الطاهر بن جلون: هدف إسرائيل مسح الفلسطينيين عن الوجود
تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT
فرنسا – اتهم الكاتب والروائي الفرنسي من أصل مغربي الطاهر بن جلون، الإسرائيليين بأنهم غير مهتمين بالسلام، وأن ما يحدث في قطاع غزة مأساة، وهناك ضغوط كبيرة في العالم لوقف الجريمة، مبينا أن خطة رئيس الوزرا بنيامين نتنياهو وجيشه هي مسح كل الفلسطينيين عن الوجود.
جاء ذلك في حوار أجرته الأناضول مع بن جلون، على هامش لقاء في جامعة أنقرة مع الطلاب والأكاديميين، تطرق فيها لعدة مواضيع من بينها التطورات في قطاع غزة.
والكاتب المغربي مؤلف معروف ولديه العديد من الكتب والروايات والقصص وحصل على جائرة غونكور الفرنسية، وترجمت عدة أعمال لها إلى لغات مختلفة منها اللغة التركية، وعقب الحوار اطلع على كتاب “الدليل” الذي أصدرته الأناضول لتوثيق الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة.
الهجوم على غزة
وفي معرض حديثه عما يجري في غزة، قال بن جلون “ما حدث في غزة هو ألم بالنسبة لنا، صحيح أنني أدنت علناً هجوم حماس في 7 أكتوبر من خلال مقال، لكن الشيء الفظيع هو أن إسرائيل تمنع وصول المساعدات الغذائية منذ 6 أشهر لقتل المدنيين والأطفال، وقبل كل شيء تجويع الشعب الفلسطيني”.
وأضاف “ما حدث في غزة مأساة وهناك ضغوط كبيرة في العالم لوقف الجريمة، خطة نتنياهو وجيشه هي تدمير كل الفلسطينيين وهذا هو بالتحديد هاجسه، قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين حتى لا يبقى فلسطينيون على وجه الأرض”.
ولفت إلى أن “الإسرائيليين لا يريدون أن تُستخدم كلمة الإبادة الجماعية لوصف أي شيء آخر غير الإبادة الجماعية لليهود، وعندما تقصف مستشفى أو مدرسة أو قرية بها عائلات نائمة وتذبح الجميع هذه أيضا إبادة جماعية”.
وأكد “المأساة هي أننا لا نستطيع أن نرى أي حوار وتفاوض يؤدي إلى تسوية، وهم لا يريدون ذلك، الإسرائيليون غير مهتمين بالسلام، ولذلك لا أعتقد أن هذه المأساة ستكون لها نتيجة إيجابية”.
رسالة إلى نتنياهو
وردا على سؤال إن كان لديه خطط لكتابة ما يجري في غزة أجاب بالقول “كتبت قصائد ومسرحيات عن فلسطين، ونشرت كتابا صغيرا في إيطاليا بعنوان الصرخة لأهل غزة، لأن البيئة لم تكن مناسبة للنشر في فرنسا، لقد شرحت 7 أكتوبر فأهانني أصدقائي العرب بسبب كتابتي عن هجمات حماس، ومن ناحية أخرى عندما نشرت نصوصي عن الجيش الإسرائيلي، هاجمني أصدقائي اليهود واتهمت بمعاداة السامية”.
وأضاف “أنا مثقف حر يقول ما يفكر فيه ولا أحاول إرضاء أحد، كإنسان أدين ما أراه كل يوم وأكتب هذا كل ما علي فعله، كما أنني كتبت رسالة مفتوحة إلى نتنياهو قبل شهر، ونشرت هذه الرسالة في عدة صحف”.
وأوضح “قلت لنتنياهو لقد خسرت الحرب لأنه حتى لو قتل الجميع، فإن فلسطين ستبقى هناك، والشعب الفلسطيني سيبقى موجودا إلى الأبد، فاتهمتني إحدى الصحف بأنني معاد للسامية، كتبت مقالة لشابة يهودية في صحيفة لوبوان أهانتني وشهرت بي”.
ولفت “هناك الكثير من ردود الفعل ضدي من إسرائيل، وكانت هذه رسالة وصلت إلى الأمم المتحدة وقرأها العديد من المسؤولين هناك، لقد اتصلوا بي من الأمم المتحدة بشأن هذا الأمر، ولا تزال الرسالة متداولة على شبكات التواصل الاجتماعي”.
الإسلاموفوبيا
وحول ظاهرة الإسلامفوبيا والإسلام، قال بن جلون “كتبت كتابا حدثت فيه الأطفال عن الإسلام، كما كتبت كتابا، حدثت ابنتي عن العنصرية،، ليس كأديب وكاتب وعالم اجتماع، بل كمواطن عادي ورجل عائلة، لتشجيع الأطفال الفرنسيين على فهم ما هو الإسلام، هذه مسألة تربية وتعليم”.
وأردف “لكن هناك قضايا كثيرة مثل الأحداث المتعلقة بالحجاب، وتحول الإسلام إلى أيديولوجية، والإرهاب، هناك خلط بين الإساءة في استخدام الدين الإسلامي وعقيدة الدولة الإسلامية، هناك نقص في المعرفة حول ماهية الإسلام في الغرب، وإظهار الإسلام بشكل مختلف، هناك عدد قليل جدا من الأشخاص الذين يمكنهم التحدث بصدق عن الإسلام”.
وبين “الإسلام كدين له صورة سيئة للغاية في فرنسا، هناك من لا يحب الإسلام والمسلمين، ومن يدافع عن العنصرية المناهضة للإسلام المعروفة بالإسلاموفوبيا، هناك الكثير من الناس يخافون من الإسلام، المثقفون والفنانون والكتاب في الغرب لا يهتمون كثيرا بالإسلام والسكان المسلمين”.
وشدد “لدينا أحزاب سياسية يمينية متطرفة تجعل من الإسلام موضوعا للكراهية، على سبيل المثال يقول صحفي سابق يدعى إيريك زمور، وهو ليس لديه حزب لكنه شارك في الانتخابات وسياسي موال جدا لليمين المتطرف، إن الإسلام يشكل خطرا على فرنسا، وأن المرأة المحجبة مسجد متحرك، قالها وكررها كثيرا، وأدين بالتحريض على الكراهية العنصرية لكن هذا لم يمنع انتشار المشاعر المعادية للمسلمين”.
الأدب التركي
وفيما يتعلق برأيه في الأدب التركي أفاد ابن جلون “كنت أقرأ يشار كمال عندما كنت صغيرا، وهو أشهر كاتب تركي في فرنسا، قرأت أعمال أورهان باموق وصديقي نديم غورسيل الذي يكتب بالفرنسية والتركية، أنا متعاطف جدا مع الثقافة التركية والسينما التركية”.
وأردف “هناك أوجه تشابه كثيرة بين المغرب وتركيا، حيث تحظى تركيا باحترام كبير في المغرب، ولها حضور على المستوى الصناعي والتجاري والحرفي، هناك علاقات كبيرة بين البلدين، وهذا أيضا ممتع”.
وقال أيضا “قد تفاجأ أن مسلسلا تركي تم بثه باللغة العربية في المغرب منذ حوالي 10 سنوات لقي استحسانا كبيرا، ولذلك فإن تركيا بلد مألوف وودود للغاية بالنسبة لنا”.
عشاق الدار البيضاء
وفيما يخص العمل الأدبي وتأثيراته، قال الكاتب “أعمل على تكملة روايتي عشاق الدار البيضاء التي صدرت العام الماضي، قصة عن الزواج في الطبقة الوسطى في المغرب المعاصر أذهب إلى هناك 4-5 أشهر في السنة”.
وأكمل “أحتاج إلى المغرب لأن معظم كتبي تدور حولها، عندما بدأت الكتابة واجهت أوقاتا عصيبة ولا زلت أواجه في النشر ولكن اعتدت عليها منذ أن كنا في طنجة عندما كنت صغيرا، لم يكن هناك سوى القليل من عوامل التشتيت، كانت هناك مكتبة فرنسية حيث كنت أستعير وأقرأ كتابين في الأسبوع”.
ولفت “قرأت بلزاك وفيكتور هوغو وجول فيرن وشعراء مختلفين، عندما بدأت الكتابة، الأشخاص الذين أثروا في أكثر من غيرهم لم يكونوا الكتّاب بل صانعي الأفلام، يتطلب أسلوب السرد القصصي منك الحرص على عدم إزعاج القارئ أو المشاهد، لقد ألهمني مخرجون سينمائيون عظماء مثل ألفريد هيتشكوك، وفريتز لانغ، وجون فورد”.
وأكد “نعيش في زمن المهاجرين في كل مكان، وسببهم سياسات الاستعمار والتخلف والسياسات العنصرية، والآن نضيف مشكلة المناخ إلى هذه الأسباب، وفي فرنسا كانت الهجرة نتيجة مباشرة للاستعمار، وفي الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ذهب الفرنسيون إلى الجزائر والمغرب وتونس للعمل في مصانعهم والحصول على الأيدي العاملة”.
وتابع “قررت الحكومة الفرنسية جمع المهاجرين وعائلاتهم معًا من منظور إنساني، كان للرجال العاملين الحق في إحضار زوجاتهم وأطفالهم، ومن تلك اللحظة ستبدأ ولادة جديدة وسيظهر جيل جديد ليس من المهاجرين، بل من أبناء المهاجرين، لقد عانى هؤلاء الأطفال من هذا الأمر بشدة، وشعروا أنه لم يتم الاعتراف والترحيب بهم بشكل صحيح، والتحقوا بمدارس ذات نوعية رديئة وأصبحوا في نهاية المطاف فرنسيين من الدرجة الثانية”.
الأناضول
المصدر: صحيفة المرصد الليبية
إقرأ أيضاً:
عندما يتحوّل الملعب إلى وطن (2)
د. ناهد محمد الحسن
تمهيد:
في الجزء الأول من هذه السلسلة، حاولنا قراءة المشهد الذي أحدثه المنتخب السوداني في بطولة كأس العرب، وكيف تحوّل الملعب إلى «وطن مؤقت» يجتمع فيه السودانيون في الخارج بحثاً عن لحظة أمان وهوية وانتماء، في زمن تفككت فيه الخرائط واشتد فيه تهديد الوجود الوطني. استند التحليل إلى نظريات الهوية الاجتماعية، والذاكرة الجمعية، والجماعات المتخيّلة، لنفهم كيف تصبح المباراة طقساً نفسياً يعيد للناس بعض ما سلبته الحرب منهم. يمكنكم الاطلاع على الجزء الأول من المقال هنا: https://share.google/yHMqkkXOp9p38RdSn
اليوم نواصل محاولة القراءة، ولكن من زاوية جديدة: لماذا أحدثت هذه المشاهد أيضاً لدى البعض غضباً، وسخرية، وتعليقات مريرة؟ ولماذا تحول الاحتفال إلى ساحة اتهامات، ومطالبات بالعودة للوطن، واتهام للجماهير بأنها “تستعرض” بدل أن “تناضل”؟ ولماذا خرج الناس من الملعب بمجرد استشعار الهزيمة و قبل انتهاء المباراة، بكى بعضهم و انهار البعض؟
لماذا يجرح البعضُ الفرحَ، حين يرى آخرين يحتفلون؟
وفقا لنظرية بيك المعرفية في علم النفس فإن المشاعر، الأفكار، الجسد، والسلوك بينهما علاقة وثيقة وتأثيرات متبادلة. فإذا مثلا أرسلت رسالة الى شخص ولم يرد وفكرت في أنه تجاهل رسالتك عمدا فإن هذه الطريقة في التفكير تجعلك تشعر بالضيق، الحزن وربما الغضب. وقد تدفعك هذه المشاعر والأفكار ربما لأن تتحدث عنه بسوء، تتجاهله ذا حدثك او تكون عدوانيا. لكن إذا فكرت ان هذا الشخص مشغول او ربما هو نائم او خارج المنزل او لم يجد وقتا ليرد فستتلاشى المشاعر السالبة وردود الفعل المصاحبة لها. هذا مثال شديد التبسيط فقط لنفهم أحيانا كيف نفكر ولماذا نشعر بهذه الطريقة او نتصرف بهذه الطريقة من منظور هذه النظرية التي تربط هذه التباينات في الشعور والمواقف الى حد كبير بما يعرف بالمعتقد المركزي، والذي تشكل عند الفرد منذ الطفولة وعبر تجارب تراكمية شخصية شكلت نظرته لنفسه وللآخرين وللعالم. قد يقل تقديره لذاته فترتفع حساسيته للرفض حقيقة كان او متوهما وتقل مناعته في مواجهته ان كان حقيقيا. وربما أيضا تعلمه تجاربه المتراكمة ان الآخرين لا يمكن الوثوق بهم والعالم مكانا غير آمن وغير ودي. لذلك يساعدنا التوقف دائما والتفكير قبل القيام بالفعل دائما لمراجعة الذات والمواقف على ان نتجنب الوقوع في ظلم أنفسنا وظلم الآخرين. وبالتالي تعجل الحكم على حالة الاحتفال في الملعب كأنها عدم اكتراث بمأساة الحرب في السودان، أو فهم ردود أفعال بعض الناس السالبة على انها غيرة، حسد او لها دوافع سياسية ربما يبتسر او يشوه الحقيقة. وسأحاول هنا ان أوسع دائرة الفهم والتشخيصات لنساعد أنفسنا على فهم ذواتنا وفهم الآخرين.
لا يمكن فهم التعليقات الغاضبة أو الساخرة على مشاهد الجماهير السودانية دون أن نرى الجرح الداخلي الذي تحمله. فالحرب لا تقتل البيوت فقط؛ إنها تخلخل الإحساس بالعدالة. من بقي داخل الوطن يعيش خوفاً وفقداً وإرهاقاً مستمراً، ويرى وطنه ينهار أمام عينيه. هذا يجعل مشاهد الاحتفال – ولو كانت دقيقة – تُقرأ لا كفرح جماعي، بل كنوع من (عدم الاكتراث). وهذه المشاعر كثيراً ما تحجبها اللغة المباشرة، فتخرج على هيئة: “ارجعوا وساعدوا في بناء الوطن”،“تتباهون بملابسكم ونحن نحترق هنا، “أين كانت وطنيتكم حين احتاجكم البلد؟”.
علم النفس يقول إن هذه الكلمات تحمل تحتها أربعة مشاعر مركزية: (1) شعور الخذلان: الناس داخل البلد يشعرون بأنهم تُركوا وحدهم. وعندما يكون الألم شديداً، يصبح من الصعب رؤية الآخرين يعيشون لحظات استقرار حتى ولو كانت لحظات مؤقتة رمزية داخل ملعب. (2) ما يعرف بالغيرة الحزينة (Grief-based envy): ليست غيرة من النعمة، بل غيرة من النجاة. إنّها أمنية دفينة: “ليتني كنت مكانكم”. وهذه المشاعر لا يعترف بها الناس بسهولة، ولا حتى بينهم وبين أنفسهم. (3) ضيق الهوية الجمعية: حين تكون الهوية تحت الضغط، يصبح أي سلوك مختلف بمثابة تهديد. الاحتفال يبدو وكأنه خروج من الصف، وكأن الانتماء الحقيقي يتطلب المعاناة فقط. لكن الناس يختلفون في طرائق تعبيرهم عن المعاناة وعن الوسائل التي يحاولون التأقلم بها ويحققون التوازن، والا لم قال الشاعر (لا تحسبوا رقصي بينكم طربا/فالطير يرقص مذبوحا من الألم؟).. هل هنالك احتمال ان يكون الملعب، طقوسه، الطريق المفضي اليه، التجمع الكبير لأناس يتشاركون ذات الوجع مساحة آمنة لمعالجة ألم وغبن مكبوت؟ لمحاولة الشعور ولو لحظة بالوطن، الانتماء والفرح والتضامن؟ (4) آلية دفاع نفسي اسمها لإزاحة (Displacement) وهي نقل الغضب من السبب الحقيقي (الحرب – الفقد – العجز – الألم) إلى هدف أسهل وأكثر قرباً: المشجعون. لذلك لا ينبغي أن نأخذ هذه التعليقات دائماً بمعناها الحرفي، فهي غالباً صدى لألم أكبر من أن يُقال مباشرة.
لماذا يحتفل الناس أصلاً؟ هل هنالك احتمال ان الجماهير تشتاق الوطن أكثر مما تستعرض؟ الاحتفال ليس استعراضاً، بل هو – في علم النفس الاجتماعي – محاولة لإعادة إنتاج الوطن داخل القلب. والجماهير السودانية ليست “متزينة” بقدر ما هي متشبثة. فمن يعيش في الغربة يحمل شعوراً قاسياً بالذنب وبالانفصال. وعندما يظهر المنتخب، يحدث ما يلي: تتشكل “نحن” واضحة ومباشرة، فيعود الصوت الجماعي المفقود. يختبر المغترب لثوانٍ إحساس “أنا جزء من شيء أكبر”. فيستعيد الإنسان صورة وطنه كما يحبّ أن تكون، لا كما دمّرته الحرب.
هذه المشاهد ليست منافسة للداخل، بل امتداد لجرح واحد يُعبَّر عنه بطريقتين مختلفتين: من في الداخل يصرخ ألماً، ومن في الخارج يصرخ شوقاً.
هزيمة المنتخب… لماذا كانت صدمة؟ لا اعتقد أن السودانيون بكى بعضهم لمجرد ان منتخبنا الوطني خسر مباراة. لقد بَكَوا لأن الهزيمة الرياضية لامست الهزيمة النفسية التي يعيشها الوطن نفسه. هناك ثلاثة مستويات لهذا الألم:
أولاً: التماهي العالي (High Identification) في نظريات الهوية الاجتماعية، كلما كان الفريق يمثل “الأنا الجمعية” في لحظة تهديد، أصبحت الخسارة تمسّ قيمة الذات مباشرة. شعور بهزيمة ذاتية على خلفية وطن مهزوم.
ثانياً: المثالية الدفاعية (Defensive Idealization) حين ينهار الواقع في الداخل، يبحث الناس عن “فوز ما” … أي فوز. وهذا يجعل سقف التوقعات غير واقعي تجاه المنتخب الذي يعاني ظروفاً مستحيلة. لا دوري مستقر، لا موارد، لا رواتب، لا بنية تدريب، ولا بلد آمن.
ثالثاً: الهزيمة كإعادة تنشيط للألم (Pain Reactivation)المباراة ليست مجرد مباراة؛ إنها آخر مساحة يأمل الناس أن يكسبوا فيها شيئاً. وحين يخسر المنتخب، ينهار هذا الملاذ الصغير. لكن من المهم أن نتذكّر: اللاعبون أنفسهم بشر، يحملون ضغط وطن كامل فوق أكتافهم. وقد يشعرون اليوم بالذنب والخجل والحزن أكثر مما نشعر نحن. من المهم تحويل الغضب إلى تضامن، لأن الدعم بعد الهزيمة قد يبني فريقاً، بينما السباب قد يساعد في هز ثقته بنفسه وهزيمته.
لماذا نغضب بسرعة هذه الأيام؟
الحرب تغيّر الجهاز العصبي للناس، الحرب تضع الجسم في حالة Hyperarousal، أي فرط استثارة عصبية. بها اليات هرمونية وعصبية يفرز فيها هرمونات كالأدرينالين الذي ينشط عند الطوارئ ليساعد الإنسان على مواجهة الخطر بالمواجهة، الهروب أو التجمد. وعلى هذه الآلية ان تتوقف مباشرة بعد انتهاء الخطر ليستعيد الجسم توازنه الطبيعي ووظائفه المعتادة. فكيف إذا كان الخطر والتهديد مستمرا بالوجود في مناطق النزاع، المعسكرات، النزوح، اللجوء، الشتات والأفق الذي يبدو مظلما. هذا يعني ان تنهك آلية الحماية في حالة الطوارئ هذه الجسد وتؤثر فيه. وهذا يؤدي إلى ما نستشعر من غضب سريع، حساسية مفرطة للنقد، رؤية التهديد في أي اختلاف، تقلّص القدرة على التعاطف، البحث عن أي “هدف قريب” لتفريغ القهر.
ولهذا يحدث: سبّ الجماهير، إهانة اللاعبين، الهجوم على أي اختلاف في الرأي، قراءة الاحتفال كخيانة، لكن هذه السلوكيات ليست طبيعة الناس… إنها نتيجة الحرب، لا نتيجة “فساد الأخلاق”.
كيف نخرج من هذه الدائرة؟
ما حدث ويحدث يجعلنا جميعا بحاجة إلى ثلاث مهارات نفسية أساسية للنجاة من آثار الحرب (1) إعادة تنظيم العاطفة (Emotion Regulation): علينا أولا التوقف قبل الهجوم، إدراك مصدر الغضب الحقيقي، تسمية المشاعر بدقة، وعدم إسقاطها على الآخرين. (2) الترفق بأنفسنا/ رحمة النفس (Self-Compassion)فما نختبره من ضغط و من تحديات يجعلنا نشكك في انفسنا و مقدراتنا. علينا ان نفهم أن ردود أفعالنا ليست بالضرورة ضعفاً، بل نتيجة ما نختبره من وجع.
الرحمة بالذات تفتح الباب للرحمة بالآخرين. (3) توسيع دائرة “نحن” أن ندرك أن الجماهير في الخارج ليست ضد الداخل، اللاعبون ليسوا أعداء الأمة، كلنا ضحايا للحرب، كلٌ بطريقته. كما ان التضامن ليس رفاهية، بل هو أداة للبقاء النفسي.
وهو الشيء الوحيد الذي يُعيد للناس إنسانيتهم حين تحاول الحرب انتزاعها.
خاتمة: ماذا يعني أن نحافظ على إنسانيتنا الآن؟
الحرب تدفع الناس إلى الحواف: حافة الغضب، وحافة اليأس، وحافة الشعور بالعجز. لكن جزءاً من النجاة هو ألا نسمح لها بأن تنتصر على الجزء الأرقّ فينا. عندما نهتف معاً وان من ملعب بعيد، نحن لا نهرب من الحقيقة، بل نحاول حماية ما تبقى منها داخل أرواحنا. الهتاف ليس استعراضاً…والاحتفال ليس خيانة…والحزن ليس ضعفاً…والغضب ليس شراً…جميعها محاولات بشرية للبقاء حين يشتدّ الخراب. نحن شعب واحد، جرح واحد، وأمل واحد… مهما فرّقتنا الجغرافيا.
الوسومد. ناهد محمد الحسن