عيون الغرقى لحسين جلعاد.. ألم العبور في الزمان والمكان والوعي
تاريخ النشر: 26th, July 2023 GMT
وقّع الشاعر والصحفي الأردني حسين جلعاد أمس الاثنين مجموعته القصصية "عيون الغرقى" في المكتبة الوطنية بالعاصمة الأردنية عمّان، وربما ليست مصادفة أن يتضمن عنوان النص الأول "أسرار معلنة.. رجع أيلول"، مما يعني صدى الشهر التاسع سبتمبر/أيلول، بما يشير إلى تلك المرحلة الانتقالية بين الصيف والخريف، وفي معناه الأبعد ذلك التحول في الزمان والمكان والوعي.
هذه التحولات ليست سهلة، بل تعكس تخبط الشخصيات الحاضرة في المجموعة التي تروي القسوة في اكتشاف الواقع والتكيف معه أو مقاومته، وكذلك الألم في استيعاب ما يحدث من انتقالات وتبدلات.
وترسم القصص الأولى حكايات أطفال ومراهقين وشباب في مقتبل العمر، وهم يعيشون في المدينة التي تقترب في كثير من أوصافها من إربد، كما تتسم هذه الشخصيات برومانسيتها وجموحها وحماستها وتمردها.
يقول حسين في المجموعة "وكنت غافلا حينها عما يدور حولك وفوقك، كانت السماء عابسة، والإخوة في الغابات يقتتلون، وكان يمكن أيضا أن يصلك شواظ فتغادر العالم مبكرا، لكنك كنت غافلا عن كل ذلك تلهو بالأرض وتلتهم الأتربة والحصى الناعمة، من قال إذن إن الطفل لا يتذكر؟ وهو الذي يعي العالم منذ القبلة الأولى لرجل وامرأة يولمان لولد سيأتي ليحمل اسم السلالة ويقود القطيع".
قصص مرتبة موسيقيايتواصل السرد في هذا النص حول ذلك الطفل الذي يلهو ويطيّر طائرته الشراعية ويلتقط نداءات الحب الأولى ويعبث بالأشياء من حوله ببراءة، لكن الكاتب يكثف بعد ذلك التحول بالحديث عن انتقاله المبكر نحو الرجولة وأن العالم ليس هو الذي حفظه ذلك الطفل في الأناشيد الصباحية، ثمة مشهد أول حول ذلك العبور بما يكثفه من مشاعر الفقد والخسارات وصدمة مردها ذلك الزيف والبؤس لدى الكبار.
وفي قصة "الإسفلت والمطر" سيحدث ذاك العبور على نحو مختلف قليلا لكن يكرس الصورة الأساسية نفسها، حيث تعرّف الولد الصغير -الذي يعمل بائعا متجولا- حين تسلق سور الجامعة ورأى بعض الطلبة يغنون ويهتفون بمناسبة يوم الأرض، الكلمات التي سمعها لأول مرة "الأرض" و"الدم" و"الشهداء" أشعرته بالقشعريرة والخوف اللذين سيلازمانه وهو يهرب باتجاه بوابة الجامعة، فيما المظاهرات وراءه تصدح بالهتافات.
ويرى أستاذ الأدب والنقد العربي محمد عبيد الله أن المؤلف نظم فهرست القصص بمحاكاة أبجدية السلّم الموسيقي، ليوحي للقارئ بترابط القصص وبما بينها من صلات مهما بدا أنها مختلفة في ظاهرها، إلى جانب ما يوحي به السلّم من تصاعد وتنويع، ومن علاقة الكتابة بالموسيقى وبالشعر.
وأضاف عبيد الله أن "كل قصة هي درجة أو مرحلة من مراحل ذلك السلّم، أي أن هذا الاختيار يوجهنا لنقرأ القصص في هيئة سلّم سردي تقوم كل مفردة فيه بدور من الأدوار وتملأ فراغا زمنيا محددا، ومن جهة أخرى تعد هذه البادرة محاولة لخلق مناخ موحد يتجاوز القصص المتجاورة أو المتجمعة إلى صورة سردية أكثر وحدة وترابطا".
ويشير عبيد الله إلى أن مناخات القصص وأجواءها تعيدنا من خلال ذاكرة شخصياتها إلى أجواء تسعينيات القرن الماضي، النصف الأول من التسعينيات بوجه خاص، فكل ما فيها يعيدنا إلى ذلك المناخ المفخخ بالاحتمالات والتحولات، نهاية حقبة وبدء أخرى، ثمة خيوط سيرية (من السيرة الذاتية) تبرز فيها الأبعاد الذاتية والغنائية لهذه القصص، ولكنها نتف وخيوط متقطعة لا تتكامل ولا تتآزر لتكوين سيرة مكتملة أو وافية، وتستفيد من تقنيات القصة التي تميل إلى الاجتزاء وإلى الكثافة شأنها في هذا شأن السيرة الشعرية المتقطعة، إنها سيرة لأنها تحيل إلى الذات، ولكنها تنتقي ما يعنيها من تفاصيل وأحداث هامشية وخاصة، لكنها مؤثرة من منظور الشخصيات ومنظور المؤلف.
عوالم داخليةفي النصوص اللاحقة مثل "المساء يطير غربا" سنلحظ حدة العبور والتحول حيث تضيء أكثر صورة المثقف المكتئب والمحبط وكأنها تمثل حالة النضج التي وصل إليها ذاك الطفل، حيث يأتي في مقطع من القصة "بارع أنت في استشراف الأبعاد النفسية لطبيعة الوجوه البشرية، لا ترى من "جمالهم" إلا مقدار ما فعل الزمكان بعوالمهم الداخلية فهذبها وأكسبها بعدا إنسانيا، أو ربما حطمها فأكسبها مأساوية".
سنجد في قصة "الخريف والشبابيك القديمة" حالات أكثر حدة وعمقا لهذا المثقف، كما ستنتقل شخصية "عدنان" من المدينة التي شهدت صباه إلى تلك المدينة التي تقترب أوصافها من عمّان التي "تخذلها بالضجيج والأقنعة المستعارة" بوحشتها وبراعاتها على تخريب الناس والعلاقات بينهم، وسيحاصرها الحنين من جهة وتهمين عليها نزعة تأملية تشاؤمية من جهة أخرى.
تتلخص حالة العبور من الطفولة والرومانسية والبراءة والجموح إلى النضج وعالم الكبار، ومن الريف وإربد إلى العاصمة عمّان، ومن الطالب في بداياته إلى المثقف بما يمتلك من تصورات ومقولات ناجزة، بما يكتبه جلعاد في القصة نفسها: في الزمان الجميل كان عدنان أيوب يرى أن الطيور هي الإنسان عاشقا، وفي ما بعد أصبح الطيران يعني له أكثر من ذلك، إنه الخلاص العظيم، لكنه في الآونة الأخيرة صار يتجنب الأماكن العالية ليس لأنه عال بما يكفي، وإنما خوفا من أن يرمي نفسه في أي لحظة.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
صنعاء في قبضة الطابور الناعم.. العبور إلى الظلام يوثق تغلغل الحوثي في المنظمات الدولية
كشف كتاب بعنوان "العبور إلى الظلام" عن شبكة النفوذ الناعمة التي نسجتها ميليشيا الحوثي داخل المنظمات الدولية ولوبيات ما يسمى بـ"السلام الزائف"، مستخدمة هذه المنصات كغطاء شرعي لتمرير أجنداتها، وتوسيع قبضتها السياسية والمالية داخل اليمن وخارجها.
الكتاب الصادر عن منصة "فرودويكي" في يونيو 2025، قدم قراءة صادمة لكواليس الصراع في اليمن، حيث ينتقل من مشهد الحرب الظاهر إلى ما وراء الستار، كاشفًا شبكة معقدة من النفوذ الحوثي داخل المنظمات الدولية، والطرق التي تحولت بها مؤسسات إنسانية وحقوقية إلى أدوات شرعنة لسلطة الميليشيا. ويركز على اختراق الحوثيين للمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، من خلال تعيين أفراد مرتبطين بالميليشيا في مواقع مفصلية.
وأوضح: "إن الحوثيون تمكنوا، لا سيما منذ العام 2015، من التغلغل في المنظمات الدولية العاملة في اليمن، عبر أفراد محسوبين على الجماعة أو مقربين من قياداتها. هؤلاء الأفراد احتلوا مناصب رئيسية داخل المؤسسات الإنسانية الدولية، واستغلوا مواقعهم لتوجيه التمويل، والتحكم بالسرديات الإعلامية، بل وللضغط السياسي نحو شرعنة الجماعة المسلحة كـ"سلطة أمر واقع".
مؤلف الكتاب، الباحث عبدالقادر رازح، قدم أسماء أكثر من عشرة شخصيات تعمل كـ"طابور خامس" داخل هذه الكيانات، يقدمون المشورة، يوجهون الموارد، ويمررون المعلومات الاستخباراتية دعماً للحوثيين، في مشهد يعكس مدى التلاعب بالمساعدات الإنسانية وتحويلها إلى أدوات حرب ناعمة.
الكتاب لا يكتفي بالتحليل النظري، بل يقدّم قائمة تفصيلية بأسماء شخصيات تتولى أدوارًا حساسة في المنظمات الدولية بينما ترتبط فعليًا بميليشيا الحوثي. ويتتبع سجلات بعضهم الأكاديمية والوظيفية، كاشفًا فضائح تتعلق بالمؤهلات المزورة أو غياب المساءلة، ويطرح تساؤلات خطيرة حول غياب التحقيقات أو التغاضي الدولي عن هذه التناقضات.
كما يسلط الضوء على كيفية استغلال الحوثيين لعشرات المليارات من الدولارات التي قدمتها الجهات الدولية كمساعدات لليمن منذ 2015، والتي انتهى المطاف بجزء كبير منها في تمويل جبهات القتال أو دعم اقتصاد الحرب الحوثي، بدلاً من إغاثة المتضررين من الصراع.
وحذر من أن تمويلات بملايين الدولارات ضُخت منذ بدء الحرب في اليمن لصالح مشاريع إنسانية، إلا أن العديد منها استُغل لصالح الحوثيين من خلال شركات ومؤسسات واجهة، أو عبر تسعير أزمات مفتعلة كالمجاعة وانهيار الخدمات. وقد وثّق المؤلف حالات فساد كبرى في إدارة المساعدات، بما في ذلك فضيحة البيانات المضللة التي جرى رفعها إلى الأمم المتحدة بدون تحقق من صحتها، ما رسخ صورة قاتمة عن الحكومة الشرعية مقابل تمويه واقع الحوثيين.
ويناقش الكتاب ظاهرة "إعادة هندسة الخطاب الدولي" من خلال دراسات موجهة وتقارير مفخخة تصدرها مراكز بحثية محسوبة على الحوثيين أو ممولة بشكل غير مباشر، لتصوير الجماعة كـ"سلطة أمر واقع" تستحق التفاوض، بينما يتم التعتيم على جرائم الحرب والانتهاكات الحقوقية التي ترتكبها.
وأشار إلى أن "الهندسة السردية الدولية"، تمثلت في توجيه الخطاب الإعلامي والسياسي داخل المؤسسات الدولية بما يخدم مصالح الميليشيا. هذا التحول، بحسب الكتاب، حوّل المجتمع الدولي من مراقب محايد إلى شريك غير مباشر في إدامة الأزمة اليمنية، من خلال تمويل مشاريع تديم الوضع القائم، وتجاهل الانتهاكات، وتحييد الأصوات الوطنية المعارضة للحوثيين
الأخطر، كما يشير الكتاب، أن هذه الشبكات التي يصفها بـ"السرية" لا تكتفي بالتغلغل في المنظمات، بل تعمل على تشويه صورة الحكومة الشرعية، وتعطيل جهود استعادة الدولة، ما يشكل تهديدًا مباشرًا على سيادة اليمن واستقراره الإقليمي.
في خاتمته، لا يكتفي الكتاب بكشف الحقائق بل يطلق دعوة صريحة للمجتمع الدولي لإجراء مراجعات شاملة لممارسات المنظمات في اليمن، وإعادة تقييم من يمثل الشعب اليمني داخل هذه الهيئات، مؤكدًا أن التغاضي عن هذه الاختراقات يهدد جوهر العمل الإنساني ويفتح الباب أمام شرعنة جماعات مسلحة عبر "لوبيات إنسانية".
ودعا الباحث عبدالقادر رازح إلى تحقيقات مستقلة في الفساد وسوء الإدارة داخل المنظمات العاملة في اليمن، ومراجعة آليات اختيار ممثليها، وحماية برامج المساعدات من التوظيف السياسي. كما شدد على ضرورة فرض عقوبات على المتورطين في التلاعب أو دعم الميليشيات، بغض النظر عن مواقعهم أو جنسياتهم.
اضغط هنا لتحميل الكتاب رابط الكتاب