عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية
تاريخ النشر: 16th, April 2024 GMT
خلال عام واحد فقط هو عمر العدوان الغاشم الذي تولت كبره مليشيا الدعم السريع نيابة عن دوائر وأحزاب ومنظمات ومراكز ودول ومخابرات وأجندة أجنبية، ضد الشعب السوداني لطمس هويته ونهب مقدراته وسرقة ثرواته، انقلبت الحياة بالكامل ووضعت حداً فاصلاً ما بين عهدين، الأول ما قبل الحرب والثاني ما بعدها، وأصبح تاريخ مابعد الحرب عهداً جديداً تداخلت فيه الأوراق والأهداف والوسائل والأفكار وأصبحت كل الأشياء ترى بالعين المجردة، ومن حيث أراد المعتدون تفتيت السودان وتمزيق نسيجه الإجتماعي، نجد أن الهوية الجامعة لأهل السودان تعززت بصمودهم وقاومت التيار العاتي المدعوم بأجهزة وأدوات وإمكانات كبيرة.
عام كامل صمتت فيه المساجد، وتعطلت الجامعات والمدارس والمسارح، وانهارات مبانٍ ومعالم، واستحالت المدينة إلى خراب، ونزح الناس في لمحة نظر هرباً من خطر الموت واحتموا بالولايات الآمنة وتخندقوا في ديار الجذور، وهاجرت المدينة بكامها إلى الريف، وتمازجت الثقافات وتقاصرات المسافات مابين وصل الرحم والبحث عن مصادر رزق فاستطالت أسواق ومصانع، وتعالت أصوات داعمة لإعادة توزيع الثروة، وتحققت أمنيات الهجرة العكسية فتحول لسان الصغار مع رياح القرية بشكل يصبح معه الفكاك أقرب إلى المستحيل مع هجران المدارس والمطالعة.
لقد حفظ “الريف” الوداد وفرش البساط أحمدياً وسحب الخصوصية وعادت معه تقاليد وتراث ومراسم كان الظن أنها اندثرت.
عام كان ثقيلاً علي المغتربين السودانيين، فقد تحملوا المسؤولية كاملة وتقاسموا الصرف المادي وكسبوا رهان المحبة والمحنة.
عام كامل غابت فيه نجوم ولاحت طيور في سماوات ملبدة بالغيوم.
عام مضي والجميع في امتحان شديد البلوى تمايزت فيه الصفوف وتساوت الظروف، ولم يعد أمام الشباب سوى الدفاع عن الأرض والعرض والشرف، فتسابقوا نحو المعسكرات للانضمام إلى شرف المقاومة الشعبية المسلحة حتي وصل الرقم إلى ما يقارب المليون مقاتل سطروا ملامح النصر القريب بإذن الله.
شهادة العصر قالها نجوم المجتمع وأهل الكفر والوتر في وقتها وشكلوا بها لوحة وطنية معهودة وظهروا في كامل البهاء والألق، ومع ذلك ضاعت وثائق ومخطوطات ومطبوعات وماتت أفكار وأشعار وأقوال.
لقد حاولت المليشيا ورعاتها محو التاريخ ونزع الحضارة وقتل الإبداع فقابلتها
الفنون بالتعبير المباشر أو الفلسفي، ولعبت دورها التاريخي وسارعت لتسجيل اسمها في لوحة الشرف بقائمة طويلة بينها علي سبيل المثال كمال ترباس وعاطف السماني ومحمد النصري وبلال موسي وعبد القادر سالم والنور الجيلاني وحسين الصادق واحمد فتح الله البندول وعصام محمد نور وندي القلعة وسمية حسن وهدى عربي وميادة قمر الدين وعشة الجبل وغيرهم. وفي المسرح تصدر المشهد مسرحية (الحصة وطن) التي عرضت في الشمالية وحمل الكوميديان كوجاك راية الصمود وتبعه شباب الدراما الحية.
ولم تصدر تقديرات الخسائر المادية في قطاعات الثقافة والفنون حتي الآن لأسباب تتعلق بضعف الهمة وقلة الحيلة وقصر النظر والانسياق وراء الشعارات الزائفة والحياد الداعم للمليشيا، غير أن الثابت هو دمار شامل طال المسارح خصوصاً المسرح القومي ومراكز الشباب ومنتديات التنوير ولم يبكِ أحد المهرجانات المسوقة لبضاعة الدول الغربية الماسخة التي لاتدعم هكذا دون مقابل ولاتنتج إلا بمقولة ظاهرة وبائنة بلوح الماسونية والمثلية والطعن في الدين وكريم القيم، وبذلك تعززت الهوية بمفارقة أموال المسؤولية الاجتماعية السائرة في ركب العولمة.
أما نجوم الكفر فقد كانوا في الموعد، فلمع الرشيد المهدية بقلمه وعقله وقلبه وتسيد هيثم مصطفى مشهد المدافعة ودخل كباتن القمة إلى الميدان أمثال مدثر كاريكا وسيف مساوي وأحمد بيبو وعمر سقاري وأكرم الهادي وعادل أمين وغيرهم من الذين حملوا شارة القيادة في السوح الخضراء.
عام من الحرب تجمد فيه النشاط الرياضي وانتقل الموسم بالهجرة الجماعية إلى ليبيا وتوزعت الإتحادات الأخرى المنضوية تحت راية اللجنة الأولمبية إلى دول الجوار تنظر بعين الخيل، وانعقدت مجالس أندية القمة في الفضاء تتخبط دون هدي وبلا برامج.
وتجاوزت الخسائر بحسب التقديرات الأولية المليار دولار جراء تدمير البنى التحتية منأاستادات وأندية ومراكز وملاعب ومداخيل واستحقاقات مالية، وتجمدت مناشط ظرفاء المدينة ولم تبادر المؤسسات الرياضية بخطة تأهيل علي الأقل لأستادي الهلال والمريخ
المحقق – محمد مصطفي المأمون
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
عودة إلى عهد «البشير» القمعي: هل المساءلة ممكنة في زمن الحرب؟
تتزايد الشكوك داخل المجتمع السوداني حول إمكانية المساءلة الحقيقية. يتساءل الكثيرون عما إذا كان السودان سيتمكن يوماً من معالجة قضايا التعذيب والعنف المدعوم من الدولة
التغيير: أمل محمد الحسن
في الوقت الذي يواجه فيه السودان موجة جديدة من الصراع العنيف، لا يزال ضحايا التعذيب في ظل النظام القمعي ينتظرون العدالة. وبينما تتعالى دعواتهم للمساءلة، يبقى النظام القانوني والسياسي في البلاد في حالة اضطراب مع عودة نظام أمن “البشير” بسلطاته القمعية وعودة عناصره إلى كافة الأجهزة العدلية، مما يترك الكثيرين يتساءلون عما إذا كانت العدالة ممكنة في بلد لم يُحاسب فيه أي فرد عن انتهاكات سابقة.
قتل تحت التعذيب
آخر ما تحتفظ به ذاكرة أسرة الشهيد “صلاح الدين” هو رؤيته معصوب العينين، مقيد اليدين، وملجوم الفم، ملقى على ظهر سيارة تابعة للاستخبارات العسكرية التي اقتادته إلى مدرسة العزازي الثانوية، التي حُولت إلى “بيت أشباح” (المنازل التي كان أمن البشير يعتقل فيها الناشطين السياسيين ويقوم بتعذيبهم). بعدها، لم تعرف أسرته ما جرى له، خاصة بعد أن أخبرهم الضابط المسؤول بأنه “هرب” ليلة اعتقاله، وفق بيان صادر عن حزب المؤتمر السوداني، حيث كان الشهيد رئيس فرعيته بمحلية 24 القرشي، ولاية الجزيرة.
وفي بيانه، قال الحزب إن أحد المفرج عنهم أخبر مقربين منه بمشاهدة الشهيد ملقى في الفناء، مضرجا بدمائه وفي حالة إغماء، مما دفع أهله وأصدقاؤه في المنطقة إلى محاصرة المسؤولين من الاستخبارات العسكرية والمطالبة بالإفراج عنه. وفي اجتماع صبيحة التاسع من مايو 2024، أبلغوهم بأنه تعرض للدغة عقرب أدت لوفاته ودفنه في العراء. لكن بعد نبش قبره بواسطة وكيل النيابة المسؤول والطبيب الشرعي الذي حضر من الدويم (ولاية النيل الأبيض)، وُجد شجٌّ في رأسه يؤكد تعرضه للضرب بآلة حادة، ما يشير إلى موته نتيجة التعذيب.
عدالة كسيحة
أيقظت قضية مقتل “صلاح الدين الطيب” ذكريات مؤلمة لضحايا آخرين، مثل الشهيد أحمد الخير، الذي تعرّض للتعذيب والاغتصاب حتى الموت في 2019 خلال الثورة التي أطاحت بالبشير. وتركت العائلتان لمواجهة روايات كاذبة؛ حيث زعم المسؤولون أن صلاح مات بسبب لسعات العقارب، بينما صرّح مدير عام الشرطة على شاشات التلفاز الرسمي بأن سبب وفاة الشهيد أحمد الخير كان “تسمما غذائيا” في محاولة لحماية الجلادين من العواقب القانونية.
وعلى الرغم من صدور حكم قضائي بإعدام 29 عنصراً من جهاز الأمن والمخابرات الوطني بعد إدانتهم بتعذيب وقتل الشهيد أحمد الخير، كأول حكم بشأن قمع المتظاهرين عقب الإطاحة بالبشير في أبريل 2019، لم يُنفذ هذا الحكم. وكشف مقتل أحد المتهمين خلال مشاركته في الحرب الحالية عن إطلاق سراح المطلوبين وعدم تنفيذ الأحكام ضدهم.
استمرار الإفلات من العقاب أدى إلى تكرار الجرائم؛ فبعد أربعة أشهر من مقتل الشهيد صلاح، شهدت ولاية كسلا مقتل الشاب الأمين محمد نور تحت التعذيب في معتقلات جهاز الأمن. وقد أدت احتجاجات واسعة إلى تسليم خمسة متهمين، بينهم ضابط وأربعة من أفراد المخابرات، للنيابة العامة للتحقيق في مقتله.
وفق بيان صدر عن لجنة أمن الولاية، استدعت اللجنة قيادات محلية وشبابية لمناقشة سبل احتواء الموقف وضمان عدم تفاقم الأزمة، مشيرة إلى اتخاذ خطوات عاجلة لرفع الحصانة عن المتهمين. وقد ساهم هذا في تهدئة التوتر الشعبي.
لم تتمكن “التغيير” من الحصول على إفادات من أسرتي الشهيدين صلاح والأمين، حيث رفضتا التحدث إلى الإعلام. ولم تصدر أي أنباء عن تطورات في محاكمة قتلة شهيد كسلا، التي تخضع لسيطرة الجيش.
عودة نظام البشير
تُعدّ حالات القتل تحت التعذيب، مثلما حدث للشهيدين صلاح والأمين، تجسيداً لعودة كاملة لنظام البشير، وفق ما صرّح به المحامي المعز حضرة، الناطق الرسمي باسم هيئة الاتهام في انقلاب 30 يونيو 1989. وأوضح أن انقلاب 25 أكتوبر 2021 أعاد عناصر نظام البشير “على استحياء”، لكن بعد حرب 15 أبريل ظهر النظام بصورة علنية بكل أجهزته.
المعز حضرة: حالات القتل تحت التعذيب التي حدثت لـ”صلاح” و”الأمين” تجسد العودة الكاملة لنظام البشير
وأشار حضرة إلى عودة نفس الممارسات القمعية، كقتل المتظاهرين السلميين باستخدام القوة المفرطة، مثلما حدث للشهيدة ست النفور. وأعرب عن قلقه من التحديات التي تواجه نظام العدالة، مؤكداً على ضرورة تحديث الأنظمة العدلية بعد توقف حرب 15 أبريل، في ظل انتشار الانتهاكات في كافة أنحاء السودان.
انعدام الأمل
مصدر عدلي رفيع، فضّل عدم الكشف عن اسمه، اتفق مع ما ذكره حضرة، مشيراً إلى استحالة تنفيذ العدالة والمساءلة في ظل الظروف الراهنة. وأكد أنه لن يكون هناك مساءلة إلا بإقالة النائب العام ووزير العدل ورئيس القضاء وتشكيل مجلس أعلى للقضاء والنيابة لضمان الاستقلالية.
مصدر عدلي رفيع: لن تكون هناك مساءلة إلا بإقالة النائب العام ووزير العدل ورئيس القضاء وتشكيل مجالس أعلى للقضاء والنيابة لضمان الاستقلالية
يعود تدهور المنظومة العدلية، بحسب محمد الفكي سليمان، الرئيس المناوب السابق للجنة إزالة التمكين، إلى التسيس طويل الأمد لمؤسسات الخدمة المدنية والقطاع الأمني في عهد “البشير”.
وأشار إلى أن النيابة العامة مسيسة بصورة أكبر من القضاء، وأن محاولات الإصلاح كانت متعثرة، مما اضطر لجنة إزالة التمكين إلى اتخاذ إجراءات حازمة لإحالة بعض القضاة ووكلاء النيابة للصالح العام.
محمد الفكي سليمان: بعض القضاة ووكلاء النيابة الذين أحالتهم لجنة إزالة التمكين للصالح العام عادوا لوظائفهم كضباط في جهاز المخابرات
وقال الفكي في مقابلة مع “التغيير” إن بعض القضاة ووكلاء النيابة الذين تمت إحالتهم للصالح العام عادوا إلى وظائفهم كضباط في جهاز الأمن والمخابرات ما يؤكد مستوى انتهاك الأجهزة العدلية في عهد البشير!
دور المجتمع الدولي
لم تمر محنة السودان دون ملاحظة من المجتمع الدولي؛ إذ دعت منظمات حقوقية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش إلى المساءلة، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق شخصيات في نظام البشير. وعلى الرغم من أهمية هذه الجهود، فإن المؤسسات الوطنية هي التي تلعب الدور الأساسي في تحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب، بحسب عبد الباسط الحاج، الباحث في منظمة وايامو.
خاتمة
تتزايد الشكوك داخل المجتمع السوداني حول إمكانية المساءلة الحقيقية. يتساءل الكثيرون عما إذا كان السودان سيتمكن يوماً من معالجة قضايا التعذيب والعنف المدعوم من الدولة، خاصة في ظل الانتهاكات المستمرة. لم يعد الأمر يتعلق فقط بالعدالة لجرائم الماضي، بل بما إذا كان السودان قادراً على بناء مستقبل يضع حداً للإفلات من العقاب.
الوسومالاستخبارات العسكرية التعذيب حرب السودان نظام البشير