عندما تأخذ مقطع من التاريخ اليومي و السياسي من تجربة الخمس أعوام الماضية، سنجد أن ما حدث في العام 2019م قد كان حدث تكتوني كبير، أشبه بتصادم ألواح.
حدث لم ينشأ منفصل عن سلسلة من الاضطرابات الواسعة في الرواسخ الأساسية لما يشكل الوحدات السياسية و الإجتماعية في السودان منذ أمد طويل.
هذا الحدث الذي يمكن تسميته حراك قد أفرز واقع و تاريخ بفعل ما أحدثه في البنية الكلية للدولة و المجتمع و تمثلات ذلك في السياق السوداني.
من هنا يأتي مدخل التعامل معه، لست مُنكر أنني بشكل شخصي ساهمت فيه بفاعلية تنظيمية و سياسية مثلي مثل آلاف الشباب، ولا أخفيكم أنني كنت صادق في كل ما فعلته. كانت النوايا كزهرات جميلة تدل على الخير. ولكن ما وصلنا إليه جعلها خناجر في صدر الدولة و المجتمع.
من هنا إنطلقتُ نحو ما يمكن القيام به بمسؤولية إتجاه الواقع الذي شكله الحدث، لقد ساهمنا في صعود نخبة سياسية فاشلة، وساعدنا في صعود مليشيا كادت أن تحكم بإنقلابها العسكري، ولن ننكر دور التدخل الخارجي والأحداث السابقة و أيضاً ما قام به النظام المعزول وتناقضاته.
كل ذلك قابل للإصلاح، وقابل لأن ينتج قيادة سياسية جديدة من روح هذه البلد، وأصيلة في تعاطيها مع السودان، تنظر إلى المستقبل من أفق المسؤولية الوطنية الخالصة.
كذلك هو الحال الذي يجب أن ينطبق بشكل كامل مع بقية الفاعلين خصوصاً الإسلاميين منهم، لأن سؤال ما العمل مرتبط بالتخلص من تركة الفساد و الشبكات السياسية الفاسدة التي كانت جزء من النظام المعزول. أيضاً سؤال المستقبل مهم وجزء أساسي من سياق ما يمكن القيام به لأجل السودان.
عن الجيل السياسي الذي يمكن مخاطبته، في معسكر قوى إعلان الحرية و التغيير يجب أن تقوموا بإصلاح سياسي واسع في بنية أحزابكم عليك تعريف الدولة و السلطة و النظام السياسي، وعزل قيادتكم الحالية بشكل كلي، هذا إن كنتم تريدون ممارسة السياسة مستقبلاً.
عن الذين جعلوا ديسمبر فردوسهم، عليكم أن تصحوا من هذه النشوة الزائفة، لقد جاءت الحرب لتيقظ حس المسؤولية السياسية لا يمكن بناء بلد بالشعارات و الهذيان و الفوضى التنظيمية و الوعي السياسي الفقير، لا يمكن حتى التسليم بأن ما تم كان سيبني هذه البلاد، عليكم الاستيقاظ من هذا الوهم الكبير، و القيام بالفعل من دافع وطني ومسؤولية سياسية.
ينتظر المفكرين و الكتاب و المثقفين و الطبقة المتعلمة في السودان بشكل عام مسؤوليات إجتماعية كبيرة و واسعة لا يمكن التعامل معها إلا من باب المسؤولية و التجرد، سوى ذلك سنشهد سقوط الدولة.
تبدأ السياسة بعد القضاء على المليشيا، و إستعادة الدولة، تبدأ السياسة عندما يجتث الفاسدين من بنية القوى السياسية، تبدأ السياسة عندما نضع حدود للتدخل الخارجي. ولن نتوقف عن الفعل و العمل لأننا مسؤولين مسؤولية تاريخية أمام أنفسنا و الأجيال المستقبلية فيما قمنا به.
حسان الناصر
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
الذهب وتمويل الحرب في السودان: من الفوضى إلى أدوات السيطرة
الذهب وتمويل الحرب في السودان: من الفوضى إلى أدوات السيطرة
عمر سيد أحمد
مقدمة: ماضٍ ملكي وثروة منسيةلآلاف السنين، كان الذهب محورًا للحضارات التي ازدهرت في ما يُعرف اليوم بالسودان، لا سيما مملكتي كوش ونبتة. سُمّيت المنطقة “نوبيا” أو “أرض الذهب” عند المصريين والإغريق القدماء، في إشارة إلى وفرة هذا المعدن وارتباطه بالسيادة والتجارة. وتشهد على ذلك النقوش في نبتة ومروي، والمسارات التجارية التي ربطت أسوان، حلفا، مروي، وسواكن (وزارة المعادن، 2024).
لكن ما كان مصدرًا للسيادة، أصبح في العقود الأخيرة وقودًا للفوضى والانقسام، حيث يُستغل الذهب لتمويل الصراعات، ويُهرّب في ظل ضعف مؤسسي وانهيار أجهزة الدولة (Global Witness، 2022؛ Chatham House، 2025).
الذهب: خزينة حرب بدلًا من مورد للتنميةرغم أن السودان يمتلك واحدة من أكبر احتياطيات الذهب في إفريقيا، إلا أن هذه الثروة تُستغل لتمويل الحرب والتهريب بدلاً من دعم الاقتصاد. تُقدّر التقارير أن الإنتاج الرسمي بين أبريل وأغسطس 2023 بلغ نحو 2 طن فقط، بينما يُهرّب ما بين 50% إلى 80% من الإنتاج الفعلي، خصوصًا عبر الإمارات العربية المتحدة (Sudan Tribune، 2023؛ Time Magazine، 2024).
ويُستخدم الذهب في تمويل كل من قوات الدعم السريع والجيش السوداني منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 (Chatham House، 2025).
الإنتاج والتصدير: أرقام مضللةشهد قطاع الذهب نموًا كبيرًا بعد 2010، وبلغ ذروته في 2016 بإنتاج بلغ 93 طنًا، لكنه تراجع لاحقًا ليصل إلى 34.5 طنًا في 2022، ثم ارتفع مجددًا إلى 65 طنًا في 2024 (وزارة المعادن، 2024). ومع أن الإنتاج ارتفع، انخفضت الإيرادات من 2.02 مليار دولار في 2022 إلى 1.6 مليار دولار في 2024، رغم ارتفاع أسعار الذهب عالميًا بنسبة 30% (مجلس الذهب العالمي، 2024).
تُشير هذه الفجوة إلى خلل في نظم التسويق والرقابة، ما يعزز فرضية التهريب واسع النطاق (Global Witness، 2022).
الاقتصاد الموازي، التلاعب والفسادأصبح الذهب أحد أعمدة الاقتصاد الموازي في السودان، حيث يتم تداوله خارج النظام المصرفي الرسمي، وتُدار كثير من الشركات من قبل جهات ذات نفوذ، بعيدًا عن الرقابة المؤسسية (مبادرة الشفافية السودانية، 2020). تشير تقارير إلى أن بعض الشركات المسجلة تشارك في التهريب بدعم من جهات أمنية، وتُمنح الامتيازات غالبًا بعلاقات سياسية لا بمعايير اقتصادية (سليمان، 2021؛ Africa Intelligence، 2023).
التهريب: الفجوة الأكبريُقدّر أن 70% إلى 80% من الإنتاج يُهرّب سنويًا عبر حدود السودان مع مصر، ليبيا، تشاد، وإفريقيا الوسطى، من خلال شبكات محلية ودولية (Sudan Tribune، 2023؛ Global Witness، 2022). وقد أصبح التهريب نمطًا مؤسسيًا، بتشابك مصالح بين أطراف داخل الدولة وخارجها (Chatham House، 2025؛ ICG، 2023).
الآثار البيئية والصحيةيرتبط التعدين التقليدي باستخدام الزئبق والسيانيد بطرق غير خاضعة للرقابة، ما يؤدي إلى تلوث المياه وتدهور التربة وانتشار الأمراض الجلدية والتنفسية، خصوصًا في ولايات نهر النيل، جنوب كردفان، ودارفور (WHO، 2023؛ BBC Africa، 2021؛ مركز الطاقة المتجددة، 2023).
الحرب: الذهب كوقود للنزاعمنذ 2023، أصبحت مناجم الذهب في دارفور وجنوب كردفان خاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة، التي تستخدم عائداتها لشراء السلاح وتمويل العمليات العسكرية (Chatham House، 2025؛ Global Witness، 2022). وقد أدى هذا إلى فصل المناجم عن سيطرة الدولة وتحويلها إلى “مناطق سيادية” خارجة عن القانون.
خسائر عقد من الذهب المهربتشير تقارير مستقلة إلى أن ما بين 50% و80% من الإنتاج يُهرّب خارج السودان، ما يحرم الدولة من إيرادات ضخمة (Global Witness، 2022؛ Sudan Tribune، 2023). بناءً على متوسط سعر الذهب العالمي عام 2024 (64,000 دولار/كجم)، فإن خسائر السودان خلال العقد الماضي تُقدّر بين 23 مليار و36.8 مليار دولار:
البند | الكمية (طن) | القيمة بالدولار |
الإنتاج الإجمالي (2014–2024) | 719.7 | 46.06 مليار |
التهريب بنسبة 50% | 359.85 | 23.03 مليار |
التهريب بنسبة 80% | 575.76 | 36.84 مليار |
وزارة المعادن، 2024؛ STPT، 2024؛ Chatham House، 2025)
من بوركينا فاسو… درس عمليقدّمت بوركينا فاسو تجربة رائدة في استعادة السيادة على قطاع الذهب، رغم ظروفها الأمنية الهشة. فمنذ عام 2022، شرعت الدولة في إصلاحات شملت:
تعديل قانون التعدين. تأسيس شركة وطنية لإدارة المناجم الكبرى مثل Boungou وWahgnion. إنشاء احتياطي ذهبي وطني.في 2025، ارتفع الإنتاج السنوي إلى 62 طنًا، وجمعت الحكومة أكثر من 11 طنًا من التعدين الحرفي خلال ربع واحد فقط (Chatham House، 2025). كما ساهم القطاع في تمويل الميزانية وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.
ما فعلته بوركينا فاسو ليس معجزة. بل هو نموذج عملي لما يمكن أن يتحقق في السودان إن توفرت الإرادة السياسية والرؤية الاقتصادية.
الإصلاحات العاجلةرقابة ذكية:
إصدار سندات ذهب مقابل الذهب المسلّم. إنشاء مراكز شراء متنقلة لتقليل التهريب. إطلاق منصة إلكترونية وطنية لعرض أسعار الذهب (STPT، 2024).إصلاح مؤسسي وهيكلي:
نشر عقود الامتياز والتقارير الإنتاجية. تجريم امتلاك أو تشغيل شركات تعدين من قِبل الجهات الرسمية. تعزيز التعاون الإقليمي لتفكيك شبكات التهريب (Global Witness، 2022؛ Chatham House، 2025).مقترحات استراتيجية:
سبائك ذهبية سيادية سودانية. سندات ذهب لتمويل مشروعات استراتيجية. مدينة الذهب السودانية. نموذج تقاسم الإنتاج. شركات مساهمة بين الدولة والمنقبين. جمعيات تعاونية للحرفيين. حصر التصدير والشراء بالبنك المركزي. مصفوفة استيراد وطنية مقابل الذهب. ربط التعدين بالطاقة المتجددة. بورصة سودانية للذهب والمعادن. الذهب كأصل ماليبورصة وطنية وسندات ذهبية تعني أن الذهب لم يعد وقودًا للفساد أو السلاح، بل أصل مالي قابل للتوظيف في إعادة الإعمار والاستثمار طويل الأجل (World Bank، 2022؛ Al Jazeera، 2023).
الخاتمة: استرداد الذهب من قبضة الفوضى- الذهب اختبار السيادةلم يعد قطاع الذهب في السودان مجرد مورد اقتصادي أو أحد فروع النشاط التعديني، بل أصبح اختبارًا حقيقيًا لسيادة الدولة، ولمدى صدق نواياها في الإصلاح وبناء مؤسسات وطنية حقيقية. إن الطريقة التي تُدار بها هذه الثروة ليست مسألة فنية أو إدارية فحسب، بل هي انعكاس مباشر لطبيعة السلطة، وشكل الدولة، وتوازن القوى داخلها.
إما أن يُدار الذهب بعقلية الدولة الحديثة — دولة القانون، والمحاسبة، والشفافية، والمؤسسات — أو يظل رهينة للفوضى، ومصدر تمويل للميليشيات، وأداة لشراء الولاءات وإدامة الصراع. وبين هذين الخيارين، تتحدد ملامح المستقبل الاقتصادي والسياسي للسودان.
الذهب في السودان اليوم يعكس عمق الأزمة الوطنية، لكنه يحمل في الوقت ذاته بذور الحل. فكما أنه غذّى الحرب، يمكن أن يكون وقودًا لإعادة البناء. وكما أنه مَثَّل موردًا مهدورًا لعقود، يمكن أن يتحوّل إلى أصل مالي واستراتيجي، إذا وُضعت له قواعد شفافة، وأُخضع لرقابة حقيقية.
التجارب الدولية تثبت أن هذا التحول ممكن. لقد فعلتها بوركينا فاسو، وسبقتها دول أخرى كانت تعاني ظروفًا مشابهة. لكنها لم تكتفِ بالإصلاح الإداري، بل تبنّت مشروعًا سياديًا يعيد للدولة دورها الطبيعي: أن تكون المنظّم والضامن والحامي للثروات العامة.
ما نحتاجه اليوم ليس قرارات معزولة أو إجراءات تقنية، بل رؤية وطنية شاملة تعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والموارد، بين المجتمع والثروة، بين السياسة والاقتصاد. بورصة وطنية شفافة، مصفاة حكومية مستقلة، مؤسسة رقابية فاعلة، وقطاع تعدين حرّ من سطوة الأجهزة — كل هذه ليست رفاهيات، بل شروط لبناء سودان جديد.
إن الذهب اليوم لم يعد مجرد ملف من بين الملفات، بل أصبح الامتحان الأوضح: إما أن ننجح ونستعيده لصالح الجميع، أو نتركه في أيدي تجار السلاح والدم، فيواصل دوره كأداة لتفكيك الدولة.
القرار الآن، والفرصة ما زالت قائمة — لكنها لن تنتظر طويلًا.
الصرخة الأخيرة: من يملك الذهب… يملك القرارفي بلد يُشترى فيه السلاح من عائد منجم، لم يعد الذهب مجرد ثروة طبيعية خام، بل تحوّل إلى أداة حاسمة في الصراع على السلطة والنفوذ. لم يعد الحديث عن الذهب في السودان نقاشًا اقتصاديًا، بل أصبح معركة على مستقبل الدولة نفسها.
اليوم، يقف السودان أمام قرار مصيري: إما أن تنتزع الدولة هذا المورد السيادي من قبضة الفوضى والفساد والتهريب، وتعيد توجيهه نحو البناء والإنقاذ، أو أن تواصل قوى السلاح والظل استخدامه كوقود للانهيار.
الخيار واضح. إما أن ننقذ الذهب ليكون ركيزة لبناء السودان الجديد، أو نتركه غنيمة لتجار الدم والسلاح.
المراجع والمصادرمصادر عربية:
وزارة المعادن السودانية. تقرير الأداء السنوي 2016–2024. وزارة المعادن. خطة تطوير قطاع الذهب. 2023. مركز الدراسات المستقبلية. قطاع التعدين التقليدي، 2020. سليمان، أحمد. اقتصاد الظل للذهب في السودان، المركز العربي، 2021. Sudan Tribune، تقارير متنوعة 2022–2024. STPT. تقرير الشفافية في قطاع الذهب، 2020. Al Jazeera Net، “ذهب السودان والاقتصاد الموازي”، 2023. Al Jazeera Net، “تعدين الزئبق في السودان”، 2022. مركز دراسات الطاقة المتجددة. 2023.مصادر دولية:
Chatham House، إنتاج الذهب خلال الحرب، 2025. Chatham House، السودان ونظام الصراع الإقليمي، 2025. Time Magazine، ذهب الدم وعلاقات السودان والإمارات، 2024. Wikipedia، الحرب الأهلية السودانية 2023–الآن. Global Witness، عسكرة الذهب في السودان، 2022. Global Witness، الشفافية والمحاسبة في قطاع الذهب، 2022. STPT. تعقب الذهب غير المشروع في السودان، 2023–2024. International Crisis Group، الذهب والحرب في السودان، 2023. WHO، أثر الزئبق في التعدين السوداني، 2023. BBC Africa، استخراج الذهب السام، 2021. World Bank، نظرة على اقتصاد السودان، 2022. World Gold Council، اتجاهات الطلب Q1 2024. Africa Intelligence، تقارير قطاع التعدين السوداني، 2020–2024.البريد الإلكتروني: [email protected]
التاريخ: مايو 2025
الوسومأفريقيا الذهب السلاح السودان بوركينا فاسو عمر سيد أحمد