جريدة الرؤية العمانية:
2025-06-27@14:32:53 GMT

"وَلَد جَرَيْدَة"

تاريخ النشر: 7th, April 2024 GMT

'وَلَد جَرَيْدَة'

 

د. صالح الفهدي

 

كُنتُ أَظنُّهُ مجرَّدَ أُسطورة لِمَا سمعتهُ من حكاياتٍ وقصصٍ عن شجاعته الفذَّة، وشهامتهِ المشهورة، حتى التقيتُ بحفيدهِ الصديق أحمد بن ياسر التوبي الذي تحدَّث عَرَضًا عنه، فأوقفتهُ عند اللَّقبْ، وكأنَّما وقفتُ أَمامَ بيتٍ فخم مكتنزٍ بالأسرارِ، والحكايات، والمواقفِ التي يفترضُ أن نقفَ عندها وننهل بقدرِ ما نستطيع، لنضيفَ إلى ما سمعناهُ قديمًا عن بطولاته النادرة، وشخصيَّتهِ التي تتَّسم بالبسالة، والجسارة، والبأس، يقول عنه حفيده الأكاديمي والباحث د.

معمَّر التوبي: "الشيخ علي بن حمد التوبي صاحب بيت العين الذي يعرفه العمانيون بـ"ود جريدة"، وكذلك لم يجدِ البريطانيون بدًّا من ذكر لقبه (أو كُنْيَته) الذي اشتهرَ به في كل ذكرٍ وإشارة له في وثائقهم السرية لتكون شاهدة على بطولاته وشجاعته، ولا عجب فهو أحد أهم أركان دولة الإمام سالم بن راشد الخروصي وقادتها".

وإلى اليوم لا يزال العمانيون يتمثَّلون بـ"وَلَدْ جْرَيْدَة" في مقارناتهم، أو مقارباتهم، أو مقاييسهم، أو أحكامهم فهو الشخصية الفذَّة التي جمعت الخصال الأصيلة التي يجدُ فيها العماني هُويته الأصيلة بما يكتنفها من سِماتٍ متميِّزةٍ، وقيمٍ متفرِّدة.

لقد حفظتُ قصصًا عن "وَلَد جَرَيْدَة" ارتقتْ بهِ إلى مرتبةِ الأُسطورة، لكثرة ما يتمثَّل به العمانيون في شجاعته، ورجولته، وعزيمته، فهو قائدٌ وصف بأنه "أحد أهم أركان دولة الإِمام سالم بن راشد الخروصي وقادتها" فضلًا عن كرمه، وسخاء يده، ورغم ذلك فهو يتَّسمُ بالتواضع، ولينِ الجانب، مبتعدًا عن تفخيم الأنا، والتباهي بقوته وشجاعته أمام الآخرين، تاركًا للمواقف أن تُبينَ مهاراته، وتُظهر سِماتهِ.

كما وصفته حفيدته الروائية شريفة التوبية بقولها: "ولد جريدة .. شخصية حقيقية وليس أسطورة كما يعتقد البعض، واسمه علي بن حمد بن عامر التوبي، وكما يقال إنه ولد سنة 1880م على وجه التقريب، واشتهر هذا الرجل في زمانه بالشجاعة والجرأة والإقدام".

وإذا كانت حفيدته الروائية تستشهد في مستهلِّ إحدى رواياتها ببيت الشعر الشعبي المنتمي لفنِّ العازي والقائل:

«قُم بْنْ جْريدة مْن المماتْ

واحْيي عُصورًا ماضياتْ»

فإِننا نتوقَّفُ هُنا عند هذا النداء أو الطلب الذي نجدهُ سببًا لكتابةِ هذه المقالة عن "ولدِ جريده" لما اتَّسمتْ شخصيته من قيمٍ أصيلة يجدُ فيها الإِنسان العماني نفسه، ولهذا جعلها في موضعِ التمثُّل، ومرتبةِ المقارنةِ، ومنزلة المقاربة.

فالإنسان العُماني قد نشأ على قيمٍ أصيلةٍ صنعت له شخصيته الصلبة بما فيها من سمتٍ، ووقار، وهيبةٍ، وشجاعةٍ، وإقدامٍ، وشدَّةٍ، وتماسكٍ في وجهِ المحنِ والمعضلات، وصبرٍ على البلاء، وجسارةٍ في تحمُّل المسؤوليات، وجرأةٍ في الاضطلاعِ بالواجب، ونبذ الخَوَرِ، والخمول، والتكاسل الذي يراهُ من خوارمِ الرجولةِ، وإذا شئنا أن نجمع هذه الفضائل كلَّها في قيمة فإننا نقول إنها "المروءة" التي تعرَّف بأنَّها:" «استعمال كل خُلقٍ حسنٍ، واجتناب كل خُلقٍ قبيح» وقيل عنها: "المروءةُ اسمٌ جامعٌ للمحاسن كلِّها".

هذا هو جوهر الإنسان العُماني، وهذه هي أصالته، فهو نابذٌ لكلِّ صفةٍ لا تضيفُ إلى شخصيتهِ شدَّةً، وحزمًا، وكارهًا لكلِّ قيمةٍ لا تمنح نفسهُ معنى الرجولةِ، ونافرًا من كلِّ مزيَّةٍ لا تُنمي إليه خصالَ الكرامة، والإباءِ، والعزَّة.

وإذا كنَّا نرى بعض ما يشذُّ من مشاهدَ، ونماذجَ، ومواقفَ تصدرُ من البعضِ ولا تتوافقُ مع الشخصية التاريخية الأصيلة للإنسان العُماني فذاك شذوذٌ عن القاعدة، وانحرافٌ عن السيرةِ، وانعطافٌ عن الذات العمانية العريقة.

يتمثَّل العماني بـ "ود جريدة" وأمثالهِ لأنه ينتمي لهذا النموذج الأصيل من الشخصيات، ولأنه يستخفُّ من كلِّ متميِّعٍ، رخوٍ، متلاينٍ في لباسهِ، وكلامه، وفعالهِ، وجلوسهِ، ومشْيه، وصوتهِ، وأسلوبِ حياته، وكل ما يأتي به، وهو لا يطيقُ صاحبُ الشخصية الضعيفة، المبالغِ في ليْنِهِ، المفرطِ في تذلِّلهِ، المتجاوزِ حدود الأدبِ والتهذيب، المتعدِّي على قِيم الحياءِ والحشمة.

هذا هو العُماني الأصيل بشرفهِ الأصيل، وأصلهِ النبيل، ومَحتدهِ الجليل، ولهذا ليس بغريبٍ عليهِ أن يتمثَّل بـ"ولد جريدة" وكلَّ شهمٍ، أصيلٍ، نجيب لأنه يرى نفسه فيهم.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية

في بعض الوجوه تسكن أوطان، وفي بعض الأصوات تنام ذاكرة شعب بأكمله.. هناك وجوه لا تُنسى، لا لأنها لامست الشاشات، بل لأنها لامست القلوب دون استئذان.. أشرف محمود… ليس مجرد اسم لمعلق رياضي، بل حكاية مصرية تمشي على قدمين، رجل حين يتحدث، تسمع في صوته رائحة الشاي على مصطبة الجد في آخر النهار، تسمع أنين أبو الهول وصبر الفلاح، ودفء السلام عليكم من جارٍ لا يغلق بابه.

مؤمن الجندي يكتب: مهما صفق الواقفون مؤمن الجندي يكتب: عندما ينطق الوجه مؤمن الجندي يكتب: أزرار السوشيالجية مؤمن الجندي يكتب: بين العرق والذهب وصمت الكادحين

هو لا يعلّق على المباراة فحسب، بل يُمسك بالميكروفون كمن يُمسك بفرشاة ألوان، يرسم بها مشهدًا حيًّا تنقلك من الملعب إلى الحارة، من الهدف إلى الضحكة المصرية الخجولة، ومن تمريرة سحرية إلى حكمة قالها الأب زمان: "اللي ملوش كبير يشتري له كبير".

تراه فلا تتساءل عن معدنه، هو معدن "ابن البلد" النقي، صادق كالنيل، بسيط كالرغيف، نظيف كضحكة طفل في عز المولد.

أشرف محمود لم يجمّل نفسه، لم يصطنع شخصية، بل اختار أن يكون هو... فقط هو، وفي زمن يتصارع فيه الناس على الأضواء، كان هو الضوء ذاته، ضوءٌ يُشبه عيون أمك حين تدعو لك، ويُشبه نبرة أبيك حين يقول لك: "راجل يا ابني".

هو لا يركض خلف "الترند"، بل يمشي على خطى الكبار، لا يلهث خلف اللقطة، بل يصنعها بهدوء، كالفلاح حين يحرث الأرض.. يعلم أن الخير سيأتي.

أشرف محمود ليس ظاهرة صوتية، بل ظاهرة هوية وطنية.. هو مصر حين تتحدث بعقلها وقلبها ولسانها السمح، أثناء التعليق على المباريات.

في هذا الرجل تتجلى الهوية المصرية بكل ما فيها: بشهامتها، بكرامتها، بخفة ظلها، بجدعنتها، بحكمتها، بلغتها العربية، وبإيمانها العميق أن الأصل هو الأصل.. مهما تبدّلت الأزمان.


قبل النهاية، نحن في زمن امتلأت فيه الشاشات بالتصنع، والمنصات بالتصيد، لكن خرج هذا الصوت المصري الدافئ في بطولة مونديال الأندية، من الميكروفون لا يشبه إلا نفسه.. لا يستعير لهجة، ولا يبالغ في تعبير، ولا يتكلّف حماسة رغم خروجه عن شعوره.. لكنه فجأة! أصبح "تريند"، ولم يكن ذلك لأنه يملك خطة تسويق، أو فريق سوشيال ميديا محترف، أو يسعى خلف "اللايك والشير"، بل لأنه فقط قرر أن يكون كما هو: مصريًا جدًا.. بصوته، بكلماته، بنُكاته، بحماسه، وبهدوئه حين يجب أن يهدأ.

أشرف محمود لم يعلّق على المباريات فحسب، بل منحها طعمًا ولونًا ورائحة.. جعل المتابع يشعر أن المباراة تُلعب في ساحة بيتنا، وأن الهدف ليس مجرد كرة في الشباك، بل حكاية تُروى على القهوة، وضحكة تنطلق من القلب، وعصبية ابن بلد يعرف قيمة اللحظة.

لقد أصبح تريند.. لا لأنه أراد، بل لأن الناس اشتاقت لما يُشبهها.. وأشرف يشبهنا جدًا.

للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا

مقالات مشابهة

  • الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي على مبنى التلفزيون الإيراني
  • التوبي لـ"الرؤية": للموظف الحق في إجازة مدفوعة للمشاركة في الأنشطة الرياضية والثقافية والاحتفالات الرسمية
  • قصة الممثل المصري المسيحي الذي ألقى خطبة الجمعة على زملائه
  • انطلاق أعمال منتدى الاتصال الرقمي البريطاني العُماني في لندن
  • المنهج السياسي العُماني الحكيم
  • مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية
  • سليمان البوسعيدي رئيسا للاتحاد العُماني لكرة القدم للفترة 2025 - 2029
  • منتدى رجال الأعمال العُماني الجزائري يناقش جهود تعزيز الشراكات وآفاق التعاون الاقتصادي
  • الاتحادُ العُماني للرياضات المائية يكرّم منتخب السباحة الطويلة
  • سياسة جديدة لـ"الطيران العُماني"