن الطلاق سيعفيه من أعباء أسرته، فيكتشف أن هذا ليس حلا، بل هو إجراء أحمق، ضاعف مشكلته، وفاقم أزمته.. إنه فقدان القدرة على التفكير، والهروب من المسؤولية من أي طريق، حتى لو كان مسدودا!
ومنهم من يلعن ياسر جلال "ع السبحة" كما يقولون، في غير خوف ولا وجل.. إذ لم يعد لديه ما يخاف عليه، فهو في نظر زوجته وأبنائه "وجوده زي عدمه".. لا فائدة تُرجى منه ما دام عاجزا عن توفير لقمة العيش لهم.. ليست شجاعة.. إنه نوع من اليأس فاق معنى اليأس!
ومنهم من تظهر على وجهه بقايا آثار النعمة التي زالت، بسبب التضخم الذي ابتلع راتبه، فإذا هو عاجز عن توفير "أساسيات" الحياة، أو فقد وظيفته؛ بسبب إغلاق الشركة التي يعمل بها، أو توقف نشاطه التجاري؛ لعجزه عن توفير الدولار لاستيراد مستلزمات الإنتاج..
هؤلاء يتكلمون (في أسى وغيظ وتوبيخ وتهكم) عن المشاريع الفنكوش، وتدني كفاءة الحكومة، وعدم اكتراثها بمشاكل المواطن، وفشلها في ترتيب الأولويات.. إلخ..
عقلانية وانضباط في الطرح لا أظنهما سيستمران طويلا إذا طالت الأزمة، ساعتها سيفكر هذا النموذج "العاقل" كما يفكر النماذج الثلاثة الأولى.. تمني الموت، أو دخول السجن، أو الإقدام على الانتحار، إلا أن يكون مؤمنا قوي الإيمان، فيرى فيما يمر به ابتلاءً سيزول يوما بحول الله، وما عليه سوى الصبر والتسليم بقضاء الله وقدره..
ومنهم خبراء اقتصاد ناصحون مخلصون (في مصر وخارجها) يقدمون حلولا اقتصادية علمية باتت من البديهيات، يستحيل تحقيقها للأسف الشديد؛ لأن البيئة المصرية قد ضرب في أطنابها الظلم، والفساد، والخيانة.. ذلك الثالوث الدنس الذي ينخر وينهش في لحم مصر، وعظامها، وأحشائها.. فأنَّى لبذور الإصلاح أن تنمو في بيئة كهذه البيئة؟.. نفخٌ في "قربة مخرومة"!
إن من البلاهة والعَتَه أن يؤمل أحدٌ خيرا، أو ينتظر إصلاحا لهذا الحال، ما بقي هذه الثالوث الشيطاني يحكم ويتحكم، بغض النظر عمن يدير هذه المنظومة الظالمة الفاسدة، الغارقة في وحل الخيانة، بكل أجنحتها!
أزمة مصر بدأت أمس وتفاقمت اليوم!
لا أعرف دولة تقدمت وازدهرت، ووفرت احتياجات مواطنيها، وحققت لهم الرفاه والأمن، وصانت كرامتهم وإنسانيتهم، إلا وقد توفرت لدى إدارتها السياسية الإرادة والعزم على تحقيق ذلك، وهذا أمر لم تعرفه مصر منذ انقلاب يوليو 1952.. ويوم جاء رئيس منتخب (لأول مرة) ووضع نصب عينيه إنجاز كل ذلك وتحقيقه، متسلحا بالنزاهة والزهد والتفاني، تم الانقلاب عليه
لا أعرف دولة تقدمت وازدهرت، ووفرت احتياجات مواطنيها، وحققت لهم الرفاه والأمن، وصانت كرامتهم وإنسانيتهم، إلا وقد توفرت لدى إدارتها السياسية الإرادة والعزم على تحقيق ذلك، وهذا أمر لم تعرفه مصر منذ انقلاب يوليو 1952.. ويوم جاء رئيس منتخب (لأول مرة) ووضع نصب عينيه إنجاز كل ذلك وتحقيقه، متسلحا بالنزاهة والزهد والتفاني، تم الانقلاب عليه؛ حتى يبقى الشعب المصري في حالة "موت سريري"، بين الحياة والموت، لصالح الكيان الصهيوني أولا، ولصالح دول الخليج التي دعمت الانقلاب على الرئيس المنتخب ثانيا؛ بهدف "الاستيلاء" على مكانة مصر ودورها في الإقليم!
لننظر إلى الدول التي خرجت مهدَّمة من الحرب العالمية الثانية، في وقت كان الجنيه المصري أقوى من الدولار.. أين أصبحت هذه الدول وأين أصبحت مصر؟
لقد توفرت إرادة النهوض والتقدم والازدهار لدى الإدارة السياسية في تلك البلاد، بينما كان حكام مصر الجُدد (انقلابيو يوليو 1952) مشغولون بالاستحواذ على السلطة، واستعباد الشعب، ونهب مصر..
إن ما تعانيه مصر اليوم من تدهور وتحلل وعجز هو النتيجة الحتمية الذي استغرق ظهورها واستفحالها اثنين وسبعين سنة من العبث والنهب والفساد والخيانة، مع التسليم بأن ما شهدته مصر (من كل ذلك) خلال السنوات العشر الأخيرة، يساوي ما تم ارتكابه في عهد عبد الناصر والسادات ومبارك مجتمعين!
نموذج لتوفر الإرادة
مرت تركيا (تحت حكم العسكر برضه) بظروف اقتصادية أسوأ مليون مرة من التي تمر بها مصر حاليا، ومليون مرة ليست من باب المبالغة، ولكنها من باب التأكيد على كونها حقيقة!
ففي عام 1999، أي قبل 25 سنة فقط، أصدرت تركيا ورقة نقدية بقيمة 10,000,000 (عشرة ملايين ليرة)!
كانت قيمة العشرة ملايين ليرة الشرائية تساوي "عشر ليرات" فقط (10 ليرات) أي "ثلث دولار" بسعر اليوم (0,33 دولار) أي أن الليرة كانت تساوي "عُشر الثلث" من الدولار، يعني (0,033).. يعني ولا حاجة!
ثم جاءت حكومة العدالة والتنمية برئاسة أردوغان في عام 2002، فأعادت ترتيب الأولويات، وأغلقت صنابير الفساد، وأحدثت طفرة اقتصادية، كان أساسها الإنتاج، والتصنيع، والاكتفاء الذاتي، والتصدير، فاستطاعت في عام 2004 حذف "ستة أصفار" من عملتها، أي بعد سنتين فقط من انتخابها. وأصبحت تركيا (اليوم) في مصاف الدول الكبرى، وبين "العشرين الكبار" رغم ما تعرضت له عملتها المحلية من حراب شعواء (على مدى سنوات) بغية إضعافها.. ولكن وجود إدارة وطنية مخلصة لبلادها وشعبها، لديها إرادة للنهوض، والازدهار، وتوفير حياة كريمة لمواطنيها، حالت دون تفاقم الأزمة الاقتصادية في تركيا، رغم انخفاض الليرة أمام الدولار..
فالسلع كافة متوفرة، والإنتاج يكفي الاستهلاك المحلي ويفيض منه للتصدير، والحد الأدنى للأجور يرتفع باضطراد، بالتشاور مع النقابات العمالية والمهنية، بالقدر الذي يعين المواطن التركي البسيط على توفير حاجاته الأساسية، بجودة عالية..
الحل الجذري للمشكلة
إذن علاج المشكلة المصرية (التي لم تتفاقم بعد) معروف ومدروس ومُجرَّب ولا يحتاج (في تقديري) إلا إلى:
(1) قيادة سياسية راشدة كفؤة، زاهدة في السلطة والمال، لا تحركها سوى المصلحة الوطنية، تضع خطة شاملة لإنقاذ مصر، الأمر الذي يعني (بالضرورة) إزالة هذا النظام بالكلية لاستحالة إصلاحه.
(2) حكومة كفاءات وطنية ترعى مصالح الشعب بحق، ولا تعطي لنفسها أي امتيازات غير التي من شأنها أن تسهل أعمالها..
(3) وقف نزيف أصول البلاد التي تؤول (بالبيع) إلى الأجانب (عن عمد) بهدف الاستحواذ على القرار الوطني، وليس بهدف الاستثمار.
العمل بصبر وأناة على إصلاح ما أفسده العسكر طوال اثنين وسبعين عاما، كانت العشر الأخيرة منها هي الأسوأ على الإطلاق، فحجم الدمار الذي لحق بمصر على يد الجنرال المنقلب ياسر جلال لم يُحدثه عبد الناصر والسادات ومبارك مجتمعين
(4) وضع "خريطة اقتصادية" لمصر، كأساس لخطة طموحة تهدف إلى الاستفادة القصوى من موارد مصر الظاهرة والباطنة..
(5) غلق صنابير الفساد، وردم قنوات "التسرب المالي" الذي يشكل رقما ضخما في ميزانية الدولة.
(6) ضم ميزانيات الصناديق الخاصة والسيادية واقتصاد الجيش إلى ميزانية الدولة، ومن المعروف أن ميزانيات هذه "البلاعات" مجتمعة تفوق ميزانية الدولة.
(7) استعادة الأموال المنهوبة المكدسة في البنوك الأجنبية.
(8) بتنفيذ البنود (5) و(6) و(7) سيتوفر لدى الحكومة السيولة الكافية؛ لسداد الديون كافة، وإنشاء مشاريع إنتاجية، وإعادة تشغيل المشاريع التي توقفت، بما يكفي الاستهلاك المحلي، ويفيض للتصدير.
(9) خروج المؤسستين العسكرية والأمنية (بكل فروعهما وأجنحتهما) من السياسة والاقتصاد.
(10) إعادة صياغة علاقات مصر الخارجية بما يحقق مصالح الشعب المصري.
(11) العمل بصبر وأناة على إصلاح ما أفسده العسكر طوال اثنين وسبعين عاما، كانت العشر الأخيرة منها هي الأسوأ على الإطلاق، فحجم الدمار الذي لحق بمصر على يد الجنرال المنقلب ياسر جلال لم يُحدثه عبد الناصر والسادات ومبارك مجتمعين!
(12) قبل كل ذلك وبعده، إطلاق سراح معتقلي الرأي، وتعويضهم ماديا وأدبيا، ورد الاعتبار إليهم، ومحاكمة المفسدين، والقصاص من القتلة، وتعويض ضحايا الانقلاب، وفتح المجال العام.
اللهم هيء لمصر من أمرها رَشَدا، وولي عليها من ينهض بها ويصونها، ويحنو على أهلها بحق.
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مصر الاقتصادية مصر اقتصاد السيسي أزمات معيشة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة یاسر جلال ومنهم من کل ذلک
إقرأ أيضاً:
صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان
في 25 فبراير/شباط 2024، وبعد أشهر قليلة على بدء العمليات الوحشية لجيش الاحتلال في قطاع غزة، الجندي القوات الجوية الأميركية آرون بوشنِل (25 عاما) أمام سفارة إسرائيل في واشنطن بالولايات المتحدة، وأشعل النار في نفسه، احتجاجا على تواطؤ بلاده وجيشه الصريح مع الإبادة الجارية في غزة، وصرخ "فلسطين حرة" حتى فارق الحياة.
لم يكن بوشنِل الوحيدَ الذي لم يحتمل وطأة الإبادة في غزة، رغم أنها تبعد عنه آلاف الأميال.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الرئيس الذي دعا لتحرير فلسطين عبر جيش دوليlist 2 of 2لماذا يريد بلير "الأبيض" حكم غزة؟end of listففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد قرار تسليح إسرائيل المفتوح من قبل إدارة بايدن، قال المسؤول الأميركي جوش بول، المدير السابق للشؤون العامة والتشريعية بهيئة الشأن العسكري-السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، في خطاب على "لينكد إن": "لقد تنازلت عن معاييري الأخلاقية في هذا المنصب مرات لا حصر لها.. وعاهدت نفسي دوما أن أبقى طالما أن الضرر أقل من الفائدة التي أحققها.. لكنني أرحل اليوم لأنني أعتقد أن مسارنا الحالي.. جعلني أصل إلى نهاية تلك المعادلة".
في يوليو/تموز 2024، لحق به المسؤول بوزارة الخارجية الأميركية، مايكل كيسي.. "لقد سئمت الكتابة عن القتلى من الأطفال.. وأن أبذل جهدا باستمرار كي أثبت لواشنطن أن هؤلاء الأطفال ماتوا بالفعل.. كلما ازداد علمك بتلك القضية، واجهتك حقيقة لا مفر منها وهي أن الوضع سيئ للغاية".. هكذا صرّح كيسي في حوار مع صحيفة الغارديان البريطانية.
على حد وصفه، بدأ بعض زملائه يمزح حول عدم جدوى التقارير في التأثير على صناع القرار في واشنطن، الذين فضّلوا دوما الانحياز إلى السردية الإسرائيلية، قائلا إنه لا أحد في الإدارة يقرأ تقاريره ولو وضع فيها نقودا هدية.
منذ بدء طوفان الأقصى قبل عامين، تباينت ردود الأفعال في أنحاء العالم بين التضامن والصمت والتضييق، وظهر بون شاسع بين التعاطف مع الفلسطينيين في الشارع وبين الرغبة في التضييق على الحقائق وعلى أي محاولة للتضامن من جهة الحكومات الغربية، مما دفع بعض المسؤولين -مثل كيسي وبول- إلى تغليب بوصلتهم الأخلاقية على منصبهم الرسمي.
إعلانوقد جرى الحديث لفترة في الأسابيع الأولى حول "تناسُب" رد الاحتلال على العملية الفلسطينية، لكن مع استمرار الحرب على غزة اتسعت دائرة المتابعين والمهتمين حول العالم، وتغيّرت القناعات واتجاهات الرأي العام لما شكّله الحدث من اختبار حقيقي للأخلاقيات والقيم والمواقف السياسية التي يعتنقها الكثيرون في المجتمعات الغربية، بالإضافة للاختبار الحقيقي الذي مثّلته هذه الحرب للقوانين الدولية التي تدّعي الحكومات التمسك بها.
بعد مرور شهور، وتأمُّل التأثير الواسع للطوفان، يمكن القول إن صدمة عميقة أصابت الشعوب حول العالم إزاء ما يحدث في غزة من إبادة يومية. فمنذ بداية الطوفان، بدأ كثيرون يكتشفون أن رد الفعل الإنساني الطبيعي تجاه ما يحدث للفلسطينيين -وهو التعاطف والتضامن معهم- غير مقبول أو مسموح به من قبل كثير من الحكومات حول العالم.
وتعزَّز ذلك الشعور حين توالت فصول الحرب على غزة، وازدادت بشاعتها بحيث لم يَعُد يمكن الدفاع عنها أو التبرير لها بوصفها "ردا" على عملية 7 أكتوبر. وفي خضم هذا الواقع، أدركت الكثير من الشعوب أننا في نظام دولي يسمح بارتكاب إبادة جماعية على الهواء، ولا يسمح حتى بالتضامن مع المظلومين.
قبل أن ينقضي شهر واحد على طوفان الأقصى، وأمام قتل الاحتلال آلاف الأشخاص في غزة، بدأت المظاهرات تَعُم العواصم الأوروبية والعالمية، في اليابان والنرويج وهولندا وبريطانيا وألمانيا ودول أخرى عديدة، حيث خرج مؤيدو القضية الفلسطينية مطالبين بوقف إطلاق النار في غزة، لكنها لم تمض بسلام. ففي دول كثيرة رفعت الشرطة استعدادها واعتقلت عددا من النشطاء، وتعرّض المتضامنون مع القضية الفلسطينية لمشكلات قانونية.
بدا إذن أن الحكومات الغربية اتحدت في الانحياز السياسي إلى الاحتلال، فقيّدت عدة دول الاحتجاج من أجل فلسطين، واستهدفت الأعلام الفلسطينية. وفي الولايات المتحدة تعرّض كثير من المتضامنين للطرد من وظائفهم وإلغاء عقودهم.
ومع اتساع دائرة الحرب، ودائرة المعرفة بها أيضا وبالقضية الفلسطينية في شتى أنحاء العالم، توالت صور الإبادة والتهجير القسري والمجاعة، وطاردت المشاهدين حول العالم بشكل لا يمكن تجنبه.
بعد عامين من طوفان الأقصى، وبعدما جرت المذابح بالبث الحي والمباشر ودُمِّرت البنية التحتية وانهار النظام الصحي وتلوثت المياه وقُصِفت المساعدات الإنسانية والساعون إليها، ومع مشاهد التهجير وإجبار العائلات على النزوح عدة مرات داخل الأرض المحاصرة بالجوع والجفاف، فإن أكثر ما اتضح للمتابعين حول العالم لم يكُن تجاوز الحد فيما يتعلق بارتكاب الجرائم الإنسانية، وإنما تجاوز الحد في الإفلات من العقاب.
تشير المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إيتشاسو دومينغيث، إلى أنه بعد شهور من النقاش حول مدى تناسب القصف مع الطوفان، يبدو أن المجتمع الدولي اليوم أصبح مستعدا للاعتراف بالانهيار.
إعلانولكن دومينغيث تلتقط أيضا ذلك التحوّل الخطابي الذي جرى في هذه الحرب، والذي يميل إلى إدانة الكارثة الإنسانية في غزة دون النظر إلى الجانب السياسي والعسكري منها، فيُكرِّم الضحايا دون تسمية المسؤولين عن الجريمة، وقد أشارت إلى تداول عدد من وسائل الإعلام لصورة طفل جائع مثلا مع تجاهل صورة الجندي الذي يمنع قافلة المساعدات، أو صورة الساسة الذين اتخذوا قرارات الحرب، وهو استبعاد ليس بريئا على حد وصفها، وينطوي على منطق يُتيح للإبادة أن تتكرّر وللمجرم أن يُفلت من جرمه.
على الهواء مباشرةهذا التدفق المستمر للأخبار والصور التي توثق المذابح، يواجه شعوبَ العالم بصور صادمة للإبادة الجماعية في غزة. ففي ورقة بحثية نشرتها مجلة "إنترناشيونال جورنال أوف مانجمنت" عام 2024، يستكشف الدكتور محمد بوحجي الأضرار والجروح النفسية والعاطفية للمتابعين لمسار الحرب والمعاناة الإنسانية في غزة، ويشير إلى أن متابعة مشاهد الحرب عمّقت الشعور بالعجز والخيانة والذنب والعار، وسبّبت جروحا نفسية في المجتمعات أمام إدراك المتابعين لحجم المعاناة وحجم التواطؤ الذي أدى إلى حدوثها.
وقد عاش البعض أعراض ما بعد الصدمة (PTSD) بسبب التعرض المتكرر والمستمر لهذه الأحداث، وتجلَّت أعراضها في تقلُّب المزاج والقلق والاكتئاب واضطرابات النوم. هذا بخلاف تراكم طبقات من مشاعر الغضب والأسى لدى من يشاهدون الإبادة، مما يجعل أي سلوك طبيعي يعتاد المرء على القيام به في يومه بمثابة "خيانة" لدماء الشهداء ولمعاناة أهل غزة.
في العصر الرقمي حيث تُنتج المواد البصرية بسهولة، وتتعدّد مصادر الصور من الصحفيين ووسائل الإعلام التقليدية ومن السكان المدنيين في قلب الصراع، ومع التعرّض المتكرر لكل ذلك؛ يمكن أن يحدث ما يُعرف بإرهاق التعاطف (Compassion Fatigue) الذي ينشأ عن مشاهدة مكثفة للألم، فيتحوّل إلى نوع من الخدر العاطفي، ومن ثمّ تنخفض الاستجابة العاطفية مع كل مأساة جديدة نتعرض لها.
ومع ذلك، فإن ما يبدو تبلُّدا عاطفيا ليس شعورا نهائيا، بل محطة قد نمُر بها في الصراعات الطويلة. فما يحدث هو أن صورا أخرى سرعان ما تخترق هذا الحاجز العاطفي، فيتجدد التأثير ويتحرّك الشعور بالغضب، لذا فالحرب لا تتوقف عن إيلامنا ولا تُفقدنا إنسانيتنا كما يبدو لأول وهلة.
لذلك، يمكننا اليوم أن نضيف إلى تعداد ضحايا الحرب على غزة؛ آخرين لم يكونوا في القطاع من شعوب العالم التي تابعت العدوان والإبادة، وتعرّضت لما يُعرف باسم "الجرح الأخلاقي". ويشير هذا المصطلح إلى الصدمة النفسية التي يتعرض لها الجنود بسبب عدم قدرتهم على التوفيق بين قيمهم الأخلاقية وما يرتكبونه من أفعال غير أخلاقية مثل التعذيب أو القتل، والذي يظهر في معدلات مرتفعة من الاكتئاب والانتحار لدى المحاربين القدامى.
لكن الجرح الأخلاقي اليوم يُمكن أن يكون أثرا مُحتملا لمشاهدة الفظائع التي يرتكبها آخرون دون الانخراط في القتال، فهو استجابة إنسانية عميقة للأحداث التي تنتهك الأخلاقيات الراسخة، وتُسبّب جُرحا في الروح والضمير، سواء لدى من ارتكب تلك الأفعال أو حتى لدى من شهدها ولم يمتلك القدرة على وقفها.
وبخلاف اضطراب ما بعد الصدمة الذي يقوم على الشعور بالخوف، فإن الجرح الأخلاقي ينشأ من مشاعر الذنب والعار والغضب، ومن أزمة عميقة في المعنى. إنها أزمة يواجهها اليوم متابعو الحرب، وتتسع دائرة المصابين بهذا الشعور حول العالم بسبب قناعاتهم بأنهم لم يفعلوا ما يكفي لوقف الإبادة في غزة. كما ينطوي هذا الجرح الأخلاقي على شعور بالخيانة من سلطات كان يُفترَض أن تكون جديرة بالثقة أو على الأقل أن تفعل شيئا لوقف هذه الحرب، ويمكن لهذا الجرح أن يصيب الأطباء والممرضين والصحفيين وغيرهم حين يشعرون بالعجز عن احتمال معاناة البشر.
إعلانتُرسّخ مشاهد وصور الإبادة، وحقيقة استمرار الحرب، الاعتقاد بأن العالم مكان بشع ومخيف وغير إنساني، وأن الشر يُمكن أن يتغلّب في النهاية، مما يرسخ شعور الشعوب بأنها "مشلولة" وغير قادرة على الفعل الجماعي لمواجهة ما هو إجرامي وغير إنساني.
كما يزداد هذا الجرج الأخلاقي لدى مواطني بعض الدول التي تقدم مساعدات عسكرية للاحتلال بسبب شعورهم بأنهم متواطئون كدافعي ضرائب، وكذلك بسبب فشل المؤسسات الدولية في وقف شلال الدماء، ما يتسبب في الشعور بانهيار الثقة بالنظام الأخلاقي العالمي.
إن الشعور بأن ظلما جسيما يقع بلا عواقب يولّد إحباطا عميقا، فهو خرق لما تعهّدت الإنسانية بعدم تكراره عقب الحرب العالمية الثانية، وتعود خصوصية التأثير العالمي في حرب غزة بسبب كونها أول إبادة جماعية تُبَث فصولها على الهواء مباشرة، بحيث لا يمكن لمشاهدي الأخبار ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تجنبها أو تجاهل وجودها.
"القيد في أيدينا"يمكن القول إن الادعاءات الأخلاقية الأوروبية فقدت مصداقيتها مبكرا بعد حروب العراق وأفغانستان و"الحرب على الإرهاب".
واليوم بينما يمارس الاحتلال الإسرائيلي معدلات غير مسبوقة من العنف، تتابع شعوب العالم الحر وخاصة شعوب دول الجنوب العالمي وفي ذاكرتها العبارة الشهيرة التي قالها نيلسون مانديلا: "إن حريتنا لا تكتمل دون حرية الفلسطينيين"، والتي لا تعتبر تضامنا فقط، بل عبارة تحليلية تشير إلى أن الإمبريالية ستستمر في تقييد شعوب دول الجنوب طالما أن بإمكانها حرمان الفلسطينيين من حقوقهم على هذا النحو.
ولكن الأمر يمتد إلى الشمال ذاته أيضا، كما أشار السياسي البريطاني جيمس شنايدر في مقال له، فالسعي كي يتحقّق التحرر الوطني للشعب الفلسطيني بقدر ما يُحارب الإمبريالية في الخارج، فإنه يُرسِّخ أيضا الاستقلال والديمقراطية في الداخل بالنسبة للدول المتقدمة التي انتفضت شعوبها للدفاع عن غزة، ولهذا السبب يؤكد شنايدر "لسنا أحرارا حقا حتى تصبح فلسطين حرة".
في ورقة نشرتها مجلة "بابليك أنثروبولوجيست" في مايو/أيار الماضي بعنوان "فلسطين منهجا"، أوضحت الكاتبة آنا إيفاسيوك كيف تابع العالم بذهول العنف الإبادي الذي شنَّه الكيان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وسجَّلت بداية ملاحظاتها بالقول إنه لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه لا يعلم عن الإبادة الجارية، في وقت يُدرِك فيه المتابعون أن ما يحدث على الأرض يفوق ما تنقله الصور والأخبار. وأضافت إيفاسيوك أن هذا الصمت واللامبالاة ما كانا ليحدثا لو تعرض له آخرون، لا سيما من ذوي البشرة البيضاء.
وأشارت آنا إيفاسيوك إلى التناقض الذي كشفته نقاشات داخل المجتمع الأنثروبولوجي الأوروبي بعد نشر بيان الجمعية الأوروبية للأنثروبولوجيين الاجتماعيين (EASA) لإدانة العنف ضد غزة، وكيف رأى كثير من الأنثروبولوجيين أن هناك سردية واحدة في التعامل مع قضية أوكرانيا، في حين تعدّدت السرديات في حالة فلسطين، وأمكن للبعض الوقوف "على الحياد".
وتتساءل آنا في مقالها: "ما هو الحياد في مواجهة الإبادة الجماعية إن لم يكن تواطؤًا؟ وما هو تعريف إسكات من يتحدثون ضد الإبادة إن لم يكن دعم الإمبريالية؟". وختمت آنا مقالها قائلة إن ما يشهده العالم في غزة اليوم يدفعنا إلى نقطة اللاعودة، ونحو فهم ما تتعرض له شعوب العالم يوميا، والعنصرية والاعتراف الانتقائي في التضامن مع ضحايا الصراعات.
ويقول الكاتب الإسباني خافيير خورادو إن مشاهد عشرات الآلاف من الشهداء وبينهم أطفال، وما حدث من تدمير للبنى التحتية، تثير أعمق التساؤلات غير المحسومة في الخيال السياسي الغربي: كيف يمكن الاستمرار في دعم الكيان المحتل وتبني كونه ضحية تاريخية؟ لقد كانت الشهور الماضية للحرب على غزة كاشفة للحقائق بشأن عنف الاحتلال، وكسرت أمام المتابع الأوروبي رواية ظلت لعقود تُبرّر صمت الغرب إزاء الانتهاكات وتؤسس للاستثناء الإسرائيلي.
تشرح رابيا يافوز المتخصصة في علم النفس الاجتماعي في مقال لها، كيف أن هذا الشعور بالحزن يعني أننا ما زلنا بشرا، وكيف أن القضية لا تتعلق بغزة وحدها، وإنما بكيفية استجابة العالم لكل هذا الألم. فحين تتفوّق المصلحة السياسية على مبادئ العدالة، ويتعرّض المؤيدون والمتضامنون للقمع، فهذا يشير إلى فوضى عالمية أعمق، بما تُسبّبه من جرح في الوعي المجتمعي العالمي.
إعلانأما حين يصبح الصمت الخيار الأكثر أمانا فإننا أمام عنف نفسي يُهدّد مجتمعاتنا، ويكشف عن وجه مخيف لعالم اليوم، فهذه "الفظائع" تخلف فراغا أخلاقيا لا يُحتمل، يهدد إحساسنا بتحقق العدالة وبإنسانيتنا نفسها، وتتساءل في النهاية: ما ثمن كبح المشاعر أمام المجازر؟
في مقال له حول أنجع العلاجات للجرح الأخلاقي، أوضح أستاذ علم الاجتماع بجامعة ولاية كارولينا الشمالية، مايكل شوالبي، أن أفضل استجابة لما يجري من حولنا هي التكاتف مع الآخرين كي نحافظ على إيماننا بأنفسنا وبإمكانية أن يكون العالم أفضل وأن يُعرض المجرمون يوما ما للعدالة.
ووفقا لشوالبي، فإن موجات الاحتجاج والمسيرات والبيانات المُندّدة التي تؤيد الحقوق الفلسطينية وتسعى لوقف الحرب ضرورية أيضا، لا لوقف الحرب فحسب، وإنما لإنقاذ هؤلاء الذين يشعرون بالجرح الأخلاقي من الإصابة بالعجز الدائم.
لقد تحوّلت غزة -وهي على أعتاب السنة الثالثة للحرب- إلى مرآة تكشف حقائق مخيفة عن نفاق المجتمع الدولي، والرقابة على ما يمكن قوله حول فلسطين، والضغط الذي يُمارس لإسكات الفلسطينيين أو المتخصصين في إنتاج المعرفة بهذا الشأن، وهو ما يزيد أهميتها كمنهج لكشف زيف العالم "كما يُروى لنا".
اليوم لا يزال العديد من النشطاء والمتضامنين مع غزة حول العالم يواجهون عُنفا يطالبهم بالصمت حتى لا يطالهم العقاب، بينما تُهدِّد الحرب إنسانيتنا ويختار البعض التضامن مع دفع أثمانه، في حين يبقى البعض الآخر رهن الشعور بالعجز ومواجهة الصدمات النفسية التي يُسبّبها إدراكنا أن ثمن هذا التجاهل هو ألا يبقى أحد في أمان.