اتصلت بشقيقتى، وهى الأصغر فى رباعيتنا، ساعيا وراء توثيق معلومات عن جناح فى العائلة وردت سيرته فى دفتر ذكرياتى. يقف على رأس هذا الجناح اثنان من كبار تجار قاهرة المعز وتربطهما بى كصاحب هذا الدفتر قضيتان هما الأفراح وجمعة الوكالة.

لا علاقة لشقيقتى بجمعة الوكالة وبالفعل لم أشاركها فى تفاصيلها ولكن أعرف أنها تتذكر تفاصيل كثيرة تتعلق بالقضية الأخرى، أقصد أفراح وأعياد نصبت فى قصور هذا الجناح من العائلة.

سألتها فأجابت بجملة مفيدة من سردية طويلة لا يتسع لها حيز ما أكتب فيه هنا ولا حتى فى دفتر ذكرياتى.

أما جملتها المفيدة التى افتتحت بها شهادتها فنصها: «كنت فى الثامنة من عمرى عندما كانت أمى تفرض علينا أن نأكل فى بيتنا حتى نشبع قبل أن نتوجه جميعنا إلى فرح أو آخر من أفراح هذا الجناح من عائلة أبى. خافت أن تزوغ عيوننا وبطوننا على منظر الموائد المنصوبة ومحتوياتها الشهية فننسى ما نشأنا عليه من أخلاق ونتصرف بغير اتزان». أضافت الشقيقة العزيزة قائلة: «لغاية دلوقت يا أخويا، وبعد أكتر من ستين سنة، لا يزال منظر صينية الحمام المخلى وصوانى الحملان والديوك الرومى المحشية والحلويات الشامية المستوردة بالطائرة مطبوعا فى خيالى. حاجة زى صفحة من كتاب ألف ليلة وليلة. أرجع وأقول أمى كان ليها حق».

أذكر أفراحهم طبعا لنفس السبب الذى جاء فى مكالمة شقيقتى ولأسباب أخرى يأتى ذكرها فى صفحة أخرى من هذا الدفتر قد أعود إليها فى مناسبة لاحقة. الآن تلح القضية الثانية، قضية وكالة الموسكى. لا أعرف سببا مباشرا وراء هذا الاهتمام غير أن ابنتى الأصغر عادت أمس من رحلة عائلية إلى قاهرة المعز وساءها ما رأت من فوضى ساهم فى صنعها عشرات من مركبات التوك توك وقذارة ونفايات بلا حدود ولا معنى وضجيج هائل. كله، مع غيره من دوافع التوتر، أصاب طفلا من أطفال الرحلة «العائلية التثقيفية» بالهلع حتى البكاء. سمعت الشكوى حتى نهايتها وغطست فى الذكريات أقارن، ببعض التحيز ولا شك، لأيام وأيام.أصحاب الأفراح هم أصحاب وكالة تجارة فى الموسكى. هما شقيقان يمتان لوالدى بصلة قرابة وثيقة، فوالدى ابن خالتهما. خصص والدى لزيارتهما فى الوكالة يوم جمعة من كل شهر أصحبه فيها مشيا على الأقدام مرتديا أحدث وأغلى ثياب تنتقيها أمى. المسافة بين شارع سامى المتفرع من شارع خيرت فى لاظوغلى وشارع الموسكى لم تكن طويلة بمعايير ذلك الزمن. هى الآن طويلة جدا.أصارحكم بأننى وأنا فى العاشرة وما يزيد كنت أنتعش فى كل مرة بحفاوة ترحيبهما بنا. كنت وأنا فى سن المراهقة أتعامل عندهما وبفضلهما كرجل. يتعمدان تصديرى لمسئوليات كبار. كان والدى ينتهز فرصة وجوده فى الموسكى ليمر على وكالات يمتلكها أقارب آخرون فى الغورية والعطارين وسيدنا الحسين. يتركنى فى رعاية «ولاد خالته».

هناك من موقعى فى الوكالة مطلا على الرائحين والغادين ومستقبلا الزبائن والمراسلين ومنصتا إلى حوارات أهل الحى تدور بلغة التجارة والمال وبكثير من الصدق والأمانة، كلاهما قولا على الدوام وفعلا فى الغالب. أنا مدين لأيام الجمع هذه والوكالة وهؤلاء الناس. اطلعت فى رحابهم على معانى الأصالة فى المعاملات والجودة فى التصرفات. فاتنى أن أذكر أنه بعد صلاة الجمعة كنا نتهيأ لوجبة شهية من عند أصهارنا، عائلة الدهان، تتصدرها قطع رائعة من كباب الضأن، والأهم منها وأقصد شرائح ثرية من ضلوع الجدى قضت ليلتها مع عصير البصل فى «تنور» البيت حتى نضجت عند شروق الشمس واشتهت واشتهاها فم آكلها.كثيرا ما انبهرت فى أثناء ساعات وجودى بالوكالة بحلو الكلام الموجه لامرأة يلف جسدها الممشوق «ملاية لف» وعلى وجهها برقع سرعان ما يرتفع أو ينسدل تحت وقع تمتمات الغزل الرفيع ونغماته الساحرة.

علمت هناك أن للكلمة «الناطقة» معانى ورسائل لا تحكى عنها ولا تفشيها الكلمة «الساكتة». ترددت على مسامعى كلمة «يا حاج» كنداءات أكثرها فى الحقيقة «لهفات» أو «آهات» والحاج على الطرف الآخر مجامل بأدب أو متقبل فى خشوع مبهر. يتنازل فى الثمن متأثرا أو موحيا بالتأثر بينما الحقيقة غير غائبة عن عماله وشقيقه وفى غالب الأحوال عن الزبونة نفسها صاحبة الرسائل الناعمة. الحقيقة أن الزيادة فى السعر عند عرض البضاعة محسوب حسابها ومتوقع التنازل عنها. هنا فى هذا المكان وفى مثله تصبح التجارة نزهة ممتعة لكل أطرافها.كثيرا أيضا ما جرت بينى وبين المراسلين حوارات، وهذه متعة أخرى. يأتى المراسل ومعه حقيبة فارغة. يتقدم إليه عامل من العمال ليأخذها وفى الوقت نفسه يسلمه حقيبة مكدسة بالبضاعة. ينتقل بعدها المراسل إلى غرفة المحاسب ليدفع إليه بحصيلة ما باع ويحصل منه على أتعابه أو نصيبه حسبما اتفق. مهمة المراسلين بيع هذه البضاعة فى أنحاء ريف مصر. من أسمائهم وحواراتى معهم أدركت أنهم يهود. ومن نقاش وتدريب مع الحاج الكبير أدركت أنهم المفضلون لدى الوكالة «لأن بضاعتنا معهم هى الأكثر مبيعا». لا غرابة فى هذه الثقة فطبيب عائلتى الخاص كان يهوديا من سكان حى الظاهر. كلهم اختفوا فجأة بعد قنبلة سينما مترو. بعدها صار قريبنا صاحب الوكالة دائم الشكوى بسبب نقص عائد مبيعات الأرياف.

كان ابن عمى واحدا من مراسلى الوكالة المصريين. بدأ صغيرا فى الوكالة يعمل فى مختلف أقسامها. أظهر نبوغا فاشتغل مراسلا. تعرف على سوق المنسوجات القطنية وبخاصة سوق الملابس الداخلية وهى المنتجات التى تخصصت الوكالة فى تسويقها. استطاع بفضل اتصالاته ونبوغه الحصول على قرض من البنوك ليقيم مصنعا لإنتاج الملابس الداخلية للرجال. ساعدته الوكالة بعلاقاتها وضماناتها. قام المصنع وتوسع فى الإنتاج لتصبح شركته أحد أهم المنتجين والمصدرين للسوق العربية. أذكر أنه تحدث ذات يوم مع شقيقى الأكبر منى سنا وكان فى مثل عمره. قال له: «اترك الميرى يا ابن عمى وانضم لى نعمل سوا المعجزات»، تردد أخى ورفض بتأثير الوالد. بعد فترة قصيرة امتدت لمصنعه وكل شركاته يد التأميم فعاد صغيرا ولم يكبر مرة أخرى. من ناحية أخرى تقلصت أعمال الوكالة مع كبر سن مؤسسيها ثم بتقاعدهما. سافرت إلى خارج البلاد ولم أعد أسمع عن أفراح يقيمانها فى قصرهما بالعباسية، القصر الذى قضينا فى بعض جنباته أسعد لحظات طفولتنا ومراهقتنا.يصر دفتر ذكرياتى على تذكيرى بأننى عشت أياما سعيدة.

جميل مطر – الشروق نيوز

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: فى الوکالة

إقرأ أيضاً:

تداعيات ودروس

يخبرنا تاريخ المنطقة، أن الأحداث الكبرى مثل السابع من أكتوبر، له تداعياته الكبيرة أيضًا. يمكن أن نلاحظ ذلك على نحو خاص عند النظر لعام 1979 عندما هبت رياح الثورة الإيرانية، وأحداث حصار الحرم في مكة المكرمة في العام نفسه. وتأثير هذه الأحداث مع غيرها على صراع أهلي في باكستان! مع ذلك يتجاهل الكثيرون هذه العلاقات المعقدة، والتأثيرات المباشرة أو غير المباشرة إما على التركيبة السكانية إثر الهجرات أو النزوح، أو إيجاد حاضنة لأنواع من المقاومة لم تختبرها المنطقة، بالإضافة إلى تحولات أيدلوجية تمرُّ بها شعوب المنطقة، وصولًا لحالة من التطرف في بعض الحالات.

إلا أن الحروب والمزيد من العنف هو أكثر ما يطغى على سردية هذه التداعيات، ما يحدث في إيران اليوم في صراعها مع أمريكا وإسرائيل إنما هو امتداد للسابع من أكتوبر، كما أن للسابع من أكتوبر امتدادًا لأحداث أخرى سابقة ومنها الانتفاضات العربية 2010. ولعل ردود الفعل العربية على ما يعيشه قطاع غزة يشكل التمثيل الأبرز على الشخصية التي تتمتع بها هذه الدول خصوصا تلك التي شهدت انتفاضات أنتجت أنظمة ستتعامل بالطريقة التي شهدناها وعشناها لمدة سنتين الآن منذ بدء الإبادة الجماعية في غزة.

ورغم أن التاريخ لا يتقدم في خط مستقيم، إلا أنه يعيد إنتاج تنويعات على ظواهر بعينها، يتم تجاهلها، بدعوى أنها ستمر دون أن تترك أثرًا واضحًا خصوصًا مع الأدوات السلطوية التي تمتلكها الدول اليوم تلك التي تتعلق بالتكنولوجيا أكثر من أي أداة أخرى، إذ إن الدولة اليوم تستطيع متابعة كل حركة صغيرة عبر الرقابة التي تفرضها على الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها جميعًا.

لكن تاريخ المقاومة أيضًا يقول لنا إن الثغور دائما ما تكون هناك بانتظار من سيتمكن من إيجادها، وربما تكون تحديات الأمن السيبراني وشعور الدول بالأهمية الملحة لاحتوائها وتكوين جيش مجازي آخر هذه المرة يصطف في الغرف المغلقة.

إن تعاملنا مع التغييرات الكبيرة، يأخذ طابعًا يحاول التكيف مع الحالة، فيندر أن نتعامل مع الحادثة من خارجها؛ إذ إننا نعيشها وهذا يستدعي انتباهًا ويقظة داخل التجربة نفسها يصبح من الصعب صرفهما إلى موقع بعيد لقراءة التجربة وموضعتها حسب أهميتها. حصل هذا معنا عندما اجتاح العالم وباء كورونا، والآن يحدث هذا بالضبط عندما لا ندرك أننا نعيش لحظات تاريخية فارقة، ومنعطفًا سيغير الكثير في المنطقة والعالم.

لكن أي مسار سيأخذه هذا التغيير، هذا ما ينبغي أن نفكر فيه، وأن ندعو الدول العربية إلى إشراك شعوبها في التعامل مع هذه المرحلة وتداعياتها المستقبلية.

ربما علينا أن نفكر ببساطة أيضًا في «الدروس» المستفادة من مراحل تاريخية معينة. رغم أنني شخصيًا أرفض اختصار تلك الأحداث الكبيرة في دروس موجزة، خصوصًا فيما يتعلق بالأحداث التي لم تنته بعد، مثل الإبادة التي هي امتداد لنكبة 1948 لكن يمكن أن أضرب مثالًا آخر أكثر تمثيلًا لهذه الفكرة، استخدام الحكومة الأمريكية لمسألة تحرير النساء في أفغانستان لإقناع الرأي العام الشعبي بأهمية الحرب ضد أفغانستان، بالإضافة لاجترار مسوغات أخرى من قبيل أن أفغانستان دولة ثيوقراطية، وحكومتها دكتاتورية، وأن ما سيفعله الأمريكان بهذا التدخل، إنما يحرر المرأة والشعب أيضا.

ورغم أن المفكرين في الغرب أعادوا قراءة هذا الخطاب بعد ذلك في دراسات ما بعد الاستعمار، والتنويه لفظاعة هذه المسوغات، إلا أننا في الأيام الماضية، رأينا من يطلبون من أمريكا تحرير إيران من حكمها الثيوقراطي، واستبدادها، وهو الأمر الذي وصفه المفكر الإيراني الشهير حميد دباشي بالخيانة والتواطؤ مع العدو، حتى وهو ينطلق من موقف أيدلوجي يناهض النظام، إلا أنه يميز بين هذا والموقف من قوة إمبريالية قادمة لتحررنا من واقعنا التي تراه مشؤوما، بينما ينطوي على عملياتها تلك أهداف أخرى تخدم مصالحها فحسب.

مقالات مشابهة

  • سارة نور تتألق بإطلالة ناعمة باللون الزيتي على إنستجرام
  • مع بدء العام الهجري الجديد.. أجمل عبارات ورسائل التهنئة
  • ضغوط داخلية بإسرائيل لإنهاء الحرب على غزة
  • بعد 12 يوماً من النار | إيران تلملم جراحها وسط خسائر فادحة .. ورسائل متبادلة تسبق طاولة التفاوض
  • بلدية عجمان تنجز طرقاً داخلية في «الروضة 2»
  • تداعيات ودروس
  • في لقائه باللواء محمود توفيق.. وزير داخلية صربيا يشيد بجهود الشرطة المصرية
  • سيناريوهات داخلية لمواجهة التداعيات المُحتملة.. نواب: الدولة تضع نصب أعينها الشأن الداخلي واحتياجات المواطن.. ولجنة إدارة الأزمات جاهزة لمواجهة التحديات
  • شوربة الكريمة.. ناعمة وغنية بطعم لا يُنسى
  • عاجل: "داخلية البحرين" تحذر: إشغال الطرق الرئيسية عند الضرورة